الآثار الجيوسياسية لأزمة أوكرانيا

روسيا بوتين تحاول إثبات ذاتها بتحدي سياسات القوى الغربية

صورة تعود إلى مارس الماضي لأوكرانيين يتظاهرون تأييدا لوحدة أراضي بلادهم (أ.ب)
صورة تعود إلى مارس الماضي لأوكرانيين يتظاهرون تأييدا لوحدة أراضي بلادهم (أ.ب)
TT

الآثار الجيوسياسية لأزمة أوكرانيا

صورة تعود إلى مارس الماضي لأوكرانيين يتظاهرون تأييدا لوحدة أراضي بلادهم (أ.ب)
صورة تعود إلى مارس الماضي لأوكرانيين يتظاهرون تأييدا لوحدة أراضي بلادهم (أ.ب)

يمكن القول إن العلاقات الروسية - الأميركية وصلت إلى أدنى درجاتها منذ نهاية الحرب الباردة. فقد ترك تصرف روسيا الصادم بتجاهل سيادة أوكرانيا وغزو إقليم القرم واضعي السياسات حول العالم في حالة من الارتباك, إذ تشهد صور القوات الروسية المحيطة بالمنشآت العسكرية والمطارات على انتهاء محاولة «إعادة ضبط» العلاقات الروسية الأميركية، التي بدأت منذ خمس سنوات في قمة الدول العشرين التي أقيمت في لندن. ومنذ ذلك الحين، وبعيدا عن اتفاقية خفض السلاح النووي الجديدة وجولات التعاون الدبلوماسي بين حين وآخر، لا تشهد العلاقات بين الدولتين سوى التدهور.

ليس من الغريب أن تحدث هذه الانتكاسة في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين لروسيا. يأتي الغزو الروسي للقرم في فصل آخر جديد من ملحمة ما بعد الاتحاد السوفياتي المعروفة، التي يلجأ فيها الكرملين إلى التدخلات العسكرية في دول الاتحاد السوفياتي السابق التي أصبحت مستقلة، كوسيلة لإضعاف حكومات هذه الدول المجاورة وتحدي سياسات الولايات المتحدة والقوى الغربية عامة. ترمز عدم رغبة موسكو في المساعدة على حل الصراعات المستمرة في مناطق مثل ترانسنستريا، وغزوها العدواني لجورجيا في عام 2008، واعتداؤها الأخير على سيادة أوكرانيا باحتلال إقليم القرم، إلى مخططات روسيا لإعادة إثبات هيمنتها على نطاق إقليمي.
علاوة على ذلك، لا تقف هذه المحاولات لإثبات القوة عند الحدود القريبة من الاتحاد الروسي. في منطقة الشرق الأوسط، تستمر روسيا في دعم حليفتها القديمة سوريا: وتقدم غطاء سياسيا فعَّالا لإيران ومساعدة تقنية لبرنامجها النووي؛ وتسعى بانتهازية إلى تعميق علاقاتها مع مصر والأردن في المجالات التي تركتها الولايات المتحدة فارغة. إن ما تملكه المنطقة من مصادر الطاقة وأسواق الصناعة والسلاح المحتملة وتصدير الفكر الإسلامي المتطرف يجعل من الضروري للغاية عدم ترك المنطقة دون اهتمام.
وفي حين كان يجري الإعداد لاستراتيجية بوتين في استعراض القوة منذ عدة أعوام، فإنها أصبحت ذات تأثير في الوقت الحالي. تنبع جرأة صناع القرار في السياسة الخارجية الروسية من اعتقادهم بأن الإدارة الأميركية الحالية عاجزة عن القيادة والعزم الضروري لكبح أطماعهم؛ ولكن هذا مجرد حدس. في الوقت الحالي يضع واضعو السياسات الخارجية الأميركيون استراتيجيات بشأن كيفية تحقيق التوازن بين تطلعات روسيا الجيوسياسية التي تمثل تهديدا، وفي الوقت ذاته تقديم حوافز لروسيا للتعاون على نحو بنّاء مع المجتمع الدولي.

* التخندق في الخارج القريب
يجد واضعو السياسات والخبراء الأميركيون في شؤون الخارج القريب من روسيا أن التعامل مع طموحات بوتين بإعادة روسيا إلى مجد يشبه عهد الاتحاد السوفياتي هو التحدي الأول في السياسة الخارجية منذ أعوام وحتى الآن. أشار بوتين في عدة مواقف إلى أنه يعتبر سقوط الاتحاد السوفياتي أكبر مأساة حلت في القرن العشرين. تعيش دول الاتحاد السوفياتي المنهار بالإضافة إلى الدول التابعة له في ظل نفوذ روسيا منذ أعوام استقلالها الأولى. وعلى الرغم من تضاؤل النفوذ الروسي كثيرا في 11 دولة بعد عهد الشيوعية والتي أصبحت اليوم أعضاء في الاتحاد الأوروبي، فإنها ما زالت ذات أهمية بين الدول الأعضاء في الاتحاد السوفياتي سابقا. ما زالت بعض من هذه الدول بالفعل داخل نطاق النفوذ الروسي، لا سيما تلك الواقعة في آسيا الوسطى. وفي المقابل، يجاهد بوتين من أجل تعزيز هيمنة بلاده على دول جنوب القوقاز (جورجيا وأرمينيا)، بالإضافة إلى الدول التي تقع مباشرة على حدود الاتحاد الأوروبي، مثل مولدوفا وأوكرانيا. يظل النفوذ الغربي كبيرا في هذه الدول؛ كما تظل هناك آمال كبيرة في تحقيق تحول ديمقراطي ورغبة في تكامل أوثق مع الاتحاد الأوروبي.
أصبحت كل من أرمينيا وجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا في الوقت الحالي قطع شطرنج في الصراع العنيف الشهير الدائر بين روسيا والغرب. تشارك الاستثمارات الأميركية في التنمية الاقتصادية والتحول الديمقراطي في هذه الدول بنسبة كبيرة. وتؤدي هذه الدول، التي ما زالت في مراحل انتقالية، دورا جيوسياسيا مهما في الربط بين الغرب والشرق، وأوروبا وآسيا، وتعد منطقة عازلة بين روسيا وأوروبا. تمثل أوكرانيا بمفردها مركزا ذا أهمية قصوى لنقل الطاقة بين أوروبا وآسيا، ولروسيا على وجه التحديد.
من المعروف أن بوتين يملك نفوذا كبيرا في مجال الاقتصاد والطاقة والجغرافيا السياسية في الدول المجاورة لروسيا. وكان لفرض حظر على منتجات جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا نتائج مدمرة على اقتصاد هذه الدول في الماضي. ويظل ارتفاع أسعار الطاقة أو قطع إمدادات الطاقة كلية عن مولدوفا وأوكرانيا أداة أخرى شديدة الفاعلية تستخدمها روسيا. وكما هو الحال في معظم الدول في المنطقة، تعاني هذه الدول الهشة أيضا من قضايا تتعلق بوحدة أراضيها ويستمر وجود القوات المسلحة الروسية في مناطقها الانفصالية ليمثل مشكلة كبرى. منح دور حفظ السلام الذي عينت روسيا ذاتها لتأديته فرصة دخول لا تقدر بثمن عندما اندلع الصراع في إقليم أوسيتيا الجنوبية في جورجيا عام 2008. أسفر الصراع عن مقتل وتشريد الآلاف داخل الأراضي ذات السيادة الجورجية، خارج مناطق الصراع. وأدى ضعف رد الفعل الدولي مع عدم وجود إجراء من جانب الغرب لمعاقبة روسيا بسبب تدخلها غير المشروع إلى تعزيز اعتقاد بوتين بضعف وعجز الغرب.
في سبيل مواجهة محاولات الاتحاد الأوروبي للتوسع شرقا، أسس بوتين اتحاد أوراسيا الذي من المقرر أن يتكون رسميا في عام 2015. يضع الكيان الأول لهذه المبادرة، بقيادة روسيا، اتحاد الجمارك الأوراسي، روسيا البيضاء وكازاخستان من بين أعضائه. كما أدرج الاتحاد أرمينيا كمرشح للعضوية بعد أن قرر الرئيس سيرج سيركسيان الامتناع عن توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في سبتمبر (أيلول) عام 2013. استغل بوتين بفاعلية الصراع الدائر بين أرمينيا وأذربيجان في ناغورني كاراباخ لتقديم أجندته الخاصة. بعد أن لمح علانية لاحتمالية تصعيد الصراع في هذه المنطقة ببيع أسلحة إلى أذربيجان، استطاع إقناع سركسيان بترك المباحثات المطولة من أجل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي كانت تسبق قمة فيلنيوس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013.
بعد أن استمروا في الصراع من أجل تحقيق الاستقلال الكامل عن روسيا، أصبح قادة جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا مقتنعين بأن مصير استقلالهم في يد الغرب. لا يمكن ضمان نتيجة ذلك سوى بتحقيق مزيد من التكامل الذي لا يمكن الرجوع فيه مع الغرب؛ وبالتالي، يأتي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو على قمة أجندات حكومات هذه الدول.
بعد الاحتلال العسكري الروسي الحالي لإقليم القرم في أوكرانيا، والتهديد الواضح بغزو أجزاء أخرى من شرق أوكرانيا، أصبحت سيادة الدولة معرضة للخطر. تشكل أزمة أوكرانيا تحديا رئيسا للولايات المتحدة حيث إنها أدت إلى تدهور شديد في العلاقات الروسية الأميركية. وقد تحدث نتائج هذه الأزمة تغييرا كبيرا في ميزان القوى العالمي الراهن، ويعرقل النفوذ الأميركي خارج وسط أوروبا وشرقها أوراسيا. منذ عدة أشهر فقط لم يكن مسؤولون أميركيون ليعترفوا صراحة بفكرة أن هناك ما يشبه الحرب الباردة يدور الآن بيد أن المحللين يعترفون الآن صراحة بـ«لعبة الشطرنج» التي يلعبها بوتين ضد الغرب.
أصدرت واشنطن بيانات صريحة ضد تصرفات بوتين، وفرضت عقوبات على بعض الشخصيات من ذوي النفوذ في الحكومة الروسية بتجميد أرصدتهم الخارجية، وفرضت قيودا على سفرهم وسحبت تأشيراتهم. ووقفت الولايات المتحدة إلى جانب المجتمع الدولي الكبير في إدانة الاستفتاء الذي أجري في القرم لتقرير ما إذا كان الإقليم سيظل جزءا من أوكرانيا. وعلى الرغم من أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رفض هذا الاستفتاء، فإن حكومة القرم أجرت الاستفتاء غير الدستوري في 16 مارس (آذار). ووفقا للسلطات المساندة من جهة الروس في القرم، صوت 94 في المائة من المشاركين في استفتاء 16 مارس لصالح انفصال القرم عن أوكرانيا وانضمامها إلى روسيا. ردا على ذلك، تعهد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بزيادة العقوبات التي تستهدف شخصيات روسية أخرى مؤثرة. وفي 17 مارس، وقع الرئيس أوباما على قرار رئاسي يدرج قائمة بالشخصيات الروسية التي ستفرض عقوبات ضدها. تتضمن هذه القائمة المكونة من 11 اسما (تدرج قائمة الاتحاد الأوروبي 21 اسما) سياسيين وبرلمانيين روسا ومساعدي ومستشاري الرئيس بوتين بالإضافة إلى تجار أسلحة روس وداعمين ماليين رئيسين لأفراد في الحكومة الروسية. كما تضمنت قائمة الشخصيات التي فرضت عليها عقوبات الرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش الذي هرب إلى روسيا بعد توجيه اتهامات ضده.
يسري اعتقاد بين واضعي السياسات الخارجية الأميركيين بأنه ما زال من الممكن حل أزمة أوكرانيا عن طريق الدبلوماسية. المقصود من هذه العقوبات هو بعث رسالة قوية إلى القادة الروس والضغط على الحكومة من أجل التعاون مع المجتمع الدولي. ولكن تتسم المساعي إلى إيقاف روسيا المتهورة بأنها رد فعل بدلا من أن تكون جزءا من تخطيط استراتيجي، وفي ذلك عجز عن الانتباه إلى أن اعتداء موسكو الأخير على دولة أخرى مستقلة يعد جزءا من مبادرة أكبر يقودها بوتين لتعزيز فكرة أن الاتحاد الروسي طرف قوي على الساحة العالمية.
حتى الآن أثبتت جميع العقوبات التي فرضت بسبب سياسات بوتين في أوكرانيا أنها غير فاعلة. بعد الاستفتاء، صوت مجلس الدوما الروسي لصالح ضم إقليم القرم. وفي 18 مارس، وقع بوتين ومسؤولو حكومة القرم معاهدة لضم شبه الجزيرة إلى روسيا. وسوف تتم الاتفاقية بمجرد أن تقرها المحكمة الدستورية الروسية ويصادق عليها البرلمان الروسي. ويسبب هذا التطور الأخير قلقا بالغا لدى الغرب. يعني فشل العقوبات حتى الآن في الضغط على بوتين من أجل الالتزام بمطالب الغرب واحترام حق الشعب الأوكراني في تقرير مصيره، أنه يجب النظر في طرق أخرى لحل الأزمة. في الوقت الحالي، تشمل هذه الطرق استمرار المباحثات الأميركية مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي والناتو، ومن بينهم بولندا ودول البلطيق من أجل التأكيد على رغبة أميركا في دعم شركائها الدوليين وزيادة التكاليف التي تسددها روسيا جراء تصرفاتها غير المشروعة في إقليم القرم.

* العودة إلى التدخل في الشرق الأدنى
قبل بداية المواجهة السياسية حول القرم، كان أكبر نموذج على فشل محاولات ضبط العلاقات هو عجز القوى عن الوصول إلى طريق مشترك ذي نفع متبادل للمساعدة على إنهاء الحرب الأهلية الوحشية المندلعة في سوريا. وفي ظل توفر تقييم استخباراتي يكشف عن أن عملاء الحكومة السورية استخدموا عن عمد أسلحة كيماوية ضد سكانها المدنيين، بدأ مخططو السياسات الأميركيون في صياغة ردود محتملة لما يمكن أن يمنع شن مزيد من الهجمات من جهة الرئيس السوري؛ كان أحدها شن حملة قصف جوي لمواقع وقواعد عسكرية.
بعيدا عن هذه الأحداث المتلاحقة، امتد دعم موسكو المستمر للنظام السوري منذ عقود، بداية من عام 1970 تحت حكم حافظ الأسد واستمر مع تولي ابنه الرئيس الحالي بشار الأسد الحكم. بعد أن تحولت مظاهرات الربيع العربي السلمية في سوريا إلى عنف متزايد مع الاعتداءات العنيفة التي تقوم بها الدولة في صيف عام 2011، تزايد تدخل روسيا على المستويين المحلي والدولي. من وجهة نظر الكرملين هناك كثير من الأشياء المعرضة للخطر: منشأة طرطوس البحرية على ساحل البحر المتوسط في سوريا؛ ومصنعو السلاح الروس الذين يشكلون نسبة 48 في المائة من الواردات السورية أثناء توسعها المطرد في التسليح ما بين عامي 2006 و2010؛ وآخر حليف عربي جدير بالثقة في عالم ما بعد الحرب الباردة، والذي كانت روسيا تأمل من خلاله امتلاك نفوذ سياسي في الشرق الأوسط.
شن بوتين، الذي أزعجته احتمالات إضعاف الأسد عسكريا، حملة دبلوماسية لوقف القصف الوشيك، وسمح لوزير خارجيته بالتمسك بتعبير بلاغي صرح به نظيره الأميركي. منحت عدم رغبة أوباما في اتخاذ إجراء دون موافقة الكونغرس وقتا ومجالا للروس للتوسط في قرار مجلس الأمن رقم 2118، توافق بموجبه الحكومة السورية على التخلي عن أسلحتها الكيماوية، مما يلغي مبرر شن رد مسلح على المذبحة التي يرتكبها نظام الأسد ضد شعبه.
عدت جميع العواصم الغربية هذا الحل السلمي للأزمة تسوية ناجحة، وخطوة تجاه إعادة الروح إلى العلاقات، والتي كانت تلفظ أنفاسها بالكاد بسبب الخلافات حول الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا، والحماية التي قدمتها روسيا للموظف المتعاقد سابقا في وكالة الأمن القومي إدوارد سنودين الذي جرت إدانته؛ والطرق الدبلوماسية المسدودة بشأن الصراع السوري والبرنامج النووي الإيراني. ولكن ظهر التردد الأميركي في اتخاذ رد فعل أكثر حسما تجاه تجاوز «الخط الأحمر» في صورة ضعف العزيمة الأميركية.
كذلك كانت الحالة مع طهران، التي لم يقل دعمها للأسد قيد أنملة عندما وردت أنباء وقوع هجوم على غوطة دمشق. أدان الرئيس المنتخب حديثا حسن روحاني استخدام غاز الأعصاب سارين، ولكنه لم يحدد من المتورط في استخدامه. وبعيدا عن هذا الانتقاد، استمر إمداد إيران للقوات الموالية للحكومة بالمقاتلين والأسلحة والمال والدعم اللوجيستي دون توقف. وعكس انعدام خوف إيران من الرقابة الدولية بسبب دعمها للنظام الوحشي موقفا متجرئا يثق في أن واشنطن ستُبعد القصف الإسرائيلي وربما تكون مرنة في مفاوضات 5+1 التالية.
يرجع جزء من الفضل فيما تحقق من مكاسب إيران الأخيرة على الجبهة النووية، وتخفيف العقوبات، وما يتعلق بسوريا إلى مصالحها المتماشية مع مصالح موسكو، ويرجع أيضا إلى التخطيط الروسي. ومنذ عام 1995، صدّرت روسيا تكنولوجيا نووية إلى إيران، على الرغم من احتجاجات الحكومات الغربية. يشترك القادة الغربيون في مخاوفهم بشأن مسيرة المرشد الأعلى علي خامنئي المزعومة لتسليح برنامج بلاده للطاقة النووية. تفاقمت هذه المخاوف جراء المباحثات الجارية لإقامة مفاعل ثان يمد الحكومة الروسية بالنفط والنفوذ.
وفيما يتعلق بمجموعة الدول 5+1، قدم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف دعما راسخا لمساعي طهران لتخفيف العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا، في جزء كبير من حملة روسيا الواسعة لرفع العقوبات كوسيلة للحفاظ على النظام العالمي. وعلى صعيد سوريا، يتعلق التعاون الروسي مع إيران بتداخل المصالح بدلا من التخطيط للتدخل من الكرملين؛ بيد أن استخدام مبعوث روسيا لدى الأمم المتحدة بيدالي تشوركين المستمر لحق الفيتو حقق حماية فعالة للعرب والفرس من أعضاء هذا الثالوث الاستبدادي ضد اتخاذ إجراء أكثر حسما ضدهم في الجمعية العامة.
يجري تجديد العلاقات في مناطق أخرى في العالم العربي، تتضمن مصر الشريك القديم لروسيا. وفي ظل قرار إدارة أوباما بتقييد مبيعات الأسلحة إلى مصر في أعقاب إطاحة الجيش بالحكومة الإسلامية المدنية في يوليو (تموز) 2013، وجدت روسيا فرصة لسد هذا الفراغ. تلت زيارة وفد رفيع المستوى إلى القاهرة برئاسة الوزير لافروف في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، زيارة أخرى قام بها مؤخرا وزيرا الدفاع والخارجية المصريان - في أول زيارة رسمية منذ 40 عاما – من أجل إتمام صفقة سلاح تقدر بنحو ثلاثة مليارات دولار ومن المنتظر معرفة ما إذا كان الأمر مجرد صفقة أم تحولا أكبر في توجهات مصر. ولكنها تشير إلى منهج روسيا الاستباقي في إقامة العلاقات، كما حدث مع سوريا وإيران.
يأتي الأردن مثالا آخر. على الرغم من أن درجة الشراكة مع المملكة الهاشمية ومصر في عهد عبد الناصر تختلف بدرجة كبيرة (على سبيل المثال، لم يكن هناك 15 ألف خبير عسكري روسي متمركز في الأردن)، إلا أن العلاقات بين عمان وموسكو منفتحة وتشهد صفقات متبادلة منذ منتصف السبعينات، فيما عدا معارضة عمان العلنية لحرب الشيشان في الوقت الحالي، في مواجهة ازدياد احتياجات الطاقة وعدم وجود وسائل فعالة من حيث التكلفة لتلبيتها، أتمت هيئة الطاقة الذرية الأردنية الشهر الماضي عدة جولات من المباحثات تمهد نتائجها الطريق أمام «روساتوم» الروسية لإقامة أول مفاعل نووي في البلاد. قبل عامين، شكلت لجنة حكومية أردنية وروسية عندما كان بوتين في زيارة إلى عمان. وفي إطار سعيها إلى معالجة عجزها التجاري المزمن ورغبتها في زيادة تدفق السياحة، استمر تفاعل الأردن من خلال اللجنة مع نظرائها الروس.
تتشارك جميع الدول المذكورة آنفا معا في خوفها المبرر من التهديدات الأمنية للتفسيرات المتطرفة للإسلام والمنظمات الإرهابية السنية. من شمال القوقاز إلى شمال سيناء إلى غرب العراق، تجاهد كل هذه الحكومات لاحتواء الجماعات الجهادية والتخلص منها. تبلي روسيا - التي تستمر مخاوفها المبررة من تصدير مثل هذه الآيديولوجيا إلى سكانها من المسلمين الذين يشكلون قطاعا كبيرا - بلاء حسنا في دعم تلك الحكومات في المنطقة التي تعمل على منع انتشارها أيضا.
يتنوع نطاق تعاون روسيا مع دول الشرق الأوسط من اتفاقيات مشروعة (الأردن) إلى مبيعات السلاح إلى الحكومات المصرية، إلى تقديم دعم ثابت متعدد الجوانب إلى أنظمة استبدادية مثل (إيران وسوريا). الأمر المشترك في كل هذه الحالات هو تدخل روسيا الانتهازي عندما تكون هناك مساحة لتوسعة نطاق نفوذها ووقف أهداف السياسات الأميركية في المنطقة، دون أن تضع في اعتبارها معاملة هذه الحكومات لمواطنيها.

* اعتبارات السياسات الأميركية
لا تبدو نهاية الأزمة الأوكرانية قريبة، وسوف تستمر في اختبار فاعلية الدبلوماسية الغربية. وفي حين يحدو واضعي السياسات الأميركيين الآمال بأن تثبت العقوبات الراهنة المتاحة نجاحها في إجبار روسيا على الالتزام بمطالب الغرب، فإن هناك إجراءات أخرى محل دراسة مثل المساعدة على بناء الجيش الأوكراني. يدخل الاتحاد الأوروبي في مفاوضات جديدة مع الحكومة الأوكرانية المؤقتة للإسراع بتوقيع اتفاقية الشراكة، وتلتزم الحكومة الأميركية بإمداد أوكرانيا بقرض قيمته مليار دولار من أجل مساعدة اقتصاد أوكرانيا المتعثر.
يعتقد عدد قليل نسبيا من الخبراء الأميركيين أن بوتين يرتجل في القرم، وأنه يتخذ رد فعل على اتهام حليفه الرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش، ويستغل فرصة انعدام الاستقرار في البلاد. تقدم تصرفات بوتين الأخيرة في الخارج القريب، بالإضافة إلى نتائج الأزمة في سوريا، قصة لقائد استبدادي لديه استراتيجية كبرى بعيدة الأمد.
سوف تلقي تبعات عدم احترام روسيا لسلطة الحكومة في كييف بدرجة ما بآثار سلبية على الشرق الأوسط. وسوف تكون كلمة موسكو أقل مصداقية سواء في المفاوضات من أجل الوصول إلى حل ممكن للحرب الأهلية المأساوية في سوريا أو من أجل التسوية في قدرات إيران النووية. يمثل رفض بوتين سحب قواته من القرم مجرد قمة جبل الجليد. تحد الدولة التي تملك هذا الاستعداد المستمر للاستهانة بالقواعد الأساسية في النظام العالمي من ثقة أصدقائها وأعدائها على حد سواء.
ليس معنى ذلك عدم وجود بديل على المدى القريب. تملك سوريا قليلا من الحلفاء الذين يمكنها الاختيار بينهم، إن وجدوا؛ ومن المؤكد أنه لا يوجد من يملك مصالح ومخاطر مثل تلك التي تملكها روسيا. علاوة على ذلك، لن يمنع بوتين الأسد من اتخاذ إجراء مستقل في الداخل أو الخارج. وكذلك، لا تملك إيران أيضا نصيبها من الداعمين على الساحة العالمية وكذلك لن يكون مرجحا أن تغير موقفها في مواجهة الكرملين؛ ولكن ستقل احتمالات اعتماد الغرب على روسيا في أن تكون مُحكّما أو مشاركا في حل المفاوضات. ومع الانتخابات الرئاسية المقبلة في سوريا، يدعو الخبراء واشنطن إلى التركيز على الدولة التي مزقتها الحرب الأهلية، حتى لا يستفيد الأسد من الاهتمام الأميركي بأوكرانيا ويقوم بتزوير الانتخابات. ربما تحيي الحكومة الأميركية مباحثات السلام السورية من أجل وقف إراقة مزيد من الدماء، إذا تفوق بوتين في القرم وأعاد توجيه أجندته بتحدي نفوذ الغرب في الشرق الأوسط.
في إيجاز، أفضل ما يقوم به واضعو السياسة الخارجية الأميركيون هو حماية وتقديم المصالح الأميركية، بأن تشمل سياساتهم إثبات روسيا الاستباقي لذاتها في الجوار والخارج. وكما يشير بعض المحللين، تحتاج الولايات المتحدة إلى تحديد نهاية اللعبة وتطوير استراتيجية عملية لتحقيق هذه النهاية، اعترافا منها بأنه أينما وجدت حاجة أو فراغ، في الشرق الأوسط أو غيره من المناطق، سوف ينتهز الكرملين تحت قيادة بوتين الفرصة ليملؤه.

* ريتشارد كرايمر: أستاذ بالجامعة الأميركية، باحث مساعد في مشروع التحولات الديمقراطية في معهد أبحاث السياسة الخارجية في فيلادلفيا.
* مايا أوتاراشفيلي: باحثة مساعدة في معهد أبحاث السياسة الخارجية ومنسقة برنامج مشروع التحولات الديمقراطية (فيلادلفيا).



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.