من التاريخ: مذبحتان سياسيتان في العصر العثماني

السلطان محمود الثاني
السلطان محمود الثاني
TT

من التاريخ: مذبحتان سياسيتان في العصر العثماني

السلطان محمود الثاني
السلطان محمود الثاني

على الرغم من أن التاريخ لم يسجل كثيرًا من الحالات التي قام فيها الملك أو السلطان بالتخلص من أعدائه عبر مذبحة جماعية، فإن القرن التاسع عشر شهد مذبحتين فاصلتين في التاريخ الإسلامي: الأولى في عهد والي مصر محمد علي باشا، والثانية في عهد السلطان العثماني محمود الثاني؛ الفارق الزمني بينهما 15 سنة بالتمام. وقد أسفرت المذبحتان بشكل مباشر عن انفراد الرجلين بالحكم في بلادهما، بلا منافس.
غير أن الحصيلة النهائية كانت مختلفة تمامًا بالنسبة للرجلين، ذلك أن الأول استغلها لصالح بناء مصر الحديثة، في حين فشل مشروع الثاني في تطوير الدولة العثمانية، ولكن الأغرب من ذلك أن محمد علي ومحمود الثاني تصادما سياسيًا وعسكريًا، وانتهت المواجهة بينهما بموت السلطان العثماني وهزيمة محمد علي في دائرة تاريخية قلما تحدث في التاريخ الحديث. ومن ثم، استخدم الرجلان الوسيلة ذاتها للتخلص من منافسيهما، لكنهما خسرا في نهاية المطاف.
واقع الأمر أن الأحوال في مصر كانت مضطربة للغاية بعد فشل الحملة الفرنسية على مصر والشام، وهروب نابليون بونابرت تاركًا البلاد في حالة من الفوضى العارمة. وانتهت هذه الحالة بصورة أو بأخرى بتولي أحد رجال اللواء الألباني الذي كان ضمن الجيش العثماني المكلف بطرد الفرنسيين، والذي أصبح اسمه فيما بعد مرتبطًا بالنهضة الحديثة لمصر، وهو محمد علي باشا آمر مصر. ومع أن دهاء الرجل السياسي مكنه من استمالة الشعب المصري لصالح تثبيته في الحكم، ولو مؤقتًا، فإن القوة الرئيسية التي كانت مسيطرة على مقاليد البلاد هي للمماليك. وهؤلاء، رغم هزيمتهم على أيدي القوات العثمانية، ظلوا الحكام الفعليين لمصر، بسطوتهم وتنظيماتهم العسكرية. ومن ناحية أخرى، مع أنهم حكموا مصر بالوكالة لصالح الدولة العثمانية، ظل المماليك شوكة في ظهرها. إلا أن التكلفة السياسية والعسكرية للتخلص منهم كانت باهظة على العثمانيين، مما اضطرهم للتعايش معهم.
ولكن مع انفراد محمد على بحكم مصر عام 1805، وبعد هزيمة الحملة البريطانية بقيادة الجنرال ألكسندر ماكنزي فريزر، أدرك محمد علي أنه لن يصفو له الحكم إلا بالتخلص من هذا «الطابور الخامس» الذي كانت له اتصالاته الخارجية وقوته العسكرية النسبية. ومن ثم، قرر هذا «الثعلب السياسي» استخدام الحيلة للتخلص من هذا العدو، فأبدى تعاطفًا معهم على مدار فترة حكمه. وذات يوم، دعاهم إلى احتفال كبير بمناسبة إحدى الحملات العسكرية الخارجية عام 1811، في القلعة، وجمعهم في بهوها، وقدم لهم الضيافة المناسبة، وبقيت قيادات المماليك تستمتع بالاحتفال العظيم دون أن تعلم بأمر الفخ الذي نصب لها. وفي ساعة محددة، أخلى رجال الوالي ساحة القلعة تدريجيًا، وبدأت أشهر مذبحة سياسية في تاريخ مصر، فتدفق الرصاص يحصد المماليك بلا رحمة.
وتقول بعض المصادر التاريخية إن محمد علي نفسه ارتعد إثر حصاد الموت الذي كان دائرًا، لكنه لم يكن لينسى ما فعله به المماليك، ومحاولتهم قتله والتخلص منه، وما أذاقوه لمصر من فساد وقسوة عارمة منذ أن انتهت خلافتهم في البلاد في عام 1517. وعلى الرغم من ارتجاف محمد علي وهو يرى المنظر، فإن تصميمه على التخلص من هذا «الطابور الخامس» لم يتأثر. وانتهت المذبحة في زمن قصير، وتناثرت الجثث والهام في ساحة القلعة، ولم يفلت من المماليك إلا واحدًا، وهو إبراهيم بك الذي تناثرت حوله الروايات والأساطير. وهكذا، تحقق التخلص التام من المماليك، ولم يعد لهم في مصر أي قوة تذكر بعد ذلك اليوم، ودانت مصر في عام 1811 للحكم المطلق لمحمد علي. وعلى جثث المماليك، بدأ الرجل ينظّم مصر بشكل مختلف، إلى أن صنع منها الدولة الحديثة التي هزّت أركان النظام السياسي الدولي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بجيش قوي وتنظيم داخلي محكم وقاعدة صناعية عسكرية كفلت للبلاد قدرًا كبيرًا من الاعتماد الذاتي.
على العدوة الأخرى من البحر المتوسط، في إسطنبول (الآستانة)، كان السلطان محمود الثاني الذي تولى السلطنة في 1808 يتابع مذبحة القلعة في مصر بقدر من القلق والانبهار، فبهذه الخطوة أصبح محمد علي الحاكم الفعلي لمصر، ولن يكون هناك أي «طابور خامس» يمكن للدولة العثمانية الاعتماد عليه للتخلص من هذا الوالي، ولكن عينيه كانتا تتمحوران على هذه الحيلة الذكية التي كفلت لواليه على مصر التخلص من أعدائه المنظمين. فإذا كان المماليك في مصر يعيثون في الأرض فسادًا، فإن مشكلته كانت أكبر وأعمق، إذ تحولت فيالق الإنكشارية إلى «دولة داخل الدولة» العثمانية. وتحولت هذه القوة العسكرية التي كانت تبث الخوف والذعر في قلوب أعداء الدولة العثمانية إلى أداة فساد ودمار داخلي في الجسد العثماني. وحقًا، كان الإنكشارية كثيري التمرد والتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، كما كانوا يعزلون السلاطين في مناسبات، أو يحاصرونهم حتى يغيروا القيادات السياسية، مستبيحين البلاد والأسواق بلا أية مراعاة للسلطة السياسية أو الحرمة الدينية للمواطنين. وبالمختصر، لم يعد من الممكن أن تتطور الدولة العثمانية وجيوشها ما استمرت هذه الفئة المنحرفة داخل المشهد السياسي. ومن ثم، كانت هناك ضرورة للتخلص منها تمامًا، ولكن كيفية إتمام هذه المهمة كانت تحتاج إلى فكر جديد استقاه السلطان من واليه على مصر، من خلال مذبحة جرى تدبيرها على نسق ما بات يعرف بـ«مذبحة القلعة» نفسه.
لقد بدأ السلطان محمود تحركه من خلال الإعلان عن تنظيم فيالق عسكرية جديدة، وبدأ بالفعل في تشكيل بعضها، وهو ما أثار حفيظة الإنكشارية في الآستانة. وصدق حدس السلطان مع تنظيم الإنكشارية عصيانهم المعهود؛ إنهم لم يدركوا هذه المرة أن السلطان كان قد أعد العدة للرد السريع. وبالفعل، بمجرد تحرك قوات الإنكشارية من ثكناتها، وتوجّهها نحو مضمار سباق الخيل الكبير للتجمع قبل التوجه إلى سراي السلطان، فوجئت بقوات السلطان تفتح عليها النيران في الشوارع الكبرى والأزقة، وهو ما اضطر القوات إلى التفرّق والتوجه نحو ثكناتها للتمركز، تمهيدًا لرد الاعتداء عليها. غير أن قوات السلطان لم تسع إلى محاولة اختراق الدفاعات الإنكشارية، بل أطلقت عليهم المدفعية الثقيلة، وقضت على كل مقاومتهم، ودمرت ثكناتهم. وأسفرت هذه المذبحة عن مقتل أربعة آلاف إنكشاري، إضافة إلى آلاف الآخرين خارج الثكنات. وبعد ذلك، أصدر السلطان التعليمات، فقضت قواته في سائر أنحاء الدولة العثمانية القضاء المبرم على الإنكشارية، سواء بالقتل أو النفي أو السجن، وبهذه الخطوة استطاع السلطان أن يتخلص من أكبر خطر واجه الدولة منذ نشأتها، إضافة إلى الطائفة البكتاشية التي كانت تساند هذه الفيالق. ولقد فتح هذا التطور المجال أمام بناء جيش عثماني قوي وعصري على أساس التجنيد الإجباري، متبعًا خطى مصر السريعة في تأسيس أول جيش وطني في المنطقة.
وعلى الرغم من أن السلطان محمود الثاني استطاع أن يقضى على الإنكشارية، ويسعى لبدء حركة الإصلاح السياسي والاقتصادي في الدولة العثمانية، فإن التحديات الخارجية كانت أقوى منه. إذ سرعان ما سعى لاسترداد سوريا من أيدي محمد علي باشا، وهو ما أدخله في حرب مع جيشها في عام 1839، مما أسفر عن هزيمة ساحقة للعثمانيين في نزيب. وفي العام نفسه، فقدت الدولة العثمانية جيشها الجديد، واستسلم أسطولها طوعًا لمصر، ومات السلطان محمود الثاني متأثرًا بفشله.
وأيًا كان التقييم الحقيقي لدور العناصر التي تمثل «الدويلة داخل الدولة»، كحال المماليك في مصر والإنكشارية في الدولة العثمانية، فإن طريقة التخلص منهم كانت واحدة. ولكن في دولة فتية متجانسة مثل مصر، استطاع الوالي أن يبني دولة قوية حديثة، بينما فشل السلطان محمود في إنهاض الدولة العثمانية العتيقة القليلة التجانس.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.