السعادة بين نعمة الجهل وشقاء العقل

تتأسس على ما يميّز الإنسان عن غيره من الكائنات

السعادة بين نعمة الجهل وشقاء العقل
TT
20

السعادة بين نعمة الجهل وشقاء العقل

السعادة بين نعمة الجهل وشقاء العقل

جرى التعامل مع السعادة في التقليد الفلسفي باعتبارها مطلبا في المتناول، عن طريق التمارين العقلية والفكرية، فأرسطو اعتبر أن السعادة تتأسس على ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات، أي العقل والفكر. وبالتالي فإن استثمار هذه المقدرة، هو الذي سيوصلنا إلى السعادة المنشودة. فالعقل يمكّننا من اختيار الطريق الوسطي، وضبط النفس، وبلوغ الفضيلة.
إن تصورا للسعادة بهذه الطريقة، سيجعلها من حظ الفلاسفة والمفكرين وذوي العقول الفذة فقط. إلا أن الملاحظ، هو أن هؤلاء كثيرا ما يعبرون عن تعاستهم ونظرتهم المتشائمة للحياة.

غالبا ما يُعتبر الناس العاديون أكثر حظا من هؤلاء وأكثر سعادة. ولا يمكن أن يكون الطبيب، الذي يعرف خبايا الجسم، ويعلم أن السرطان يترصده فيحوله، في أي وقت، إلى قنبلة موقوتة، ويعرف كذلك أن الإنسان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، أن يكون أكثر سعادة من إنسان مطمئن إلى أن الجسم بديع في صنعه، تام في عمله وأشغاله. وقد يكون الرجل الجاهل أسعد من عالم الفلك، الذي يعلم أننا نعيش في نقطة صغيرة جدا هي مجرد حبة رمل في صحراء لا قرار لها. وأسعد من فيلسوف يعلم أن الحقيقة موجودة فقط في أوهامنا وتخيلاتنا وأحلامنا، وأنها ليست مبحثا واقعيا بقدر ما هي ذات طبيعة ميتافيزيقية. لماذا لا نقلب الآية ونقول إن السعادة في الجهل، والتعاسة في العقل؟ ولم لا نقول إن الجهال والحمقى، يمكن أن يكونوا أكثر سعادة من أعقل العقلاء؟
ظل الاعتقاد بأن السعادة تكمن في اللامبالاة، وتجنب كثرة التحقيق في أمور الحياة، حاضرا منذ بداية التأمل الفلسفي. فها هو الفيلسوف اليوناني سقراط، يعتبر الجهل جزءا لا يتجزأ من السعادة، ودليله في ذلك، أن أكثر الناس سعادة، هم الأطفال والأشخاص الذين لديهم جهل بالحياة. وبالتالي، فالمعرفة في نظر سقراط، تبقى بعيدة عن أن تمنحنا السعادة المأمولة. كما أن أفلاطون وضح في الجمهورية، كيف أن الحقيقة تعمي أعين سجناء الكهف، الذين ما إن يطلعوا عليها حتى يعودوا إلى الاختباء في كهفهم، راضين بجهلهم وبتمثلاتهم وأوهامهم داخل الكهف المظلم.
وإذا كان العصر الحديث قد عرف بدفاعه عن حياة العقل، باعتباره الفيصل بين الحقيقة والوهم، والأداة المثلى التي تمكننا من التخلص من قيود العقل التي تشل حركتنا وتكبل عقولنا، فنتحرر ونعانق الحقيقة، ونكون بالتالي سعداء، فإن هذا المسعى سوف يتبخر بسبب مآلات العصر الحديث الذي انقلبت فيه المعايير، ليس لصالح حياة العقل والتفكير، وإنما لصالح التاجر الذي استفاد من التطور الفكري والعلمي والصناعي، ما جعل صناعته تزدهر، وثروته تتضاعف، فتلاشى التصور العقلي للسعادة، لصالح الطبقة البرجوازية التي تحكمت في كل شيء، بما فيه الحياة الفكرية، وأدخلتها إلى منطق السوق والربح المادي، وأصبحت مرتبطة بالنجاح التجاري. بمعنى آخر، السعيد هو البرجوازي الذي ليس بالضرورة عالما أو مفكرا أو فيلسوفا. وهذا ما فطن له أديب كبير هو كوستاف فلوبير، الذي احتقر تحول السعادة إلى هم برجوازي. وقد عرّف في كتابه «مراسلات»، السعادة بالمعنى البرجوازي، بشكل ساخر، فقال: «أن تكون غبيا وأنانيا وترفل في صحة جيدة، تلك هي الشروط المطلوبة لتكون سعيدا، لكن لو لم يتحقق الشرط الأول لن يتحقق شيء». أن تكون غبيا، يعني أن تمتنع عن التفكير، وتدع أمور الحياة تسير على ما هي عليه، مثلما تفعل الحيوانات تماما. فلا نكثر في البحث عن الأسباب والمسببات، ونرضى بالتالي، بالنظرة المألوفة العادية الاعتيادية، مثلما يفعل الجميع. أما العنصر الثاني، الذي يتحدث عنه فلوبير، فهو الصحة. فمن دون صحة جيدة، لا يمكن أبدا للرجل أن يكون سعيدا. أما الأنانية، فتجعلنا نظن أن العالم ملك لنا، وأنه كله يشتغل من أجلنا، فيرتد كل شيء على الذات التي تسعد بهذا الإحساس إذ تكون هي المركز.
يعتبر الوعي بمثابة الميزة الأساسية التي يتسم بها الإنسان. فالفكر هو الخاصية الأساسية التي تعلو بالإنسان عن باقي الكائنات الأخرى. هكذا، فالفيلسوف الفرنسي بليز باسكال، يقول في «التأملات»، إن الإنسان مجرد قصبة، بل هي من أضعف القصبات. لكن المهم ليس ضعف هذه القصبة، بل إنها قصبة تفكر. فالفكر يؤسس عظمة الإنسان. يضيف باسكال أن الإنسان من حيث الجسد يتسم بالضعف، ويمكن لأي قوة في الكون مهما كانت بسيطة، أن تقضي عليه. إلا أن قوته تتجلى بالأساس في فكره ووعيه. إن عظمتنا تكمن في قدرتنا على الوعي ببؤسنا وبؤس العالم الذي نعيش فيه. فالأشجار، ليس بمقدورها أن تعي بؤسها دائما، حسب بليز باسكال. لكن فيم سيفيدنا الوعي بهذا البؤس، إذا كان هذا الوعي غير قادر على تخليصنا منه؟ في الحقيقة، إن هذا التصور التراجيدي، تبلور كثيرا في تاريخ الفلسفة، يمكن أن نجده عند فريديريك هيغل وفريديريك نيتشه، وكذلك آرثور شوبنهاور. هؤلاء جميعا، عبروا في كثير من كتاباتهم، على الرغم من بعض الاختلافات، عن كون الوعي سببا في شقاء البشر. إنه يجعلنا نعي نقصنا وعوزنا، كما لو أنه لعنة نحملها في صميمنا. هو سبب شقائنا عوضا عن أن يكون سبب سعادتنا.
يورد الكاتب الفرنسي فريديريك لونوار، في كتابه «السعادة: تاريخ موجز»، الصادر عن دار التنوير للطباعة والنشر، ترجمة خلدون النبواني، 2015، قصة للكاتب الفرنسي فولتير، لا تخلو من بعد فلسفي تأملي، عنوانها قصة براهمان طيب L›histoire d›un bon brahminKK، حيث يتحدث فولتير عن ضيق أحد البراهمان الهنود الحكماء وتعاسته الناتجة من عدم قدرته على الحصول على أجوبة تكون مقنعة للأسئلة الميتافيزيقية التي لا يني يطرحها على نفسه، في حين كانت تعيش إلى جانبه امرأة متعصبة جاهلة، لم تفكر للحظة واحدة في حياتها، في أي من تلك الأفكار التي تشغل بال البراهمان. ومع ذلك، فقد كانت تبدو أسعد نساء الأرض. جوابا على سؤال وجه لهذا البراهمان: ألا تشعر بالخجل لكونك تعيسا في الوقت الذي تعيش فيه إلى جوارك عجوز، لا تزيد عن كونها دمية متحركة لا تفكر بشيء، وهي بذلك تعيش هانئة البال؟ يرد الحكيم: «معكم حق، لقد قلت لنفسي مائة مرة، إنني سأصير سعيدا لو كنت ببلاهة جارتي. ومع ذلك، فإنني لا أرغب في سعادة كتلك». إن مشكلة الأحمق السعيد، في نظر فريديريك لونوار، تكمن في كونه يغوص في السعادة الدائمة، طالما هو جاهل، أو طالما ظلت الحياة لا تعانده. فسعادته تكمن في غياب المسافة التفكرية في الحياة والموت والألم.
هل نرغب نحن بسعادة كتلك؟ هل نكون مجرد حمقى سعداء؟ صحيح أن التصور الحالي للسعادة، لا يختلف عن ذلك الذي تحدث عنه غوستاف فلوبير وفولتير. فمجتمعنا جعل من التفكر والبحث الفلسفي، أمرا مرذولا وشقاء لا طائل من ورائه. بل أكثر من ذلك، يجري تهميش أصحابه ونعتهم بالحمق والجنون، انطلاقا من معايير مقلوبة. فارتبطت السعادة بالاستهلاك غير المعقلن واللا محدود، الغرق في اللذة والمتعة غير محسوبة العواقب. أما المعرفة فهي تلك التي يرجى من ورائها نفع مادي ملموس. وعلى الرغم من إغراءات الجهل ولذته، فإنه سرعان ما يصيبنا بالألم والأسى. في الوقت الذي نشعر فيه بجهلنا، فسنكون بالتأكيد سعداء، في حال شكل شخص بالنسبة لنا نموذجا أخلاقيا وقدوة سلوكية، تعتبر مثلا بالنسبة لنا، لنعرف حقيقته التي هي عكس ما يدعيه، وعلى الرغم من الأسى المرادف للحقيقة، التي سنطلع عليها، فإننا سنفضل ألم الحقيقة على لذة الغباء والجهل. كما أننا سنفضل أن نعرف أن البركان الموجود في مدينتنا على وشك الثوران، حتى نعيره الانتباه لإنقاذ أنفسنا، عوضا عن أن نبقى مستمتعين بجهلنا، يقينا منا أنه بركان خامد، كما قد تسوق السلطات لذلك.
بكل بساطة يمكن القول، إن الجهل مهين لكرامتنا، والسعادة ليست في الجهل وإنما في حياة العقل والتفكير مهما أزعج ذلك عالمنا، ومهما قض مضاجعنا. لا يمكن أن نرضى لأنفسنا، بسعادة العجماوات والجهل والإيمان الأعمى، كما عبر عن ذلك نجيب محفوظ في «خان الخليلي» بقوله: «فتش عن السعادة الحقة على ضوء العلم والعرفان. فإذا وجدت مكانها قلقا وسخطا وشقاء، فتلك آيات الحياة الإنسانية الفاضلة الحقيقية، بتطهير المجتمع من نقائصه والنفس من أوهامها الحقيقية، ببلوغ السعادة الحقة».
* أستاذ فلسفة



التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية
TT
20

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع، كما هو حال ظاهرة الشعراء الجوالين في القرن الثاني عشر الميلادي. فهذه الظاهرة التي ولدت في الجنوب الفرنسي، والتي قامت على التعفف الفروسي والإعلاء المفرط المرأة، ما لبثت أن اتسعت دائرتها لتشمل مناطق أوروبية واسعة، وأن تمسك بناصية الشعر والحب على حد سواء.

وإذا كان في ما قاله المؤرخ سينيوبوس من أن الحب في الغرب هو من مخترعات القرن الثاني عشر، قدر من المبالغة والغلو، فإن نقاداً كثيرين يجمعون على أن فكرة الحب المرتبط بالعفة والهوى والعاطفة المشبوبة لم تأخذ طريقها إلى التبلور ولم تتحول إلى واقع ملموس إلا مع تلك الكوكبة من الشعراء، من أمثال غيوم دي بواتييه وفينتادور وبيار فيدال وديدييه ودورانج وآرنو دانييل وغيرهم. أما تسميتهم بالتروبادور فيردها البعض إلى أصل عربي مشتق من كلمتي «تروبا» وتعني الطرب، و«دور» التي هي مصطلح موسيقي، فيما ذهب آخرون إلى كونها مشتقة من الفعل «تروبار» بالإسبانية، ويعني نظم العبارات الجميلة أو الشعر المبتكر.

ومع ذلك، وأياً كان مصدر التسمية، فقد أجمع الدارسون على أن القرن الحادي عشر للميلاد هو التاريخ الفعلي لنشوء ظاهرة الشعراء الجوالين، الذين راحوا يجوبون أنحاء الجنوب الفرنسي متنقلين من قصر إلى قصر لينشدوا أمام الأمراء والأعيان، والنساء الجميلات والمتأنقات، قصائد وأغنيات ناضحة بالحب والشجن القلبي وآلام الفراق. والأرجح أن تبني إلينور، حفيدة الشاعر الجوال وليم التاسع، وزوجة الملك الفرنسي وليم السابع، وملهمة الشاعر برنارد دي فانتادور، لهذه الحركة، قد أسهم في تكريسها ودعمها وتحويلها إلى تقليد ملكي رسمي. وقد واصلت ماري فرانس، ابنة إلينور، تشجيعها لذلك النوع من الشعر الرومانسي الحالم، وهي التي حضت الشاعر الفرنسي كراتين دي ترويز على تأليف قصة لانسوليت، التي تعكس بوضوح مفاهيم الشعر البروفنسي.

وإذ وقف أدباء الغرب ومفكروه حائرين إزاء المنشأ الحقيقي لهذا التقليد الشعري والعاطفي، أعاده بعضهم إلى الفلاسفة الإغريق من أمثال أفلاطون وأفلوطين، ونسبه بعضهم الآخر إلى الشاعر الروماني أوفيد وتعاليمه المثبتة في كتابه الشهير «فن الهوى»، ورأى فيه البعض الثالث تأثراً بمفهوم العفة والتبتل المسيحيين، وأكد بعضهم الرابع على تأثير الشعر العربي العذري في نشوء تلك الظاهرة، خاصة بعد أن تجاوز العرب حدود الأندلس لتصل جيوشهم إلى قلب الأراضي الفرنسية نفسها.

ولا بد من التذكير بأن تسمية الفرسان بالشعراء الجوالين كانت ناجمة عن الدور القتالي الذي أنيط بهؤلاء الشبان من قبل الأمراء والنافذين، حيث كان عليهم حماية المقاطعات والمناطق والقصور المولجين بخدمتها، من كل خطر داخلي أو خارجي، إضافة إلى مشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية. إلا أن القواعد والأعراف الاجتماعية التي تم إرساؤها في تلك الحقبة، وصولاً إلى قوننتها في نُظم وأحكام، أخرجت الفروسية من نطاقها القتالي الصرف وحولتها إلى تقاليد متصلة بالشهامة والتسامح والنبل، وما استتبع العشق والوله العاطفي من قواعد ومواثيق.

وقد اعتبر أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ» أن الجديد في شعر الفروسية هو عبادة الحب والحرص عليه، واعتباره المصدر الأهم للخير والجمال والسعادة الحقة، حيث يتم التعويض عن حرقة الفراق بفرح الروح ونشوة الانتظار، مضيفاً أن التروبادور كانوا في الأصل من المغنين الذين يستقدمهم الأمراء إلى قصورهم وبلاطاتهم بهدف الاستئناس بأغانيهم والتخفف من أثقال الحروب والصراعات المختلفة. حتى إذا ما استُحدث تقليد كتابة الشعر في وقت لاحق، طُلب إليهم التغزل بنساء الأمراء وامتداح جمالهن ومقامهن السامي، على أن لا تتجاوز العلاقة بين الطرفين علاقة التابع بالمتبوع والخادم بسيدته، وكان الفرسان ومنشدو البلاط يقدمون فروض الولاء لهذه السيدة المثقفة، الموسرة والجذابة.

أما دينيس دي ريجمون صاحب كتاب «الحب والغرب»، فيستبعد أي دور للعامل الاجتماعي في نشوء ظاهرة التروبادور، لأن وضع المرأة في الجنوب الأوروبي لم يكن أقل ضعة وتبعية من وضعها في شمال القارة. إلا أنه يقيم نسباً واضحاً بين التروبادور والشعراء الكاتاريين، الذين بدا عشقهم للمرأة نوعاً من الديانة الخاصة، معتبراً أن كلاً من الطرفين قد استلهم في تجربته الحركات الصوفية والغنوصية، إضافة إلى الديانات الفارسية القديمة. وفي إطار بحثه عن منشأ تلك الظاهرة، لم يركن المؤلف إلى مصدر واحد، بل قادته الحيرة إلى العديد من الفرضيات، التي تأتي في طليعتها الديانة المانوية القائمة على التعارض الضدي بين الخير والشر، وبين قوى النور وقوى الظلام، والمحكومة على الدوام بالروح الغنائية والقلق الدائم، بعيداً عن أي تصور للعالم، عقلي وموضوعي.

ولأن هذا المعتقد يرى في الجسد عين الشقاء، وفي الموت الفداء الحقيقي لخطيئة الولادة، فقد أكد الباحث الفرنسي بأن التروبادور كالمانويين، قد أنكروا كل حب شهواني محسوس، ورأوا أن العشق المتعفف والزهد بالملذات، هما الطريقة المثلى لخلاص الإنسان. إلا أن دي رجمون الذي لم ير في تجربتهم سوى نبتٍ هجين تتصل جذوره بالديانات الوثنية القديمة، كما بتيارات الزندقة والحركات الغنوصية والصوفية المتطرفة، ما يلبث أن يغادر مربع الحياد البحثي، ليتبنى موقفاً أخلاقياً مفضياً إلى إدانة التجربة العشقية للتروبادور، الأقرب في رأيه إلى الزنا والهوس المرضي بالمرأة، وليقف بشكل حاسم إلى جانب الزواج الديني الشرعي.

ومع أن في قول دي رجمون بأن الهوى الجامح هو المعادل الرمزي للمشاعر القومية والدينية التي غذت الحروب، جانباً من الحقيقة أكدته مشاركة بعض العشاق الفرسان في الحروب الصليبية، فإن الجانب الآخر يؤكد أن هؤلاء الشعراء قد أحلوا الحب محل الحرب، والتزموا في عشقهم بشعائر وطقوس شبيهة بالطقوس والشعائر الدينية. فالمرأة في معادلة العشق التروبادور هي «السيدة» المتعالية التي لا يُفترض بالعاشق أن يغزو حصونها المنيعة بالسلاح، بل بالمديح الشعري والموسيقي النابضة بالرجاء. وكما يقسم الناس لملوكهم بالولاء والطاعة، فإن الشاعر الفارس يقسم راكعاً على ركبتيه، بالإخلاص الأبدي لسيدته، فيما تقوم من جهتها بإعطائه خاتماً من ذهب، طالبة إليه النهوض ومكافئة إياه بقبلة على جبينه.

وبصرف النظر عن اجتهادات الباحثين المتباينة حول الأسباب والعوامل التي أسهمت في نشوء هذه الظاهرة وانتشارها وتألقها، فالثابت أنها استطاعت أن تتحول إلى علامة فارقة في الثقافة الغربية لما يقارب القرون الثلاثة من الزمن، قبل أن يغرب نجم الإقطاع وتتقهقر تقاليد الحب الفروسي. وإذ اعتبرت الكاتبة الأميركية لاورا كندريك في كتابها «لعبة الحب» أن التروبادور قد استخدموا لغة الشعر بطريقة جديدة، ولعبوا بالكلمات كما لو كانت أدوات وأشياء مادية من صنع أيديهم، فإن سلوكياتهم وطرائق عيشهم قوبلت باعتراض صارم من قبل الكنيسة، التي نظرت إلى تلك السلوكيات بوصفها إهانة لتعاليمها وأهدافها الحاثة على الزواج الشرعي. ولأن الكنيسة كانت ترى في كل علاقة تحدث خارج السرير الزوجي، حتى لو ظلت بعيدة عن الترجمة الجسدية، حالة من أحوال الزنا «النظري»، أو إسهاماً في قطع دابر التكاثر، فقد شنت ضد هؤلاء الشعراء العشاق حرباً لا هوادة فيها، إلى أن تمكنت من القضاء على الظاهرة بكاملها في أواخر القرن الثالث عشر. إلا أن زوال العصر الذهبي للتروبادور، لم يفض بأي حال إلى إزالة شعرهم من الخريطة الثقافية الغربية، بدليل أن هذا الشعر قد ترك، باعتراف كبار النقاد، بصماته الواضحة في الشعرية الأوروبية اللاحقة، بدءاً من دانتي وبترارك وتشوسر، وليس انتهاءً بعزرا باوند وت. س. إليوت وكثرٍ آخرين.