الآثار الجيوسياسية لأزمة أوكرانيا

روسيا بوتين تحاول إثبات ذاتها بتحدي سياسات القوى الغربية

صورة تعود إلى مارس الماضي لأوكرانيين يتظاهرون تأييدا لوحدة أراضي بلادهم (أ.ب)
صورة تعود إلى مارس الماضي لأوكرانيين يتظاهرون تأييدا لوحدة أراضي بلادهم (أ.ب)
TT

الآثار الجيوسياسية لأزمة أوكرانيا

صورة تعود إلى مارس الماضي لأوكرانيين يتظاهرون تأييدا لوحدة أراضي بلادهم (أ.ب)
صورة تعود إلى مارس الماضي لأوكرانيين يتظاهرون تأييدا لوحدة أراضي بلادهم (أ.ب)

يمكن القول إن العلاقات الروسية - الأميركية وصلت إلى أدنى درجاتها منذ نهاية الحرب الباردة. فقد ترك تصرف روسيا الصادم بتجاهل سيادة أوكرانيا وغزو إقليم القرم واضعي السياسات حول العالم في حالة من الارتباك, إذ تشهد صور القوات الروسية المحيطة بالمنشآت العسكرية والمطارات على انتهاء محاولة «إعادة ضبط» العلاقات الروسية الأميركية، التي بدأت منذ خمس سنوات في قمة الدول العشرين التي أقيمت في لندن. ومنذ ذلك الحين، وبعيدا عن اتفاقية خفض السلاح النووي الجديدة وجولات التعاون الدبلوماسي بين حين وآخر، لا تشهد العلاقات بين الدولتين سوى التدهور.

ليس من الغريب أن تحدث هذه الانتكاسة في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين لروسيا. يأتي الغزو الروسي للقرم في فصل آخر جديد من ملحمة ما بعد الاتحاد السوفياتي المعروفة، التي يلجأ فيها الكرملين إلى التدخلات العسكرية في دول الاتحاد السوفياتي السابق التي أصبحت مستقلة، كوسيلة لإضعاف حكومات هذه الدول المجاورة وتحدي سياسات الولايات المتحدة والقوى الغربية عامة. ترمز عدم رغبة موسكو في المساعدة على حل الصراعات المستمرة في مناطق مثل ترانسنستريا، وغزوها العدواني لجورجيا في عام 2008، واعتداؤها الأخير على سيادة أوكرانيا باحتلال إقليم القرم، إلى مخططات روسيا لإعادة إثبات هيمنتها على نطاق إقليمي.
علاوة على ذلك، لا تقف هذه المحاولات لإثبات القوة عند الحدود القريبة من الاتحاد الروسي. في منطقة الشرق الأوسط، تستمر روسيا في دعم حليفتها القديمة سوريا: وتقدم غطاء سياسيا فعَّالا لإيران ومساعدة تقنية لبرنامجها النووي؛ وتسعى بانتهازية إلى تعميق علاقاتها مع مصر والأردن في المجالات التي تركتها الولايات المتحدة فارغة. إن ما تملكه المنطقة من مصادر الطاقة وأسواق الصناعة والسلاح المحتملة وتصدير الفكر الإسلامي المتطرف يجعل من الضروري للغاية عدم ترك المنطقة دون اهتمام.
وفي حين كان يجري الإعداد لاستراتيجية بوتين في استعراض القوة منذ عدة أعوام، فإنها أصبحت ذات تأثير في الوقت الحالي. تنبع جرأة صناع القرار في السياسة الخارجية الروسية من اعتقادهم بأن الإدارة الأميركية الحالية عاجزة عن القيادة والعزم الضروري لكبح أطماعهم؛ ولكن هذا مجرد حدس. في الوقت الحالي يضع واضعو السياسات الخارجية الأميركيون استراتيجيات بشأن كيفية تحقيق التوازن بين تطلعات روسيا الجيوسياسية التي تمثل تهديدا، وفي الوقت ذاته تقديم حوافز لروسيا للتعاون على نحو بنّاء مع المجتمع الدولي.

* التخندق في الخارج القريب
يجد واضعو السياسات والخبراء الأميركيون في شؤون الخارج القريب من روسيا أن التعامل مع طموحات بوتين بإعادة روسيا إلى مجد يشبه عهد الاتحاد السوفياتي هو التحدي الأول في السياسة الخارجية منذ أعوام وحتى الآن. أشار بوتين في عدة مواقف إلى أنه يعتبر سقوط الاتحاد السوفياتي أكبر مأساة حلت في القرن العشرين. تعيش دول الاتحاد السوفياتي المنهار بالإضافة إلى الدول التابعة له في ظل نفوذ روسيا منذ أعوام استقلالها الأولى. وعلى الرغم من تضاؤل النفوذ الروسي كثيرا في 11 دولة بعد عهد الشيوعية والتي أصبحت اليوم أعضاء في الاتحاد الأوروبي، فإنها ما زالت ذات أهمية بين الدول الأعضاء في الاتحاد السوفياتي سابقا. ما زالت بعض من هذه الدول بالفعل داخل نطاق النفوذ الروسي، لا سيما تلك الواقعة في آسيا الوسطى. وفي المقابل، يجاهد بوتين من أجل تعزيز هيمنة بلاده على دول جنوب القوقاز (جورجيا وأرمينيا)، بالإضافة إلى الدول التي تقع مباشرة على حدود الاتحاد الأوروبي، مثل مولدوفا وأوكرانيا. يظل النفوذ الغربي كبيرا في هذه الدول؛ كما تظل هناك آمال كبيرة في تحقيق تحول ديمقراطي ورغبة في تكامل أوثق مع الاتحاد الأوروبي.
أصبحت كل من أرمينيا وجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا في الوقت الحالي قطع شطرنج في الصراع العنيف الشهير الدائر بين روسيا والغرب. تشارك الاستثمارات الأميركية في التنمية الاقتصادية والتحول الديمقراطي في هذه الدول بنسبة كبيرة. وتؤدي هذه الدول، التي ما زالت في مراحل انتقالية، دورا جيوسياسيا مهما في الربط بين الغرب والشرق، وأوروبا وآسيا، وتعد منطقة عازلة بين روسيا وأوروبا. تمثل أوكرانيا بمفردها مركزا ذا أهمية قصوى لنقل الطاقة بين أوروبا وآسيا، ولروسيا على وجه التحديد.
من المعروف أن بوتين يملك نفوذا كبيرا في مجال الاقتصاد والطاقة والجغرافيا السياسية في الدول المجاورة لروسيا. وكان لفرض حظر على منتجات جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا نتائج مدمرة على اقتصاد هذه الدول في الماضي. ويظل ارتفاع أسعار الطاقة أو قطع إمدادات الطاقة كلية عن مولدوفا وأوكرانيا أداة أخرى شديدة الفاعلية تستخدمها روسيا. وكما هو الحال في معظم الدول في المنطقة، تعاني هذه الدول الهشة أيضا من قضايا تتعلق بوحدة أراضيها ويستمر وجود القوات المسلحة الروسية في مناطقها الانفصالية ليمثل مشكلة كبرى. منح دور حفظ السلام الذي عينت روسيا ذاتها لتأديته فرصة دخول لا تقدر بثمن عندما اندلع الصراع في إقليم أوسيتيا الجنوبية في جورجيا عام 2008. أسفر الصراع عن مقتل وتشريد الآلاف داخل الأراضي ذات السيادة الجورجية، خارج مناطق الصراع. وأدى ضعف رد الفعل الدولي مع عدم وجود إجراء من جانب الغرب لمعاقبة روسيا بسبب تدخلها غير المشروع إلى تعزيز اعتقاد بوتين بضعف وعجز الغرب.
في سبيل مواجهة محاولات الاتحاد الأوروبي للتوسع شرقا، أسس بوتين اتحاد أوراسيا الذي من المقرر أن يتكون رسميا في عام 2015. يضع الكيان الأول لهذه المبادرة، بقيادة روسيا، اتحاد الجمارك الأوراسي، روسيا البيضاء وكازاخستان من بين أعضائه. كما أدرج الاتحاد أرمينيا كمرشح للعضوية بعد أن قرر الرئيس سيرج سيركسيان الامتناع عن توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في سبتمبر (أيلول) عام 2013. استغل بوتين بفاعلية الصراع الدائر بين أرمينيا وأذربيجان في ناغورني كاراباخ لتقديم أجندته الخاصة. بعد أن لمح علانية لاحتمالية تصعيد الصراع في هذه المنطقة ببيع أسلحة إلى أذربيجان، استطاع إقناع سركسيان بترك المباحثات المطولة من أجل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي كانت تسبق قمة فيلنيوس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013.
بعد أن استمروا في الصراع من أجل تحقيق الاستقلال الكامل عن روسيا، أصبح قادة جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا مقتنعين بأن مصير استقلالهم في يد الغرب. لا يمكن ضمان نتيجة ذلك سوى بتحقيق مزيد من التكامل الذي لا يمكن الرجوع فيه مع الغرب؛ وبالتالي، يأتي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو على قمة أجندات حكومات هذه الدول.
بعد الاحتلال العسكري الروسي الحالي لإقليم القرم في أوكرانيا، والتهديد الواضح بغزو أجزاء أخرى من شرق أوكرانيا، أصبحت سيادة الدولة معرضة للخطر. تشكل أزمة أوكرانيا تحديا رئيسا للولايات المتحدة حيث إنها أدت إلى تدهور شديد في العلاقات الروسية الأميركية. وقد تحدث نتائج هذه الأزمة تغييرا كبيرا في ميزان القوى العالمي الراهن، ويعرقل النفوذ الأميركي خارج وسط أوروبا وشرقها أوراسيا. منذ عدة أشهر فقط لم يكن مسؤولون أميركيون ليعترفوا صراحة بفكرة أن هناك ما يشبه الحرب الباردة يدور الآن بيد أن المحللين يعترفون الآن صراحة بـ«لعبة الشطرنج» التي يلعبها بوتين ضد الغرب.
أصدرت واشنطن بيانات صريحة ضد تصرفات بوتين، وفرضت عقوبات على بعض الشخصيات من ذوي النفوذ في الحكومة الروسية بتجميد أرصدتهم الخارجية، وفرضت قيودا على سفرهم وسحبت تأشيراتهم. ووقفت الولايات المتحدة إلى جانب المجتمع الدولي الكبير في إدانة الاستفتاء الذي أجري في القرم لتقرير ما إذا كان الإقليم سيظل جزءا من أوكرانيا. وعلى الرغم من أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رفض هذا الاستفتاء، فإن حكومة القرم أجرت الاستفتاء غير الدستوري في 16 مارس (آذار). ووفقا للسلطات المساندة من جهة الروس في القرم، صوت 94 في المائة من المشاركين في استفتاء 16 مارس لصالح انفصال القرم عن أوكرانيا وانضمامها إلى روسيا. ردا على ذلك، تعهد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بزيادة العقوبات التي تستهدف شخصيات روسية أخرى مؤثرة. وفي 17 مارس، وقع الرئيس أوباما على قرار رئاسي يدرج قائمة بالشخصيات الروسية التي ستفرض عقوبات ضدها. تتضمن هذه القائمة المكونة من 11 اسما (تدرج قائمة الاتحاد الأوروبي 21 اسما) سياسيين وبرلمانيين روسا ومساعدي ومستشاري الرئيس بوتين بالإضافة إلى تجار أسلحة روس وداعمين ماليين رئيسين لأفراد في الحكومة الروسية. كما تضمنت قائمة الشخصيات التي فرضت عليها عقوبات الرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش الذي هرب إلى روسيا بعد توجيه اتهامات ضده.
يسري اعتقاد بين واضعي السياسات الخارجية الأميركيين بأنه ما زال من الممكن حل أزمة أوكرانيا عن طريق الدبلوماسية. المقصود من هذه العقوبات هو بعث رسالة قوية إلى القادة الروس والضغط على الحكومة من أجل التعاون مع المجتمع الدولي. ولكن تتسم المساعي إلى إيقاف روسيا المتهورة بأنها رد فعل بدلا من أن تكون جزءا من تخطيط استراتيجي، وفي ذلك عجز عن الانتباه إلى أن اعتداء موسكو الأخير على دولة أخرى مستقلة يعد جزءا من مبادرة أكبر يقودها بوتين لتعزيز فكرة أن الاتحاد الروسي طرف قوي على الساحة العالمية.
حتى الآن أثبتت جميع العقوبات التي فرضت بسبب سياسات بوتين في أوكرانيا أنها غير فاعلة. بعد الاستفتاء، صوت مجلس الدوما الروسي لصالح ضم إقليم القرم. وفي 18 مارس، وقع بوتين ومسؤولو حكومة القرم معاهدة لضم شبه الجزيرة إلى روسيا. وسوف تتم الاتفاقية بمجرد أن تقرها المحكمة الدستورية الروسية ويصادق عليها البرلمان الروسي. ويسبب هذا التطور الأخير قلقا بالغا لدى الغرب. يعني فشل العقوبات حتى الآن في الضغط على بوتين من أجل الالتزام بمطالب الغرب واحترام حق الشعب الأوكراني في تقرير مصيره، أنه يجب النظر في طرق أخرى لحل الأزمة. في الوقت الحالي، تشمل هذه الطرق استمرار المباحثات الأميركية مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي والناتو، ومن بينهم بولندا ودول البلطيق من أجل التأكيد على رغبة أميركا في دعم شركائها الدوليين وزيادة التكاليف التي تسددها روسيا جراء تصرفاتها غير المشروعة في إقليم القرم.

* العودة إلى التدخل في الشرق الأدنى
قبل بداية المواجهة السياسية حول القرم، كان أكبر نموذج على فشل محاولات ضبط العلاقات هو عجز القوى عن الوصول إلى طريق مشترك ذي نفع متبادل للمساعدة على إنهاء الحرب الأهلية الوحشية المندلعة في سوريا. وفي ظل توفر تقييم استخباراتي يكشف عن أن عملاء الحكومة السورية استخدموا عن عمد أسلحة كيماوية ضد سكانها المدنيين، بدأ مخططو السياسات الأميركيون في صياغة ردود محتملة لما يمكن أن يمنع شن مزيد من الهجمات من جهة الرئيس السوري؛ كان أحدها شن حملة قصف جوي لمواقع وقواعد عسكرية.
بعيدا عن هذه الأحداث المتلاحقة، امتد دعم موسكو المستمر للنظام السوري منذ عقود، بداية من عام 1970 تحت حكم حافظ الأسد واستمر مع تولي ابنه الرئيس الحالي بشار الأسد الحكم. بعد أن تحولت مظاهرات الربيع العربي السلمية في سوريا إلى عنف متزايد مع الاعتداءات العنيفة التي تقوم بها الدولة في صيف عام 2011، تزايد تدخل روسيا على المستويين المحلي والدولي. من وجهة نظر الكرملين هناك كثير من الأشياء المعرضة للخطر: منشأة طرطوس البحرية على ساحل البحر المتوسط في سوريا؛ ومصنعو السلاح الروس الذين يشكلون نسبة 48 في المائة من الواردات السورية أثناء توسعها المطرد في التسليح ما بين عامي 2006 و2010؛ وآخر حليف عربي جدير بالثقة في عالم ما بعد الحرب الباردة، والذي كانت روسيا تأمل من خلاله امتلاك نفوذ سياسي في الشرق الأوسط.
شن بوتين، الذي أزعجته احتمالات إضعاف الأسد عسكريا، حملة دبلوماسية لوقف القصف الوشيك، وسمح لوزير خارجيته بالتمسك بتعبير بلاغي صرح به نظيره الأميركي. منحت عدم رغبة أوباما في اتخاذ إجراء دون موافقة الكونغرس وقتا ومجالا للروس للتوسط في قرار مجلس الأمن رقم 2118، توافق بموجبه الحكومة السورية على التخلي عن أسلحتها الكيماوية، مما يلغي مبرر شن رد مسلح على المذبحة التي يرتكبها نظام الأسد ضد شعبه.
عدت جميع العواصم الغربية هذا الحل السلمي للأزمة تسوية ناجحة، وخطوة تجاه إعادة الروح إلى العلاقات، والتي كانت تلفظ أنفاسها بالكاد بسبب الخلافات حول الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا، والحماية التي قدمتها روسيا للموظف المتعاقد سابقا في وكالة الأمن القومي إدوارد سنودين الذي جرت إدانته؛ والطرق الدبلوماسية المسدودة بشأن الصراع السوري والبرنامج النووي الإيراني. ولكن ظهر التردد الأميركي في اتخاذ رد فعل أكثر حسما تجاه تجاوز «الخط الأحمر» في صورة ضعف العزيمة الأميركية.
كذلك كانت الحالة مع طهران، التي لم يقل دعمها للأسد قيد أنملة عندما وردت أنباء وقوع هجوم على غوطة دمشق. أدان الرئيس المنتخب حديثا حسن روحاني استخدام غاز الأعصاب سارين، ولكنه لم يحدد من المتورط في استخدامه. وبعيدا عن هذا الانتقاد، استمر إمداد إيران للقوات الموالية للحكومة بالمقاتلين والأسلحة والمال والدعم اللوجيستي دون توقف. وعكس انعدام خوف إيران من الرقابة الدولية بسبب دعمها للنظام الوحشي موقفا متجرئا يثق في أن واشنطن ستُبعد القصف الإسرائيلي وربما تكون مرنة في مفاوضات 5+1 التالية.
يرجع جزء من الفضل فيما تحقق من مكاسب إيران الأخيرة على الجبهة النووية، وتخفيف العقوبات، وما يتعلق بسوريا إلى مصالحها المتماشية مع مصالح موسكو، ويرجع أيضا إلى التخطيط الروسي. ومنذ عام 1995، صدّرت روسيا تكنولوجيا نووية إلى إيران، على الرغم من احتجاجات الحكومات الغربية. يشترك القادة الغربيون في مخاوفهم بشأن مسيرة المرشد الأعلى علي خامنئي المزعومة لتسليح برنامج بلاده للطاقة النووية. تفاقمت هذه المخاوف جراء المباحثات الجارية لإقامة مفاعل ثان يمد الحكومة الروسية بالنفط والنفوذ.
وفيما يتعلق بمجموعة الدول 5+1، قدم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف دعما راسخا لمساعي طهران لتخفيف العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا، في جزء كبير من حملة روسيا الواسعة لرفع العقوبات كوسيلة للحفاظ على النظام العالمي. وعلى صعيد سوريا، يتعلق التعاون الروسي مع إيران بتداخل المصالح بدلا من التخطيط للتدخل من الكرملين؛ بيد أن استخدام مبعوث روسيا لدى الأمم المتحدة بيدالي تشوركين المستمر لحق الفيتو حقق حماية فعالة للعرب والفرس من أعضاء هذا الثالوث الاستبدادي ضد اتخاذ إجراء أكثر حسما ضدهم في الجمعية العامة.
يجري تجديد العلاقات في مناطق أخرى في العالم العربي، تتضمن مصر الشريك القديم لروسيا. وفي ظل قرار إدارة أوباما بتقييد مبيعات الأسلحة إلى مصر في أعقاب إطاحة الجيش بالحكومة الإسلامية المدنية في يوليو (تموز) 2013، وجدت روسيا فرصة لسد هذا الفراغ. تلت زيارة وفد رفيع المستوى إلى القاهرة برئاسة الوزير لافروف في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، زيارة أخرى قام بها مؤخرا وزيرا الدفاع والخارجية المصريان - في أول زيارة رسمية منذ 40 عاما – من أجل إتمام صفقة سلاح تقدر بنحو ثلاثة مليارات دولار ومن المنتظر معرفة ما إذا كان الأمر مجرد صفقة أم تحولا أكبر في توجهات مصر. ولكنها تشير إلى منهج روسيا الاستباقي في إقامة العلاقات، كما حدث مع سوريا وإيران.
يأتي الأردن مثالا آخر. على الرغم من أن درجة الشراكة مع المملكة الهاشمية ومصر في عهد عبد الناصر تختلف بدرجة كبيرة (على سبيل المثال، لم يكن هناك 15 ألف خبير عسكري روسي متمركز في الأردن)، إلا أن العلاقات بين عمان وموسكو منفتحة وتشهد صفقات متبادلة منذ منتصف السبعينات، فيما عدا معارضة عمان العلنية لحرب الشيشان في الوقت الحالي، في مواجهة ازدياد احتياجات الطاقة وعدم وجود وسائل فعالة من حيث التكلفة لتلبيتها، أتمت هيئة الطاقة الذرية الأردنية الشهر الماضي عدة جولات من المباحثات تمهد نتائجها الطريق أمام «روساتوم» الروسية لإقامة أول مفاعل نووي في البلاد. قبل عامين، شكلت لجنة حكومية أردنية وروسية عندما كان بوتين في زيارة إلى عمان. وفي إطار سعيها إلى معالجة عجزها التجاري المزمن ورغبتها في زيادة تدفق السياحة، استمر تفاعل الأردن من خلال اللجنة مع نظرائها الروس.
تتشارك جميع الدول المذكورة آنفا معا في خوفها المبرر من التهديدات الأمنية للتفسيرات المتطرفة للإسلام والمنظمات الإرهابية السنية. من شمال القوقاز إلى شمال سيناء إلى غرب العراق، تجاهد كل هذه الحكومات لاحتواء الجماعات الجهادية والتخلص منها. تبلي روسيا - التي تستمر مخاوفها المبررة من تصدير مثل هذه الآيديولوجيا إلى سكانها من المسلمين الذين يشكلون قطاعا كبيرا - بلاء حسنا في دعم تلك الحكومات في المنطقة التي تعمل على منع انتشارها أيضا.
يتنوع نطاق تعاون روسيا مع دول الشرق الأوسط من اتفاقيات مشروعة (الأردن) إلى مبيعات السلاح إلى الحكومات المصرية، إلى تقديم دعم ثابت متعدد الجوانب إلى أنظمة استبدادية مثل (إيران وسوريا). الأمر المشترك في كل هذه الحالات هو تدخل روسيا الانتهازي عندما تكون هناك مساحة لتوسعة نطاق نفوذها ووقف أهداف السياسات الأميركية في المنطقة، دون أن تضع في اعتبارها معاملة هذه الحكومات لمواطنيها.

* اعتبارات السياسات الأميركية
لا تبدو نهاية الأزمة الأوكرانية قريبة، وسوف تستمر في اختبار فاعلية الدبلوماسية الغربية. وفي حين يحدو واضعي السياسات الأميركيين الآمال بأن تثبت العقوبات الراهنة المتاحة نجاحها في إجبار روسيا على الالتزام بمطالب الغرب، فإن هناك إجراءات أخرى محل دراسة مثل المساعدة على بناء الجيش الأوكراني. يدخل الاتحاد الأوروبي في مفاوضات جديدة مع الحكومة الأوكرانية المؤقتة للإسراع بتوقيع اتفاقية الشراكة، وتلتزم الحكومة الأميركية بإمداد أوكرانيا بقرض قيمته مليار دولار من أجل مساعدة اقتصاد أوكرانيا المتعثر.
يعتقد عدد قليل نسبيا من الخبراء الأميركيين أن بوتين يرتجل في القرم، وأنه يتخذ رد فعل على اتهام حليفه الرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش، ويستغل فرصة انعدام الاستقرار في البلاد. تقدم تصرفات بوتين الأخيرة في الخارج القريب، بالإضافة إلى نتائج الأزمة في سوريا، قصة لقائد استبدادي لديه استراتيجية كبرى بعيدة الأمد.
سوف تلقي تبعات عدم احترام روسيا لسلطة الحكومة في كييف بدرجة ما بآثار سلبية على الشرق الأوسط. وسوف تكون كلمة موسكو أقل مصداقية سواء في المفاوضات من أجل الوصول إلى حل ممكن للحرب الأهلية المأساوية في سوريا أو من أجل التسوية في قدرات إيران النووية. يمثل رفض بوتين سحب قواته من القرم مجرد قمة جبل الجليد. تحد الدولة التي تملك هذا الاستعداد المستمر للاستهانة بالقواعد الأساسية في النظام العالمي من ثقة أصدقائها وأعدائها على حد سواء.
ليس معنى ذلك عدم وجود بديل على المدى القريب. تملك سوريا قليلا من الحلفاء الذين يمكنها الاختيار بينهم، إن وجدوا؛ ومن المؤكد أنه لا يوجد من يملك مصالح ومخاطر مثل تلك التي تملكها روسيا. علاوة على ذلك، لن يمنع بوتين الأسد من اتخاذ إجراء مستقل في الداخل أو الخارج. وكذلك، لا تملك إيران أيضا نصيبها من الداعمين على الساحة العالمية وكذلك لن يكون مرجحا أن تغير موقفها في مواجهة الكرملين؛ ولكن ستقل احتمالات اعتماد الغرب على روسيا في أن تكون مُحكّما أو مشاركا في حل المفاوضات. ومع الانتخابات الرئاسية المقبلة في سوريا، يدعو الخبراء واشنطن إلى التركيز على الدولة التي مزقتها الحرب الأهلية، حتى لا يستفيد الأسد من الاهتمام الأميركي بأوكرانيا ويقوم بتزوير الانتخابات. ربما تحيي الحكومة الأميركية مباحثات السلام السورية من أجل وقف إراقة مزيد من الدماء، إذا تفوق بوتين في القرم وأعاد توجيه أجندته بتحدي نفوذ الغرب في الشرق الأوسط.
في إيجاز، أفضل ما يقوم به واضعو السياسة الخارجية الأميركيون هو حماية وتقديم المصالح الأميركية، بأن تشمل سياساتهم إثبات روسيا الاستباقي لذاتها في الجوار والخارج. وكما يشير بعض المحللين، تحتاج الولايات المتحدة إلى تحديد نهاية اللعبة وتطوير استراتيجية عملية لتحقيق هذه النهاية، اعترافا منها بأنه أينما وجدت حاجة أو فراغ، في الشرق الأوسط أو غيره من المناطق، سوف ينتهز الكرملين تحت قيادة بوتين الفرصة ليملؤه.

* ريتشارد كرايمر: أستاذ بالجامعة الأميركية، باحث مساعد في مشروع التحولات الديمقراطية في معهد أبحاث السياسة الخارجية في فيلادلفيا.
* مايا أوتاراشفيلي: باحثة مساعدة في معهد أبحاث السياسة الخارجية ومنسقة برنامج مشروع التحولات الديمقراطية (فيلادلفيا).



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري