بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة

صداقة مؤذية تهدد بإنهاء الحياة السياسية لأول امرأة تترأس كوريا الجنوبية

بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة
TT

بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة

بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة

تسارعت خلال الأسبوع إجراءات لإقالة رئيسة كوريا الجنوبية بارك غيون هي (64 سنة)، وذلك على الرغم من أن فريق محامي الرئيسة قد شدّدوا في تقرير رفعوه يوم الجمعة 16 ديسمبر (كانون الأول) الحالي إلى أعلى هيئة قضائية في البلاد، على أنه لا يوجد أي أساس قانوني لإقالتها. وتجدر الإشارة إلى أن الجمعية الوطنية (البرلمان) كانت قد صوتّت يوم 9 سبتمبر (أيلول) الماضي على إقالة بارك إثر اتهامها بفضيحة فساد كبرى أدت الضجة التي خلفتها إلى خروج ملايين الكوريين في مظاهرات حاشدة لتعطيل أعمال الحكومة. وفي أعقاب تصويت الجمعية الوطنية بتوجيه التهمة رسميًا إلى بارك، تولى هوانغ كيو آن، رئيس الحكومة، مقاليد الرئاسة مؤقتًا.
عندما يتداول الساسة والإعلاميون بكثرة كلمة «الديمقراطية»، وتطالب الدول الغربية العريقة في تقاليدها الديمقراطية دول العالم - ولا سيما في آسيا وأفريقيا - بانتهاج الديمقراطية، فإنها في معظم الأحيان تطالب بالسير على خطاها، واعتماد تجربتها.
غير أن الواقع الذي أخذ الغرب «الديمقراطي» يختبره، وخصوصا في أعقاب انتهاء «الحرب الباردة»، وسقوط «بديل» التحدي الشيوعي أو الاشتراكي، هو أنه لا توجد في السياسة الواقعية وصفات سحرية، ولا يمكن بالضرورة استنساخ التجارب، وتعميم التفاصيل، وتجاهل الخصوصيات في المجتمعات على امتداد العالم.
بكلام آخر، لا توجد آلية واحدة لمفهوم المجالس التشاورية أو التمثيلية تصدق بالتمام والكمال على مجتمعات مسيحية بيضاء في أوروبا - مثلاً - ذابت فيها المكونات العشائرية والعصبية والدينية، ومجتمعات في مناطق أفريقية حديثة الاستقلال ريفية أو رعوية الطابع، ما زالت الأواصر العائلية والعشائرية تحكم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، ومجتمعات آسيوية داخلت بنيتها التقليدية تجربة الحكم الشمولي، كحال بيئات الصين وكوريا الشمالية وفيتنام ولاوس. ومن ثم كان لا بد أن تتأثر «ثقافة الديمقراطية» في كل من هذه الأماكن بالتطورات التاريخية التي عاشتها وعايشتها.
في شرق آسيا أوضح نموذج على التعقيدات التي تتصل بتلاقي عدة ثقافات وتقاطعها أو تكاملها. ففي الصين ثمة ثلاثة نماذج في البرّ الصيني الشاسع (الصين الشعبية) حيث يشهد العالم اليوم أكبر عملية تفاعل ثقافي - اقتصادي - اجتماعي في العالم مع التحول التدريجي خلال أقل من مائة سنة من حالة زراعية ورعوية، إلى حالة شيوعية ثورية صارمة، والآن إلى حالة تنمية رأسمالية ناشطة. واليوم تمارس «الديمقراطية» في الصين بثلاثة أشكال: الأول في ظل حزب شيوعي قائد يتطور مع المقتضيات في الصين الشعبية، والثاني في ظل مفهوم ديمقراطي ليبرالي - محافظ - وقومي في تايوان (الصين الوطنية سابقًا)، والثالث في التجربة الاستثنائية لمستعمرة هونغ كونغ السابقة القائمة.
وفي اليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، حصل «تزاوج» نادر ولافت بين مجتمع صناعي وعصري ومجتمع لم يتخل عن تقاليده الدينية والتراثية. ومن ثم، مع بدء التجربة الديمقراطية الجديدة في البلاد، سرعان ما حصل فرز بين القوى الليبرالية والمحافظة والاشتراكية. ومع ولادة الحزب الديمقراطي الحر من اندماج الحزبين الليبرالي والديمقراطي عام 1955، ومن ثم هيمنته على الحياة السياسية اليابانية لعقود، خرجت من داخل الحزب «أجنحة سياسية» صارت عمليًا أحزابًا وكتلاً لها زعاماتها المتوارثة داخل حزب السلطة القوي.

التجربة الكورية
غير أن الحالة الخاصة ذات الصلة، الآن، هي الحالة الكورية؛ فبعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها انقسمت شبه الجزيرة بين شمال شيوعي دعمت وجوده الصين وحليفاتها الشيوعية، وجنوب رأسمالي قاتلت من أجله الولايات المتحدة ودول الغرب الكبرى عبر أروقة الأمم المتحدة.
كوريا، من ثم غدت دولتين، هما كوريا الجنوبية الرأسمالية الناهضة اقتصادية، وكوريا الشمالية الموغلة في تصلبها الشيوعي. ولكن في الحالتين لم تزدهر الديمقراطية التمثيلية تمامًا. فالشمال الشيوعي تحوّل إلى حكم عائلي وراثي وشبه عسكري خارج المنظومتين السوفياتية ثم الصينية، ولم يكن نظامًا شيوعيًا على النمط الأوروبي يتيح إمكانيات التغيير ولو من داخل الحزب. أما الجنوب الرأسمالي، فلم يظل طويلاً بمنأى عن الديكتاتورية العسكرية، التي استفادت إلى حد ما من مناخ الحرب الباردة. وكان الديكتاتور العسكري الأقوى، والأقوى بصمة في تاريخ كوريا الجنوبية، رجل عسكري لامع اسمه بارك تشونغ هي... والد الرئيسة بارك غيون هي.

بطاقة هوية
ولدت بارك غيون هي، رئيسة كوريا الجنوبية المقالة، يوم 2 فبراير (شباط) عام 1952 في مدينة دايغو بجنوب شرقي البلاد. وهي الابنة البكر لرجل كوريا القوي ورئيسها الثالث بارك تشونغ هي، الذي حكم البلاد بين عامي 1963 و1979 بعدما قاد انقلابًا في عام 1961، للرئيسة بارك شقيق وشقيقة.
الرئيسة - التي لم تتزوج - انتقلت مع عائلتها عام 1953 من دايغو إلى العاصمة سيول بحكم عمل الوالد العسكري. وفي سيول تلقت تعليمها الابتدائي والثانوي في مدرسة كاثوليكية تخرجت فيها عام 1970، وبعدها التحقت بجامعة سوغانغ بالعاصمة حيث تخرجت بدرجة بكالوريوس في الهندسة الإلكترونية عام 1974، ولاحقًا درست لبعض الوقت في جامعة غرونوبل الفرنسية، بيد أنها اضطرت للعودة إلى كوريا في أعقاب اغتيال أبيها - وكان إذ ذاك رئيسًا للجمهورية - في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1979.
كذلك تحمل بارك رسائل دكتوراة فخرية من جامعة الصين الثقافية في تايوان، وجامعة سوغانغ ومعهد الدراسات العلمية والتقنية المتقدم في كوريا، وجامعة دريسدن التقنية في ألمانيا. وتتكلم بجانب اللغة الكورية اللغات الإنجليزية والفرنسية والصينية والإسبانية.

بداياتها مع السياسة
يمكن القول إن بارك غيون هي نشأت مع السياسة، ذلك أن أباها تولى السلطة الفعلية في البلاد قبل أن تبلغ العاشرة من العمر. وبعد ذلك، كانت «ابنة الرئيس» لمدة 16 سنة صقلت لها مفاهيمها وولاءاتها السياسية. ثم جاء اغتيال والدها ليسهم في تعميق تفاعلها مع عالم السلطة، بل قبل ذلك، عاشت الرئيسة الكورية تجربة مأساوية مؤثرة تمثلت في اغتيال أمها عام 1974 على يد مواطن كوري متعاطف مع كوريا الشمالية داخل مبنى المسرح الوطني الكوري في سيول يوم 15 أغسطس (آب) 1974. وبعد مقتل أمها صارت بارك «سيدة قصر الرئاسة» و«الذراع اليمنى» لأبيها الرئيس حتى اغتياله بعد أربع سنوات يوم 26 أكتوبر 1979 بيد رئيس جهاز استخباراته كيم جاي غيو. وبطبيعة الحال، طوال الفترة التي كانت فيها بصحبة أبيها كان معارضوه، في التيارات الليبرالية واليسارية، يعتبرونها شريكًا في سياسته الأمنية المحافظة الصارمة، بما في ذلك التوقيف العشوائي للمعارضين السياسيين، والتضييق على حرية التعبير والمعتقدات، وانتهاك كثير من حقوق الإنسان المألوفة في الديمقراطيات الغربية.
غير أن بارك، أجرت نوعًا من النقد الذاتي في المرحلة اللاحقة لنهاية حقبة الديكتاتورية العسكرية التي رسخها أبوها. وعام 2007 إبان انخراطها في العمل السياسي المدني والحزبي اعتذرت علنًا مبدية الأسف لخصومها السياسيين، ولا سيما للناشطين الذين اضطهدوا إبان فترة حكم أبيها على ما لحق بهم من ظلم.

النشاط الحزبي
الانخراط في العمل السياسي الحزبي وفّر لبارك «المدرسة السياسية» الثانية، بعد حياتها العائلية قبل أن تنتخب رئيسة، وتغدو أول امرأة تتولى رئاسة كوريا الجنوبية أو أي دولة في شمال شرقي آسيا.
لقد ترقت بارك في هذا المجال، تحديدًا في صفوف الحزب الوطني الكبير، الحزب المحافظ اليميني الأكبر في البلاد، وتولت في الفترة بين 2004 و2006 منصب رئيسة الحزب. وعادت لتولي رئاسة الحزب عامي 2011 و2012 وخلال هذه الفترة غيّر اسم الحزب إلى حزب «ساينوري» - أي «الحدود الجديدة» - وهو اليوم أكبر حزب في البرلمان الكوري، كما يسجل لها أنها قادت حزبها لعدد قياسي من الانتصارات الانتخابية. وداخل البرلمان - أو الجمعية الوطنية - انتخبت بارك وخدمت فيه أربع فترات متتالية بين عامي 1998 و2012 عندما انتخبت رئيسة للجمهورية.
وبعد انتخابها رئيسة اختارتها مجلة «فوربس» الأميركية المرموقة خلال العامين 2013 و2014 في المرتبة الـ11 من بين أقوى مائة امرأة في العالم وأكثرهن نفوذًا وتأثيرًا. بل، في عام 2014 وضعتها المجلة نفسها في المرتبة الـ46 من بين أكثر أقوى شخصيات العالم نفوذًا (رجالاً ونساءً).

رئيسة للجمهورية
بعد قيادة بارك حزبها لانتصار كبير في الانتخابات العامة عام 2012 ازدادت شعبيتها على المستوى الوطني وبات ينظر إليها بجدية على أنها زعيمة حقيقية تستطيع الذهاب إلى أبعد بالحزب والبلاد. وفي 19 ديسمبر (كانون الأول) 2012 فازت بمنصب الرئاسة حاصلة على نسبة 51.6 من المائة الأصوات. ويوم 25 فبراير تولت الزعيمة التي يصفها الكوريون بـ«الرئيسة الأكثر محافظة» السلطة.
وخلال السنوات الماضية منذ توليها المنصب أثبتت بارك، كما توقع محبوها وكارهوها، أنها سياسية صلبة ومحافظة، وأيضا مثيرة للجدل أحيانًا. وجاءت القضية التي أدت إلى اتهامها بالفساد والتحرك البرلماني لإقالتها في الأطر المألوفة لهشاشة خيوط الفصل بين المصالح السياسية والولاءات الشخصية والمحسوبيات عند القيادات التي تمارس الديمقراطية بوصفها نظاما سياسيا لكنها تظل أسيرة لحساباتها الخاصة.

آخر التطورات
القضية - الفضيحة تتصل بسيدة اسمها شوي سو سيل - التي هي صديقة شخصية للرئيسة بارك، باعتراف بارك، كانت قد أوقفت في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وبدأت محاكمتها بتهمة الابتزاز واستغلال السلطة.
ولقد وجهت إلى شوي تهمة استغلال صداقتها مع الرئيسة لحمل الشركات الصناعية على دفع مبالغ تقارب الـ70 مليون دولار إلى شركات ومؤسسات أسستها وتملكها، إلى جانب شبهات حول تدخلها في شؤون الدولة. وبلغت الأمور حد تشكيل فريق من المحققين المستقلين يضم مدعين وشرطيين وقضاة ومحامين اختارهم محققو النيابة لتفتيش مقر الرئاسة لكشف غوامض الفضيحة، مع الإشارة إلى أن مكتب الرئاسة ذكر أن التفتيش يستند في اعتراضه على ملاحقة بارك إلى مادة في القانون الجزائي تحظر هذا النوع من العمليات في مكاتب رسمية تعتبر ذات أهمية عسكرية.
كذلك دفع فريق محامي بارك، عندما قدم خلال الأسبوع الماضي تقريره الواقع في 24 صفحة، بأن الاتهامات الموجهة إلى الرئيسة ليست مدعمة بأدلة، وبالتالي، ليس لها أساس قانوني. وكذلك بأنه لا يوجد أي دليل على أن الرئيسة انتهكت الدستور.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيسة بارك عرضت يوم 29 نوفمبر الاستقالة، ودعت الجمعية الوطنية لترتيب أمر نقل السلطة، إلا أن المعارضة رفضت معتبرة أن الرئيسة تحاول من خلال عرضها تجنب الإدانة. ومن ثم أقر النواب الإدانة بأصوات 234 نائبا، وعلقوا صلاحيات الرئيسة، وأسندوا الرئاسة مؤقتًا لرئيس الوزراء. ولكن في المقابل، ستحتفظ بارك بلقب الرئيسة إلى أن تبت المحكمة الدستورية بإلإقالة أو ترفضها. وهذه العملية يمكن أن تستغرق ستة أشهر.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.