المنظمات الصحافية غير الربحية تتخذ وضع الاستعداد مع تدفق التبرعات

لم يمر وقت طويل بعد ليلة الانتخابات حتى بدأت التبرعات تتدفق على المنظمات الصحافية الأميركية التي لا تهدف للربح، وبعد مرور شهر تقريبًا، لا تزال الأموال تتدفق، سواء كانت عشرة أو عشرين دولارًا، أو أحيانًا مئات الدولارات، أو مبالغ أكبر من صغار المتبرعين، من مختلف أنحاء البلاد.
في مركز «بابليك إنتيغريتي»، في واشنطن، وذراعه الدولية الاستقصائية «اتحاد الصحافيين الاستقصائيين الدوليين»، وصلت تبرعات الأفراد إلى نحو 70 في المائة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. ووصلت قيمة التبرعات لمشروع «مارشال»، وعمره عامين، ويستهدف فحص نظام القضاء الجنائي الأميركي، 20 في المائة منذ الانتخابات.
وفي منظمة «بروبابليكا» الإخبارية الاستقصائية التي تتعهد بمساءلة الشخصيات النافذة، وصلت التبرعات بعد انتهاء الانتخابات إلى 750 ألف دولار، لتفوق بذلك إجمالي التبرعات التي تم تلقيها من صغار المتبرعين طوال عام 2015 بالكامل، والتي بلغت 500 ألف دولار. وما زالت القائمة طويلة، من مؤسسات تابعة لمحطات إذاعية محلية، إلى مجموعات مراقبة ومؤسسات ناشئة تركز على قضية واحدة؛ تعيش المنظمات الإعلامية غير الحزبية التي لا تهدف للربح لحظة مميزة في تاريخها.
وما يحفز هؤلاء المتبرعين، سواء كان ذلك استجابة حزبية لانتخاب دونالد ترامب أو شعورًا أكبر بالقلق إزاء صناعة تعاني من مشكلات واضطرابات، هو محضّ تكهنات، على حد قول مسؤولين تنفيذيين. مع ذلك، فالأمر الذي يبدو واضحًا هو أن الصحافة المستقلة التي تضطلع بدور المساءلة قد بدأت تحظى بدعم جديد بين كثير من الأميركيين الذين يتأملون نتيجة الانتخابات والانقسام السياسي الذي تشهده البلاد.
بطبيعة الحال تتباين أسباب ودوافع الناس، لكنني أعتقد أنه بوجه عام هناك كثير من الأشخاص الذين شعروا بالحاجة إلى اتخاذ موقف مدني منذ الانتخابات، كما أوضح ريتشارد توفيل، رئيس منظمة «بروبابليكا» التي تم تأسيسها منذ نحو عقد من الزمان، الذي أضاف: «من الأشكال التي يمكن أن تتخذها هي تقديم المال إلى مؤسسات تعتقد أنها قادرة على إحداث فرق في حياتنا المدنية».
ولم يكن تزايد دعم الصحافة بعد الانتخابات مقتصرًا على الإعلام الذي لا يهدف للربح، فقد ذكرت شركة «ترونك إنكوربوريشين» (تريبيون بابليشينغ سابقًا)، وصحيفة «نيويورك تايمز»، وغيرهما، تزايد عدد الاشتراكات الجديدة الذي باتت بالآلاف منذ الانتخابات. فبداية من يوم الانتخاب، الموافق 26 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وصل صافي إجمالي الاشتراكات مدفوعة الثمن في النسخة الورقية لصحيفة الـ«تايمز»، وكذا في المنتجات الرقمية الإخبارية، إلى 132 ألف اشتراك.
وبالنسبة إلى العدد المتزايد من المنظمات الصحافية التي لا تهدف للربح، قد تمثل هذه اللحظة فرصة يحتاجونها للاضطلاع بدور أكبر في مجال يظل يواجه تحديات مالية كبيرة وتراجع الثقة الشعبية فيه.
لطالما سعت صالات التحرير التي لا تهدف للربح إلى تقديم نفسها بوصفها مصادر مدنية تعتمد على مهارات لا تختلف عن مهارات الصحف والمحطات التلفزيونية، لكن من دون دافع تحقيق أرباح، أو الاعتماد على الجهات المعلنة. ومع خفض المؤسسات الإخبارية التقليدية ذات الموارد المتناقصة لسقف طموحاتها خلال السنوات القليلة الماضية، سعت المنظمات الإخبارية التي لا تهدف للربح إلى اختيار العمل المكلف للصحافة الاستقصائية، والتي تلعب دور المساءلة رغم أنه لم يكن لديها جمهور في أكثر الأحوال.
وفي ظل وجود رئيس منتخب أبدى رغبته في مهاجمة الصحافة، وانتشار الأخبار المكذوبة التي زعزعت ثقة الناس في الإعلام الإخباري، يقول مسؤولون تنفيذيون في عالم الأخبار والصحافة إن أهمية الدور الرقابي سوف تزداد عن ذي قبل. وعلى الجانب الآخر، حذروا من أن تدفق العطايا الصغيرة ليس بالضرورة علاجًا لمخاوفهم المالية، حيث سننتظر لنرى ما إذا كان المستوى المرتفع لعطاء الأفراد سيستمر، أو سيمتد ليصبح تبرعات ضخمة من خلال منح، وتبرع أثرياء يمثل القسم الأكبر من تمويل منظمات مثل «بروبابليكا»، وغيرها.
ومع ذلك، فهناك مؤشرات مشجعة، خصوصًا عندما تصاحبها زيادات في المشاركة من القرّاء والمستمعين، على حد قول توفيل، وكثير من زملائه. وفي مرحلة ما، بعد ترويج الممثل الكوميدي جون أوليفر لمنظمة «بروبابليكا»، في برنامجه «إتش بي أو»، تلقت المنظمة تبرعات بواقع أربعة تبرعات في الدقيقة.
ومع تدفق النقود، بدأت «بروبابليكا» بالفعل المنافسة في تغطية جرائم الكراهية، وتنامي تأثير شعور العرق الأبيض بالفوقية، وهما قضيتان دفعت بهما الانتخابات نحو السطح. وقال توفيل إن المنظمة كانت تأمل في أن تزيد تغطيتها لموضوعات وقضايا أخرى، مثل التجارة والهجرة.
وبالنسبة إلى مركز «بابليك إنتيغريتي» الذي تأسس منذ 27 عامًا، قد تكون زيادة التبرعات أساسية ومهمة لتقليص العجز الذي تعاني منه المنظمة طوال السنوات القليلة الماضية، خصوصًا إذا اشتملت التبرعات على أموال كبار المتبرعين. ومن المتوقع أن تنقسم الذراع الدولية للمنظمة التي تولت تنسيق مشروع «أوراق بنما» الذي حصد جائزة خلال العام الحالي، وهو ما يحتاج إلى موارد إضافية.
وقال جون دنبار، وهو صحافي استقصائي مخضرم تم تعيينه أخيرًا رئيسًا تنفيذيًا للمركز، إنه يرى أن التبرعات تعد اعترافًا بأهمية الصحافة التي تلعب دورًا رقابيًا، في ظل برنامج ترامب الذي يهدف إلى الحد من اللوائح التنظيمية، وسيطرة الحكومة، مع افتقاره للشفافية.
وقال: «يبدو الحد من اللوائح التنظيمية أمرًا يبعث على الملل، لكن إذا كان ذلك يعني أنه سيكون لدينا عدد أقل من المراقبين، حين يتعلق الأمر بالحماية المالية على سبيل المثال، فتلك ستكون هي المجالات التي سوف ننظر فيها جيدًا»، مضيفًا: «ينتظر الناس منا التصعيد».
ولم يكن تزايد الدعم مقتصرًا على المجموعات الاستقصائية. فقد قالت لورا ووكر، الرئيسة التنفيذية لـ«نيويورك بابليك راديو» التي تضم «دابليو إن واي سي»، إن الطلب على محتواها بدأ في التزايد بشكل كبير حتى قبل الانتخابات، وكذلك ازدادت التبرعات، فيما يعد تطورًا أشارت إليه كثير من الجهات التابعة الكبرى الأخرى في مختلف أنحاء البلاد.
كانت حملة جمع التبرعات التي قامت بها محطة «دابليو إن واي سي»، خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول)، هي الأكبر في تاريخ المحطات الإذاعية العامة، حيث وصل المبلغ إلى 3.25 مليون دولار، إضافة إلى تعهد نحو 8 آلاف متبرع بتقديم تبرعات. ومنذ يوم الانتخابات، ازدادت التبرعات لمحطة «دابليو إن واي سي» بمقدار مرتين أو ثلاث مرات عن المعدل الطبيعي.
وقالت ووكر إن تلك العطايا سوف تتيح زيادة تغطية قضايا يهتم بها سكان نيويورك، وكذلك زيادة برامج خاصة أكبر تستكشف الانقسام السياسي في البلاد. وأوضحت، هي وآخرون، أن دورهم ليس أن يكونوا مؤيدين لحزب، أيًا كانت القناعة السياسية للمتبرعين، أو الجمهور الذي يميل نحو اليسار.
وفي حالة مشروع «مارشال»، يعني هذا مضاعفة الجهود المبذولة في التحقيق، وشرح النظام القضائي الجنائي في البلاد، لا تأييد وجهة نظر سياسية بعينها.
وقالت كارول بوغيرت، رئيسة مشروع «مارشال»: «ليست مهمتنا الإطاحة بدونالد ترامب، بل جعل الناس يهتمون أكثر بالعدالة الجنائية، ونحن نقوم بذلك من خلال الصحافة»، مضيفة: «هذه وظيفة مهمة جدًا من وظائف الإعلام في أي دولة ديمقراطية».

* خدمة «نيويورك تايمز»