المتطرفون يعززون مواقعهم في ليبيا

آخر الأفواج تضم عناصر خطرة من مصر وتونس والعراق وسوريا

المتطرفون يعززون مواقعهم في ليبيا
TT

المتطرفون يعززون مواقعهم في ليبيا

المتطرفون يعززون مواقعهم في ليبيا

في اجتماعات لم تستغرق أكثر من يومين في قاعة مجاورة لمطار القاهرة الدولي، بدا أن مسؤولين في أجهزة أمنية إقليمية يتحركون بسرعة أكبر من المعتاد على خلفية تفجيرات وأعمال إرهابية شهدتها أخيرا دول في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا. وتشير المعلومات إلى نزوح عدد كبير من المتطرفين إلى ليبيا التي تشهد هشاشة أمنية وتهيمن فيها جماعات غير منضبطة على عدة مطارات وعلى منظومة السجل المدني وجوازات السفر. ووضع أحد ضباط الأمن خطا تحت اسم رجل ليبي يدعى «ديكنة». هل هو في تركيا أم في مصر أم في أوروبا؟ وبدا للوهلة الأولى أن الرجل خطير، وأن له علاقة بأعمال تفجيرات في مكان ما في المنطقة. لم تكن هناك إجابة واضحة. لكن الضابط، وهو ليبي أيضا، التفت وقال ما معناه إن «ديكنة» كان تحت رقابة أمنية مستمرة تتعاون عليها عدة أجهزة. ثم اختفى فجأة قبل أيام من تفجير الكنيسة البطرسية في العاصمة المصرية.
رغم كل شيء تضفي أشجار أعياد الميلاد (الكريسماس) المزينة بالفوانيس الملونة السعادة أمام القاعة في مطار القاهرة الدولي، وتنساب موسيقى البهجة من المتنزهات القريبة. لكن يوجد خلف باب غرفة الاجتماعات المجاورة للمصعد، عمل محموم يقوم به ضباط يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ويقول أحد المسؤولين الأمنيين كأنه يلهث: تحركات المتطرفين سريعة... سريعة للغاية. كل يوم يجد جديد. وهذا أمر مرهق.
وفي وقت الاستراحة القصير بدا من إفادات أحد المشاركين الآخرين ممن جاءوا من وراء البحر بالطائرة على عجل، أن عبء المراقبة والتتبع للمتطرفين أصبح أكبر صعوبة من السابق بكثير، خاصة بعدما شددت القوى الدولية والإقليمية من ضرباتها على مواقع تنظيم داعش في العراق وسوريا وملاحقة المجاميع المتطرفة عبر العالم، مع التدقيق في عمليات التحويلات المالية المشبوهة وتحركات المشتبه في علاقتهم بالأعمال التخريبية. هذه ليست قضية محلية... أصبحت مسألة دولية... «الإرهابي هنا يمكن أن يتسبب في كارثة هناك».

الغالبية عرب
يقول الضابط، وهو مسؤول أمني إقليمي، إن مجاميع من المتطرفين، أغلبهم عرب وبينهم من يحمل جنسيات دول أوروبية، يعززون مواقعهم في ليبيا بشكل لافت لتنفيذ عمليات إرهابية عابرة للحدود، خاصة في دول الجوار وعدة دول شمال البحر المتوسط. وكان المسؤول المشار إليه من ضمن قادة وصلوا إلى هنا بالتزامن مع لقاء عربي - أوروبي نظمته الجامعة العربية حول الإرهاب والهجرة غير الشرعية وغيرها من القضايا الملتهبة في المنطقة.
وفي المساء رشح من كواليس المناقشات الحامية أن هناك مجموعة متطرفين عرب يقودهم رجل آخر يبدو أنه ليبي الجنسية أيضا، أفلت من المراقبة خلال الأسابيع الأخيرة، رغم خطورته، يدعى «مرجيني». ويضيف المسؤول الأمني وهو يحمل بين يديه ملفا كبيرا من الأوراق والأقراص الإلكترونية المدمجة، أن كلا من «ديكنة» و«مرجيني»، يشتبه في انتمائهما لجماعة الإخوان الليبية، وأنهما يستغلان مكتبا في مصراتة لاستقبال متطرفين من الخارج، من بينهم مجموعة تضم مصريين من سيناء وفلسطينيين من غزة، تمركزت في المدينة نفسها التي تقع على بعد 200 كيلومتر إلى الشرق من طرابلس.
ويشير إلى أنه منذ مطلع الشهر الماضي، جرى التخطيط في المكتب المشار إليه لتنفيذ أعمال إرهابية عابرة للحدود. وتم تخصيص مبلغ يصل إلى نحو 30 مليون دولار لهذا الغرض، وفقا لمصادر التحقيقات.

مصراتة في الواجهة
ويقول مصدر أمني مقرب من المجلس الرئاسي الليبي إن قيادات سياسية وعسكرية تنتمي لمدينة مصراتة اكتشفت هذا النشاط الذي رأت أنه «يسيء لمصراتة التي قدمت آلافا من أبنائها بين قتيل وجريح أثناء محاربتهم المتطرفين في سرت». وبدأت إجراءات التحقيق التي يشارك فيها مسؤول مهم في الاستخبارات العسكرية الليبية. ومن بين المقترحات التي جرى التعاطي معها لكبح جماح نشاط المكتب المشار إليه، مصادرة الأموال التي تم تخصيصها للمجموعات الليبية والعربية المتطرفة. ويشمل ملف التحقيق - وفقا للمصدر نفسه - تسجيلات فيها تخطيط «ديكنة» و«مرجيني» لتنفيذ عمليات تخريبية قبل أيام من تفجير الكنيسة البطرسية في القاهرة. وما زال البحث عن الرجلين مستمرا عبر عدة دول في المنطقة.
ويعتقد رجال الأمن أن هناك معلومات جديدة ومهمة عن خطط أخرى لتنظيم داعش في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا انطلاقا من ليبيا. ومن هذه المعلومات أن من بين قيادات «داعش» التي فرت من العراق وسوريا إلى ليبيا أخيرا رجلا لبناني الجنسية يدعى «أبو طلحة»، وتونسيا يلقب بـ«أبو حيدرة»، وجزائريا يعرف بـ«مُعِز»، وصوماليا يدعى «حسن»، إضافة إلى اسم القائد الجديد لما يسمى «ولاية طرابلس» ويدعى «أبو حذيفة المهاجر».
وتشير المعلومات إلى تحركات تقوم بها مثل هذه القيادات في ضواحي طرابلس الغرب وما حولها. وهذا في حد ذاته أمر مربك للمحققين، لأن «أبو طلحة» و«أبو حذيفة» كان يعتقد أنهما قتلا في الهجمات التي تشنها القوات العراقية المدعومة دوليا على تنظيم داعش في الموصل. وبدأت عملية طويلة من إعادة ترتيب الأوراق وتسلسل الأحداث لمعرفة ماذا يجري على الساحل الليبي المواجه لأوروبا الذي يبلغ طوله ألفي كيلومتر.
قضبان السكك الحديدية التي تتحرك عليها المجموعة التابعة لكل من «ديكنة» و«مرجيني» تختلف تماما عن قضبان السكك الحديدية التي يسير عليها قطار الدواعش القادمين من العراق وسوريا، لكن التحقيقات تقول إن هذين الطريقين يتلاقيان أحيانا في بعض التقاطعات. ويتعاونان أيضا.
فالمجموعة التي فيها «أبو طلحة» دخلت إلى ليبيا بمساعدة من قيادي يشرف أساسا على تحركات «ديكنة» و«مرجيني». لكن مركز انطلاق هذين الأخيرين كان من خلال فرع مكتب في بلدة مصراتة يديره زعيم سياسي لحزب ديني.
أما تحركات مجموعة الدواعش فتتركز في كل من طرابلس والخُمس وصبراتة والزاوية، وكلها قريبة من الحدود مع تونس. ويديرها رجل مقرب من الخليفة المزعوم أبو بكر البغدادي. وهذا الرجل ما زال يقيم في الموصل على ما يبدو، ويدعى «الشيخ ياسين».

تعاون أمني إقليمي
ويظهر أن تعاون رجال الأمن في منطقة الشرق الأوسط قادر على فك الكثير من الطلاسم. فاسم «أبو طلحة» اللبناني موجود أيضا في ملفات قديمة، حيث كان من بين مجاميع متطرفة تنشط في آسيا، خاصة أثناء محاربة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي. ومن الأوصاف المذكورة عن ملامحه التي كان عليها في ذلك الزمن الغابر أنه ذو وجه مستدير وشعر أشقر، ويميل إلى التحدث في تخاطبه اليومي مع الآخرين باللغة العربية الفصحى المتقنة.
كما يسود اعتقاد أن المرة الأولى التي دخل فيها «أبو طلحة» إلى ليبيا كانت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث وصل إلى مدينة سرت عبر زورق بحري رفقة «أبو حيدرة» و«أبو الزبير الدمشقي» وآخرين. ثم اختفى وعاود الظهور في ليبيا مجددا بعد تزايد الضربات ضد «داعش» في الموصل.
ويعود الظهور الجديد لـ«أبو طلحة» في المناطق القريبة من طرابلس إلى منتصف الشهر الماضي. ومنذ ذلك الوقت بدأ ينشط بقوة في أوساط الدواعش، خاصة في مدينة الزاوية التي جرى فيها رصد تعاون عسكري بين قيادات التنظيم المتطرف وقيادات من جماعة «ديكنة» و«مرجيني»، خلال حرب الزاوية التي أحرقت أطراف المدينة في الأسابيع الأخيرة.
ووفقا للمصادر الأمنية يعد لواء الفاروق الداعشي الذي له وجود في كل من مصراتة والزاوية أحد المشتركات بين المجموعتين المشار إليهما. ويقود لواء الفاروق في الزاوية رجل ليبي يدعى «هدية». بينما يتولى «أبو طلحة» الإشراف بنفسه على فرع مصراتة بعد مقتل قائده «غليو» في الحرب في سرت مطلع الشهر الجاري.
وجرى جلب غالبية المنتمين للواء الفاروق منذ البداية، من جماعة «أنصار بيت المقدس» التي تنشط أساسا في سيناء بمصر، ومن بقايا لجماعة الإخوان المصريين المبعثرين في عدة دول بالمنطقة منذ الإطاحة بحكم الرئيس الأسبق محمد مرسي... بالإضافة إلى مقاتلين تونسيين من جبل الشعانبي منتمين لما يعرف بـ«أنصار الشريعة». وتدرب كل هؤلاء لبعض الوقت في معسكر يقع في بلدة تاورغاء المهجورة قرب مصراتة.
المحزن في الأمر أن مجموعة داعشية جرى القبض على خمسة منها في نهاية المطاف، الأسبوع الماضي، يتبعون «أبو طلحة»، شعروا منذ وقت مبكر من هذا الشهر بوجود ملاحقة لهم. واتهمت مجموعة «أبو طلحة» في منطقة الخُمس عائلة رجل يسمى «إحميدة» بأنه هو من يبلغ بتحركاتهم. وعلى هذا قتل الدواعش «إحميدة» في منزله مع ابنيه الاثنين وابنته. واتضح فيما بعد أن الرجل لا علاقة له بالأمر من قريب ولا من بعيد، لكن هذا كان بعد فوات الأوان.
وبينما كانت تحركات المجموعة الإخوانية الليبية، انطلاقا من مصراتة، بمن فيها الرجلان الغامضان «ديكنة» و«مرجيني»، تستهدف الخارج، كان نشاط الدواعش يصب في اتجاه عكسي، أي من الخارج إلى الداخل، خاصة من العراق وسوريا. ويعتقد أن من دخلوا ليبيا في الأسابيع الأخيرة قادمين من الموصل، يحملون كنزا من المعلومات. لكن وصول أجهزة الأمن إلى تفاصيل كل ما يدور في ليبيا يبدو أمرا صعب المنال في ظل الفوضى التي تعم هذا البلد.

مؤشرات للمستقبل
بيد أن ما جرى التوصل إليه حتى الآن يمكن أن يكون مؤشرا لما قد يحدث في المستقبل. وتتضمن المعلومات التي جرى تسريبها خططا غامضة مبنية على رموز معقدة للتنظيم المتطرف في كل من ليبيا ومصر وتونس والجزائر ومالي إضافة لأوروبا. ويبدو حتى الآن أن هذه الخطط جرى وضعها على أيدي قادة التنظيم في العراق وسوريا وهم يشعرون بقرب الهزيمة هناك.
ومن بين المعلومات التي رشحت أن عددا ممن تم نقلهم من التنظيم من العراق وسوريا إلى ليبيا بلغ حتى منتصف هذا الشهر نحو ألف عنصر. وفيها أيضا أن قائد تنظيم داعش في مصر يلقب بـ«أبو إكرام» ويقيم في ليبيا، ومسؤول عن سيناء والإسكندرية والقاهرة.
وجرى تكليف «أبو حذيفة» بالإشراف على نشاط الدواعش على الحدود الليبية مع الجزائر ضمن مسؤولياته عن نشاط التنظيم في الجنوب. وفيما يتعلق بخطط «داعش ليبيا» في تونس فقد تبين وفقا للمعلومات التي أمكن التوصل إليها، وجود تعليمات بسحب تجمعات الدواعش من منطقة جبل الشعانبي التونسية، ونشرهم في الأوساط العامة لكي يتجنبوا أي عملية استهداف من جانب السلطات التونسية، وكذلك تحويل النشاط الداعشي إلى الجنوب التونسي خاصة في مدينة القصرين.
ووفقا لعملية تبادل لمعلومات استخباراتية بين أجهزة أمنية تعمل في المنطقة، فقد جرى الربط بين «أبو طلحة» عقب وصوله إلى ليبيا أخيرا، وخلية إرهابية تنتمي لـ«داعش» في دولة بلجيكا يقودها رجل عراقي يلقب بـ«أبو الأشعب»، وخلية أخرى في فرنسا يقودها مغربي يلقب بـ«أبو قداد». ومعروف أن هذين البلدين شهدا نشاطا دمويا لـ«داعش» خلال الشهور الماضية.
أما فيما يتعلق بـ«ديكنة» الذي تلاحقه عدة أجهزة أمنية في المنطقة، فتقول معلومات جديدة إن لديه مقرا آخر خارج مصراتة يقع في العاصمة طرابلس، وجرى رصد عملية تحويل منه لمبلغ خمسين ألف دولار وتسلمه أحد أقاربه في هذا المقر قبل يومين. ويقول مسؤول أمني: التحويل جرى من خارج ليبيا، دون مزيد من التفاصيل. لكن هذا في حد ذاته يشير إلى أن «ديكنة» ربما ما زال خارج ليبيا بالفعل.
وتضيف معلومات أشرف عليها مسؤول في المخابرات العسكرية المختصة بمنطقة شرق طرابلس، أن مطار مصراتة استقبل خلال الأسابيع الماضية مجموعات من حركة حماس ومن جماعة أنصار بيت المقدس، وأن هؤلاء عقدوا اجتماعات في المكتب الإخواني المشار إليه، ما أثار حفيظة السلطات الأمنية في المدينة. ووجه المسؤول الاستخباراتي أسئلة بهذا الخصوص إلى المكتب الإخواني بالمدينة، فأجابه بأن هذا نشاط حزبي ومن جاءوا هم ضيوف على الحزب.

نشاط غير مسبوق
ورفع المسؤول الاستخباراتي مذكرة إلى أعضاء في المجلس الرئاسي من بينهم مختص بالأمن القومي، ذكر فيها أن الاجتماعات التي تعقد في المكتب الإخواني في مصراتة «موجهة ضد مصر» و«تتضمن إدارة مجموعات للتخريب في مصر يجري تدريبهم في منطقتي زوارة والزاوية (قرب طرابلس)». وبالإضافة إلى اسمي «ديكنة» و«مرجيني» ظهر اسم ثالث لرجل ليبي يدعى «حويتة»، يقوم بالتنسيق العابر للحدود بين المجاميع العربية المتطرفة انطلاقا من الأراضي الليبية، وقالت المذكرة إنه يعد الأخطر من بين من شاركوا في اجتماعات المكتب الإخواني أخيرا.
ويقول مسؤول في الاستخبارات الليبية على علاقة بالمجلس الرئاسي، إن أعضاء في المجلس تسلموا عدة مذكرات عن نشاط كبير وغير مسبوق لقيادات من عدة تنظيمات من بينها أنصار بيت المقدس (معظمهم مصريون) وجماعة الإخوان (بينهم ليبيون أحدهم عضو في التنظيم الدولي) وتنظيم داعش (منهم فارون من الحرب في العراق وسوريا) وتنظيم القاعدة (معظمهم ليبيون).
وأضاف أن من بين هذه المذكرات ما قدمه مسؤول في فرع الاستخبارات العسكرية في شرق العاصمة الليبية، وتبين منها أن معظم تلك التنظيمات استغلت انشغال القوات التابعة للمجلس الرئاسي في الحرب على «داعش» في سرت طيلة الشهور الخمس الماضية، واتخذت لها مقرات لإدارة عمليات داخلية وأخرى عابرة للحدود، انطلاقا من مدن ومناطق «مصراتة» و«الخُمس» و«الزاوية» و«زوارة» و«مسلاتة».
وكشفت تقارير أمنية ليبية اطلعت «الشرق الأوسط» على جانب منها خلال اليومين الماضيين، عن أن آخر الأفواج التي دخلت ليبيا تضم عناصر خطرة من مصر وتونس والعراق وسوريا وغيرها. وعلى صعيد الموقف في مدينة سرت، التي جرى الإعلان عن تحريرها من الدواعش الأسبوع الماضي، تقول أحدث معلومات فريق الاستطلاع في مصراتة عن الوضع في سرت إنه جرى رصد تنظيم داعش وهو يعيد رص صفوفه فيها من جديد، مع توافد مقاتلين من العراق وسوريا على المدينة، وإن «أبو حذيفة» يتولى ترتيب هذه العملية، حيث قام بزيارة إلى سرت يوم 19 من الشهر الجاري.
ويبدو التطور في عمل المتطرفين في ليبيا مثيرا للقلق في أوساط الاستخبارات الليبية والقيادات السياسية في طرابلس الغرب. ووفقا لمصادر عسكرية مسؤولة عن مناطق شرق العاصمة الليبية، وتتعاون مع حكومة الوفاق الوطني، فقد جرى إخطار كل من الأمم المتحدة وأطراف عربية وأوروبية بالخطر الجديد.
وفي اليوم التالي من اجتماعات القاعة القريبة من مطار القاهرة بدا أن هناك اتفاقا بين أطراف من عدة دول على مواصلة التعاون وبذل مزيد من الجهود لملاحقة قيادات المتطرفين، خاصة أولئك الذين يتخذون من ليبيا مركزا للانطلاق في دول الجوار وعبر البحر المتوسط.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.