2016 فرنسيًا... إرهاب وأزمات اجتماعية ومفاجآت سياسية

عندما رأى الفرنسيون صور الشاحنة الضخمة التي أثارت الذعر وزرعت الموت في «السوق الميلادية» في مدينة برلين مساء الاثنين 19 ديسمبر (كانون الأول)، عادت الذاكرة بهم سريعًا لما شهدته مدينة نيس، درة الشاطئ اللازوردي الفرنسي، ليلة 14 يوليو (تموز) الماضي.
شاحنة برلين السوداء أزهقت أرواح 12 شخصًا، بينما قتلت شاحنة نيس البيضاء 86 بريئًا ذنبهم الوحيد أنهم حضروا تلك الليلة إلى كورنيش المدينة المسمى «متنزه الإنجليز» للتمتع بصور الألعاب النارية التي أطلقت بمناسبة العيد الوطني الفرنسي.
محمد لحويج بو هلال، المواطن التونسي الذي بايع تنظيم داعش الإرهابي المتطرف - كما مواطنه «جاني برلين» أنيس العامري، وهو أيضًا تونسي الجنسية ومن جنود «داعش»، الخلافة» - قرر تلك الليلة أن يثير الرعب، وأن يقتل أكبر عدد من الأبرياء باسم «الخلافة» الداعشية المزعومة، وأن ينتقم من فرنسا ومما تمثله. جاءت «عملية نيس» لتثبت مرة أخرى أن التهديد الإرهابي الذي كانت فاتحته «عملية شارلي إيبدو» في شهر يناير (كانون الثاني) من العام الماضي، ما زال جاثمًا على صدر فرنسا، وأن حالة الطوارئ التي فرضت على البلاد عقب مقتلة ملهى الباتاكلان ومطاعم ومقاهي شرق العاصمة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، لم تكن كافية لتوفير الأمن والحماية للفرنسيين ولتضع حدًا للعمليات الإرهابية.
* حوادث بالجملة
فمنذ أول يناير وقعت في فرنسا ستة أعمال إرهابية منها ذبح كاهن كنيسة سان إتيان دو روفريه قرب مدينة كان خلال يوليو (تموز). وقبلها بشهر ذبح رجل أمن ورفيقة دربه في منزلهما في ضاحية مانيافيل الواقعة غربي العاصمة باريس. إلا أن جديد عام 2016 هو بروز ظاهرة «جهاد النساء» و«جهاد الفتيان». ففي سبتمبر (أيلول) ألقت القوى الأمنية على مجموعة نسائية كانت تخطط لعملية إرهابية كبرى في باريس وبعض منها حاول تفجير سيارة بقارورة غاز كانت قد ركنت إلى جانب كاتدرائية نوتردام التاريخية في قلب العاصمة. أما إرهاب «القاصرين» فقد تجلى من خلال القبض على اثنين في شهر سبتمبر كانا يخططان لعملية في العاصمة. ونقطة التلاقي بينهم وبين الخلية النسائية أن الجميع كان على تواصل مع رشيد قاسم، مشغّل الإرهابيين الفرنسيين الذي ظهر اسمه في كثير من الملفات. وقاسم معروف لدى الأجهزة الفرنسية، ولد في عام 1987 في مدينة روان بفرنسا، من أب يمني وأم جزائرية وهو وجه معروف في تنظيم داعش. وتعتقد الأجهزة الفرنسية أنه «المسؤول» عن كثير من العلميات الإرهابية التي ضربت فرنسا وأنه «المشغل» للكثيرين الذي اختاروا درب «الجهاد».
* قانون الطوارئ
لا تكفي هذه التفاصيل لتظهير حقيقة التهديد الإرهابي في فرنسا. ولعل أبلغ دليل على جديته أن قانون الطوارئ مدة إضافية وهو سيسري حتى شهر يوليو 2017. ويوفر هذا القانون الذي يحد من حرية التظاهر والتجمع، ويعطي الأجهزة الأمنية، خصوصًا، حرية كاملة في توقيف أيا كان، ومداهمة المنازل وأي مكان آخر، وفرض الإقامة الجبرية، وطرد من يُعد تهديدًا لأمن البلاد، مانحًا الشرطة والمخابرات حيزًا واسعًا من التحرك. وبحسب إحصائيات وزارة الداخلية، فقد تيسر في الأشهر تعطيل كثير من الخلايا الإرهابية النائمة وتوقيف 293 شخصًا على علاقة بها كما تم إغلاق أماكن عبادة وطرد أئمة اعتبروا متطرفين في خطبهم ونهجهم ودُعي المسلمون إلى مواجهة الآيديولوجية المتطرفة.
* تباينات الطبقة السياسية
في بدايات العمليات الإرهابية، وقفت الطبقة السياسية صفًا واحدًا وراء الحكومة، وبرزت الوحدة الوطنية بوجه الخطر الداهم بأبهى وجوهها. غير أن تكرار هذه العمليات واقتراب الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية والتشريعية أظهرا تشققات في بنيانها إلى درجة استغلالها في الهجوم على الحكومة، وعلى رئيس الجمهورية بالدرجة الأولى. وجاء الانقضاض من كل من اليمين الكلاسيكي واليمين المتطرف، وانتشر الخطاب المعادي للمهاجرين والربط بين الإرهاب والإسلام الذي لم يبق لفظيًا فقط، بل انعكس على اعتداءات على أماكن العبادة وعلى مصالح المسلمين. وبعدما اقترح الرئيس فرنسوا هولاند إجراء تعديل دستوري من شأنه السماح للسلطات بنزع الجنسية الفرنسية عن أصحاب الجنسية المزدوجة، اضطرت الحكومة للتراجع بسبب المعارضة التي جاءت من صفوف اليسار، مما أدى إلى استقالة وزيرة العدل كريستيان توبيرا.
* هولاند: نهاية الطريق
كان الإرهاب أحد الأسباب التي نسفت شعبية هولاند ودفعته في بداية شهر ديسمبر المنقضي إلى الامتناع عن الترشح لولاية ثانية، وهذه سابقة في تاريخ الجمهورية الفرنسية. ذلك أن أسلاف هولاند منذ الجنرال شارل ديغول - باستثناء الرئيس جورج بومبيدو، الذي مات بمرض السرطان قبل أن ينهي ولايته الأولى - سعوا للفوز بولاية ثانية، منهم من حالفه الحظ مثل ديغول وفرنسوا ميتران وجاك شيراك، ومنهم من فشل في البقاء في قصر الإليزيه (مقر الرئاسة). وهذا كان مصير الرئيسين فاليري جيسكار ديستان والرئيس السابق نيكولا ساركوزي. إلا أن الخيط الجامع بين هؤلاء أنهم جميعًا سعوا لتمديد عقدهم الرئاسي، بعكس هولاند الذي وجد نفسه في حالة وهن شديد، ليس فقط على الصعيد الفرنسي العام، بل حتى داخل صفوف الحزب الاشتراكي واليسار بشكل عام. وهو ما دفعه لتلافي هزيمة مريرة فضل عليها البقاء خارج السباق والاهتمام، كما قال، بأمن وسلامة الفرنسيين.
الحقيقة أن هولاند كان ضحية الخيانة السياسية التي لها وجهان: الأول هو وجه وزير الاقتصاد السابق إيمانويل ماكرون، والثاني وجه رئيس الحكومة إيمانويل فالس الذي ترك منصبه بداية الشهر الحالي ليكرس جهده للحملة الانتخابية التمهيدية داخل الحزب الاشتراكي.
ماكرون، وهو شاب عمره 38 سنة، صنيعة هولاند الذي عينه مستشارًا، ثم أمينًا عامًا مساعدًا لقصر الإليزيه، ثم وزيرًا للاقتصاد، كما وفر له الحماية، وسهر على صعود نجمه وآمن إيمانًا أعمى بولائه المطلق له. لكن ماكرون لم يتردد خلال الصيف الماضي في الاستقالة من منصبه، ومن ثم تأسيس حركة سياسية سماها «إلى الأمام»، ومن ثم رشح نفسه للانتخابات الرئاسية من خارج اليسار والحزب الاشتراكي.
ثم جاءت خيانة فالس، الذي رأى أن الفرصة سانحة ليأخذ مكان هولاند بحجة أن الأخير ضعيف، لدرجة أن اليسار لن يكون قادرًا على التأهل للمرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية.
واستغل فالس طويلا الكتاب الذي ألفه صحافيان من جريدة «لوموند» بالاستناد إلى ستين مقابلة في السنوات الماضية مع هولاند، ليقول ما معناه إن الأخير لم يعد جديرًا بالرئاسة، بسبب ما جاء في الكتاب من كلام مسيء بحق كثير من المسؤولين وما كشفه من أسرار لا يتعين أن تكشف. وللعلم، ذهب نائب يميني إلى تقديم شكوى ضد هولاند والمطالبة بتنحيته عن منصبه بسبب إفشائه أسرارا عن عمليات تصفية قامت بها الأجهزة الفرنسية في الخارج.
* تشرذم اليسار
في الحقيقة، نادرًا ما عرف الاشتراكيون واليسار الفرنسي الحالة الراهنة من التشرذم والتشظي. فخمسة من وزراء هولاند يتنافسون للفوز بترشيح الحزب الاشتراكي للانتخابات الرئاسية المقبلة. وبالنظر لما توفره استطلاعات الرأي من نتائج، فالواضح أن أيًا من المرشحين الخمسة لن يكون قادرًا على التأهل للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، مما سيعني حلول كارثة ستنعكس انشقاقات، وربما انقسامات داخل الحزب الاشتراكي.
وفي المقابل، فإن اليمين الكلاسيكي نجح في إجراء انتخاباته التمهيدية التي جاءت بمفاجأة فوز فرنسوا فيّون، رئيس الوزراء السابق، بينما كانت التوقعات ترجّح فوز إما رئيس الوزراء الأسبق آلان جوبيه أو رئيس الجمهورية السابق نيكولا ساركوزي. أما في معسكر اليمين المتطرف، فإن مارين لوبن، رئيسة حزب الجبهة الوطنية، تجد نفسها في وضع مريح. والمرجح أن تكرّر تجربة والدها الذي نجح في عام 2002 في التأهل للجولة الرئاسية الثانية بالتفوّق على مرشح اليسار ليونيل جوسبان.
ولا يخفي بعض المحللين منذ الآن قلقهم من الانتخابات المقبلة، إذ يرون أن نتيجتها ليست محسومة سلفًا كون حزب الجبهة الوطنية كسب في السنوات الأخيرة، بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية والإرهاب والمهاجرين والإسلام، شعبية متزايدة.
وهذا هو واقع الحال ليس فقط في صفوف البورجوازية اليمينية المسيحية، بل أيضًا في صفوف الطبقة العاملة والطبقات الدنيا حيث سجّلت هجرة كثيرين من أنصار الحزب الشيوعي واليسار المتطرف إلى صفوف الجبهة الوطنية.
* مخيم كاليه
أخيرًا، كيف يمكن المرور على عام 2016 من دون ذكر مخيم «الغابة» في ميناء كاليه - على بحر المانش - الذي طارت شهرته عالميًا بعد ذيوع صور البؤس والألم لآلاف من اللاجئين الذين سدت بوجوههم دروب الوصول إلى الجزر البريطانية؟
صغار ونساء ورجال حطوا رحالهم في هذه البقعة الواقعة إلى جانب مرفأ كاليه مقابل مرفأ دوفر على الشاطئ البريطاني. كثيرون ماتوا وهم يحاولون توقيف الشاحنات الداخلة إلى المرفأ للانتقال منه إلى بريطانيا، وآخرون ماتوا وهم يسعون للصعود إلى «القطار السريع» الذي يربط فرنسا ببريطانيا ويمر تحت مياه المانش.
«الغابة» أغلقه رجال الدرك والشرطة في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي ووزعوا ساكنيه - ما يزيد على 8 آلاف شخص - على خمسين مركز إقامة منشورة في المناطق الفرنسية، إلا أن كثيرين تركوها للتسكع في شوارع باريس والمدن الأخرى الكبرى.
وكيف يمكن المرور على هذا العام المنتهي دون التوقف عند مشاهدة كثير من العائلات السورية مع أطفالها التي افترشت أرصفة العاصمة أو ممرات المترو بحثًا عن عاطفة إحسان ورأفة غابت حتى في عز أعياد البذخ والاستهلاك؟
هكذا يطل عام 2017 على فرنسا وهي تتساءل عن مستقبلها وموقعها في عالم معولم كثيرة هي صوره السيئة. والتساؤلات أعم وأشمل وليس أقلها طرافة تظاهرات رجال الشرطة في شوارع العاصمة تنديدًا بظروف عملهم أو احتجاجات الممرضات أو المزارعين ومربّي الأبقار المطالبين بأسعار أعلى للحليب الذي ينتجونه.