مؤسسة الفكر العربي وأسئلة الفكر

تفردها يأتي من كونها تجمع بين العمل الثقافي والنشاط المالي

الأمير خالد الفيصل يلقي كلمته في افتتاح مؤتمر «فكر 15» بأبوظبي  الذي نظمته مؤسسة الفكر العربي من 12 إلى 14 من هذا الشهر
الأمير خالد الفيصل يلقي كلمته في افتتاح مؤتمر «فكر 15» بأبوظبي الذي نظمته مؤسسة الفكر العربي من 12 إلى 14 من هذا الشهر
TT

مؤسسة الفكر العربي وأسئلة الفكر

الأمير خالد الفيصل يلقي كلمته في افتتاح مؤتمر «فكر 15» بأبوظبي  الذي نظمته مؤسسة الفكر العربي من 12 إلى 14 من هذا الشهر
الأمير خالد الفيصل يلقي كلمته في افتتاح مؤتمر «فكر 15» بأبوظبي الذي نظمته مؤسسة الفكر العربي من 12 إلى 14 من هذا الشهر

مؤسسة الفكر العربي مؤسسة فريدة في الوطن العربي، فهي مؤسسة «دولية أهلية مستقلة، ليس لها ارتباط بالأنظمة أو بالتوجهات الحزبية أو الطائفية»، كما يشير موقعها على الإنترنت، لكن تفردها يأتي أيضًا من كونها تجمع بين العمل الثقافي والنشاط المالي الذي وإن لم يكن ربحيًا فإنه يربط أصحاب المال، من خلال تبرعاتهم، بمنتجي الثقافة من خلال إنتاجهم. فقد قامت المؤسسة، كما أشار صاحب فكرتها والداعي إلى تأسيسها، الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، في خطابه عام 2000 في بيروت «إلى مبادرة تضامنية بين الفكر والمال تتبنّاها مؤسّسة أهلية عربية تستهدف الإسهام في النهضة والتضامن العربيّين». ذلك التضامن هو مصدر تفرد المؤسسة أو اختلافها، لأن معظم المؤسسات الأهلية تنطلق من كونها غير مرتبطة بأنظمة أو توجهات حزبية أو طائفية (وإن لم يؤد ذلك الانطلاق إلى تساوي المؤسسات في مدى التزامها بما تعلنه من مبادئ). من يتابع نشاط مؤسسة فكر سيتبين أنها بالفعل مؤسسة تسعى لعدم الارتهان لأحزاب أو طوائف أو أنظمة بتركيز النشاط على الجوانب الثقافية أو (حسب تعبير المؤسسة) الفكرية.
لقد مضى على تأسيس مؤسسة الفكر العربي ستة عشر عامًا أنجزت أثناءها الكثير من المؤتمرات وألوان النشاط التي أسفرت عن كتب وجوائز وأطروحات وتفاعلات أخرى. دعيت إلى مؤتمر المؤسسة الأخير في أبوظبي، «فكر 15»، مستضافًا، وللمرة الأولى بعد أن طلبت مني المؤسسة كتابة ورقة عن السياسة الثقافية للملكة العربية السعودية نشرت ضمن تقرير المؤسسة السنوي الذي ضمّ أوراقًا عن السياسات الثقافية ووجوه أخرى من الحياة والنشاط الثقافي في الوطن العربي، أوراقًا كتبتها نخبة من المثقفين والمعنيين بالشأن الثقافي. غير أن حضوري نشاط المؤسسة لم يكن الأول، فقد سبق أن حضرت مؤتمرًا لها حول الترجمة في بيروت، لكن دون أن أكون مستضافًا (تتبع المؤسسة النظام الغربي في الدعوات حيث توجه إلى فئتين: أشخاص يحضرون إن رغبوا على حسابهم، ودعوات رسمية تتكفل المؤسسة بالإنفاق عليها، وهؤلاء يكونون عادة إما من الشخصيات السياسية أو ممن أسهموا أو يسهمون في نشاط المؤسسة أو مؤتمراتها).
غير أن جملة من الأسئلة تتقافز أمامي وأنا أتحدث عن هذه المؤسسة التي أصَّلت نفسها في حياتنا الثقافية وتسير حثيثًا نحو أن توصف بالعراقة. ولعل أول تلك الأسئلة وأهمها: كيف يمكن لمؤسسة ثقافية أو فكرية تعمل في الوطن العربي اليوم أن تنأى بنفسها فعلاً عن المؤثرات والتجاذبات المختلفة سياسية كانت أم طائفية أم حزبية؟ ولعل السؤال يكتسب حدة أعلى حين نتذكر أن مقر المؤسسة بيروت، عاصمة التجاذبات السياسية والحزبية والطائفية في الوطن العربي. كيف يمكن لأحد أن يعمل في بيروت ويبتعد تمامًا عن التجاذبات المختلفة؟ كيف يمكن للتعيينات في المؤسسة أن تخلو من ذلك؟ ألا يكون لمسؤول أو موظف انتماؤه الذي يؤثر على نحو ما في أدائه؟ لكن قبل ذلك: كيف يمكن لرأس المال أن ينجو تمامًا من تفضيلات أو اشتراطات أو ميول؟ إن الهدف من حيث قيمته وأهميته ووضوحه شيء والقدرة على تحقيقه شيء آخر ليس في مؤسسة أو هيئة أو جهة بعينها وإنما بشكل عام. ما يحدث غالبًا هو سعي حثيث لا يخلو من صعوبات ومعاناة في سبيل تحقيق الأهداف النبيلة التي تضعها أي جهة، حكومة كانت أم مؤسسة أم منظمة أم غير ذلك، لنفسها، وهي صعوبات يخلقها الواقع المحيط بضغوطه المختلفة سواء أكانت من خارج تلك الجهة أم من داخلها. وهذا لا يعني بأية حال التشكيك بقدرة الجهات المختلفة، ومنها مؤسسة الفكر العربي، بما يتوفر لها من قيادة ومسؤولين ذوي كفاءات عالية، أن تتغلب على تلك الصعوبات، لكن التحدي يظل قائمًا لا سيما في الوطن العربي، وفي بلد كلبنان بشكل خاص، حيث تتقاطع المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية أيضًا، وتمارس ضغوطها لتفرض توازنات معينة.
وإذا كان نجاح مؤسسة الفكر العربي مما يشهد به الكثيرون ممن اتصلوا بالمؤسسة وعلى أكثر من صعيد في الحفاظ على تلك التوازنات سواء في وضع السياسات والقضايا أو اختيار الأشخاص والأماكن إلى غير ذلك، فإن مؤسسات أخرى قد لا تحقق النتيجة نفسها.
السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هو موقع الفكر في نشاط المؤسسة. فبوصفي معنيًا بالشأن الفكري - من حيث المتابعة والكتابة لا من حيث الانتماء إلى فئة المفكرين - فقد تساءلت منذ البدء هل المؤسسة مؤسسة فكر فعلاً أم مؤسسة ثقافية بالمعنى العام؟ أعلم أن كلا المفهومين، الثقافة والفكر، من المصطلحات الزئبقية، أو التي يصعب القبض عليها وتحديد معالمها، لكن ثمة مؤشرات عامة أو مواضعات متعارف عليها وإن لم ترق إلى درجة الضبط المصطلحي. ومن تلك المؤشرات أو المواضعات التعريف القائل إن الفكر نشاط عقلاني ونظري أقرب إلى التجريد في كونه عصارة ما ينتجه أي فرع من فروع المعرفة الإنسانية، أي مجموع النظريات والمفاهيم التي تؤسس الأطر والمنطلقات التي يتكئ عليها فرع معرفي في نشاطه وما يضيفه لثقافة ما بشكل خاص وللحضارة الإنسانية بشكل عام، ومن المؤكد أن الفلسفة تأتي في طليعة تلك الفروع المعرفية. هذا في حين أن الثقافة تتحرك على مستويين: مستوى المنتج المجتمعي العام من تقاليد وأعراف ومعتقدات ومنتجات ومخزونات فنية ومعرفية، أي ما يعرف بالثقافة غير العالمة، ومستوى المنتج النخبوي لفئات عالمة في المجتمع تصنع المعرفة والإبداع، الفئات التي ينتمي إليها من نسميهم «مثقفين».
هذان المستويان، أيهما أقرب يا ترى إلى نشاط مؤسسة كمؤسسة الفكر العربي؟
في تقديري أن المستوى الثقافي هو الأقرب، بل هو المتصل بما تمارسه المؤسسة في مناشطها المختلفة، فهي مؤسسة معنية بالعمل الثقافي لا الفكري، بعلاقة المثقفين، أي العاملين في حقول الثقافة ومنتجيها، بأصحاب رؤوس المال الراغبين في دعم تلك الحقول. والمثقفون ليسوا بالضرورة مفكرين، أي ليس لمعظمهم إن لم يكن كلهم، منتجات فكرية بالمعنى الذي أشرت إليه أعلاه. ليسوا فلاسفة ولا مفكرين اجتماعيين ولا مفكرين اقتصاديين. الغلبة هنا هي للمثقفين وليس للمفكرين. وحين أقول مفكرين، فإنني أشير إلى أناس من طراز عبد الله العروي وطه عبد الرحمن وعلي حرب من الأحياء، وعبد الوهاب المسيري ومحمد عابد الجابري من المتوفين، وهؤلاء أذكرهم للتمثيل لا للحصر. فلا أعرف أن لمؤسسة الفكر العربي اتصالاً بعمل أولئك ممن أثروا الثقافة العربية بأطروحات تعد مبتكرة في سياقها العربي أو العربي الإسلامي. وإذا كان هذا لا يقلل من قيمة المؤسسة مطلقًا، فإنه يطرح التساؤل عن دقة التسمية حين يقال مؤسسة الفكر العربي. كان يمكن أن تكون الثقافة وليس الفكر هي ميسم المؤسسة، لأن ذلك بالفعل منطقة القوة في عمل المؤسسة بوصفها جسرًا نادرًا من الجسور التي تصل قطاعين طالما كانا متنافرين؛ قطاع المال وقطاع الثقافة، قطاع رجال الأعمال وقطاع المثقفين، ولا شك أن جمعهما كان إنجازًا كبيرًا للأمير خالد الفيصل ومن تضافر معه من رجال الأعمال والسياسة، ومن الصعب تصور أحد آخر أقدر منه على إنجازه. هذا الإنجاز سعى إلى تحقيقه وبنجاح رجل أعمال مثل عبد العزيز البابطين في الكويت من خلال مؤسسته المعروفة، لكن الاختلاف هو أن مؤسسة الفكر العربي جمعت عددًا من رجال الأعمال والمال، منهم عبد العزيز البابطين نفسه، في عمل متضافر لدعم قطاع ظل ولا يزال مفتقرًا إلى ما يكفي من الدعم المعنوي والمادي، فالشكر كل الشكر لمؤسسة الفكر العربي ولمن سار في الطريق نفسه دعمًا لحركة الثقافة والفكر مهما اختلفت التسميات أو اختلفنا على دقتها.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.