تقع كلية «بارد» الصغيرة العريقة على نهر هدسون، شمال نيويورك، في منتصف المسافة بين نيويورك وأولباني (عاصمة ولاية نيويورك)، وتربطها علاقة تاريخية مع جامعة كولومبيا (في نيويورك)، وهي تعتبر كلية ليبرالية. وأخيرا، ظهر اسمها في الأخبار بسبب مظاهرات وندوات طلابية تأييدًا للسود، والمكسيكيين، والمسلمين.
في هذه الكلية، مركز تقدمي مشهور: «مركز حنا آرينت للسياسات والإنسانيات»، الألمانية اليهودية التي انتقدت إسرائيل حتى قبل تأسيسها وتربط الجامعة، بسببها، علاقة أكاديمية مع جامعة القدس الفلسطينية.
يوجد في هذا المركز أكثر من خمسة آلاف كتاب من مكتبتها، وأثاث من غرفتها التي كانت تسكن فيها. ويوجد، على مسافة قريبة من الكلية، قبرها.
ولدت آرينت في عائلة يهودية ألمانية عام 1906. وكتبت، في كتب ذكرياتها، عن علاقتها المتأرجحة مع يهوديتها:
المرحلة الأولى: في روضة الأطفال، «اندمجت، مثل يهود آخرين هناك، في المجتمع الألماني»، وفي المرحلة الثانية، في جامعة ماربيرغ، «تأكدت لي حقيقة أنهم (الألمان) يعاملون اليهود معاملة مختلفة، رغم أن اليهود يريدون الاندماج فيهم»، وفي المرحلة الثالثة، تأرجحت علاقتها مع اليهود أنفسهم. صارت عشيقة أستاذها اليهودي، هايدبيغر. وعندما تنكر لها (كان متزوجًا)، انتقدت إخلاصه ليهوديته. خصوصًا بسبب تعاونه المزعوم مع «الغستابو» (استخبارات هتلر). وعندما تزوجت طالبا يهوديا زميلا لها، قالت إنه «يهودي مخلص»، لكن، عندما طلقها، وتزوج امرأة أخرى، قالت إن يهوديته «لم تكن قوية»، خصوصًا أنه غيَّر اسمه اليهودي.
كتبت، ربما لهذه الأسباب، أطروحة شهادة الدكتوراه عن «فلسفة الحب عند القديس أوغستين» (أبو الفلسفة المسيحية). وأثار ذلك استغراب بعض الفلاسفة.
ثم هربت إلى فرنسا بسبب زيادة اضطهاد واعتقال وحرق اليهود في ألمانيا. وهناك تزوجت يهوديا شيوعيا. وعندما غزت قوات هتلر فرنسا، هربا إلى أميركا. وفي عام 1950، نالا الجنسية الأميركية.
في عام 1959، صارت حنا آرينت أول امرأة تحاضر في جامعة برنستون (ولاية نيوجيرسي). وفيما بعد، حاضرت في جامعات أخرى، قبل أن تستقر في هذه الجامعة. كانت، في ذلك الوقت، متحمسة لتأسيس دولة إسرائيل. واشتركت في حملات لمساعدة اليهود على الانتقال إلى فلسطين.
لكن، في عام 1961، ذهبت إلى إسرائيل، وكتبت عن محاكمة الجنرال الألماني النازي أدولف ايخمان (كان «مهندس الهولوكوست»، وهرب، بعد سقوط النازية، إلى الأرجنتين. ثم عثرت عليه الاستخبارات الإسرائيلية، ونقلته إلى إسرائيل، حيث حوكم بالإعدام، وأُعدم).
كانت محاكمة ايخمان نقطة تحول في نظرة آرينت لإسرائيل. وكتبت عن ذلك في كتابها «ايخمان في القدس». لقد انتقدت، أولاً، في هذا الكتاب سيطرة اليهود الأوروبيين على اليهود الشرقيين داخل إسرائيل، وأدانت، ثانيًا، اضطهاد اليهود، بكل أنواعهم، للفلسطينيين. واقترحت «دولة فيدرالية، علمانية، ديمقراطية، تعددية لليهود والفلسطينيين».
طبعا، عارض كثير من اليهود هذه الآراء. في العام الماضي، حين أقيمت في مركز آرينت في كلية بارد ندوة عن آرينت والفلسطينيين، كتب دانيال كاتكين، وهو مؤلف كتاب عنها، في مجلة «تيكون»، اليهودية التقدمية: «منذ قرابة نصف قرن، انتقد كثير من اليهود آراء آرينت. لكن، نشاهد اليوم أن هذه الآراء تجد ترحيبا كبيرا، ليس فقط حول العالم، وأيضًا، وسط اليهود أنفسهم».
وأضاف: «يجب أن يكون هذا درسًا لنا».
من ناحية أخرى، ناهضت آرينت الشيوعية والنازية كلتيهما. كتبت عنهما في كتابها «أصل الشمولية» أن «الاثنين نوعان متشددان من الشمولية، بسبب تركيزهما على القضاء على أعدائهما. وأن حرق النازيين لليهود كان جزءًا من عداء لكل ما هو غير نازي». اختلفت في هذا مع زوجها اليهودي الشيوعي، لكنها كانت تفصل بين الحياة الخاصة والحياة العامة. وكانت ترى أن الحياة الخاصة (الزواج، والعائلة، والأطفال، والمنزل) تكبل الإنسان، وتمنعه من تحقيق الحرية الكاملة، مفضلة الفردية التي «تقود إلى الإبداع، والاختراعات، والاكتشافات». أما في كتابها «رجال في عصور مظلمة»، فقد فصلت بين النفس والعلم. ومن رأيها أن الاختراعات والإبداعات خدمت الحضارات. لكنها «أبعدت النفس البشرية عن حقيقتها». وتسببت، بالإضافة إلى الحداثة، في «أزمة فكرية كبيرة»، لأنها «وفرت حريات دون حدود. وعقدت الحياة».
لكن فلاسفة وعلماء اجتماع انتقدوها بسبب تركيزها على التفسير الأوروبي للحضارة، واتهموها بإنكار المبادئ الأميركية عن الحرية والعدل و«تفضيلها البيض على السود، وحديثها عن (الأفارقة المتوحشين)»، واعتقادها أن «التفرقة العنصرية جزء من الحرية، إذ يجب أن يكون الإنسان حرا في أن يفعل ما يريد، مهما كان رأي الآخرين فيما يفعل».
وقبل عامين، هنا، في نقاش عن آرينت في مركز «آرينت»، انتقدها عدد من الفلاسفة الأميركيين. وكتب واحد منهم، لورنس فوغيل، عميد كلية الفلسفة في جامعة «نيو سكول» في نيويورك (كانت آرينت أستاذة فيها)، قائلا إنها «انحازت إلى جانب النسبية (مانحة إياها مقاييس بشرية عن الخطأ والصواب)، وإنها ظلت تبحث عن الحقيقة، وهي تتجاهلها. وكذلك أخذ عليها ميلها نحو الفيلسوف اليوناني القديم سقراط، وليس نحو طالبه أفلاطون. (قدم أفلاطون تفسيرًا روحيًا للحياة، بينما ركز أستاذه سقراط على البحث عن المعرفة العلمية)».
وقال فوغيل إنه من المفارقات أن سنت أوغستين (أبو الفلسفة المسيحية) تأثر كثيرًا بفكر أفلاطون، الذي لم يكن طبعًا مسيحيًا.
ومن المفارقات أن آرينت كتبت رسالة الدكتوراه عن سنت أوغسطين نفسه (عن تفسير «الحب» عنده).
ومن جانب آخر، يشيد الكثيرون بآرينت لأنها، بشكل خاص، لم تخلط بين يهوديتها وآرائها، ومحاولتها ربط اليهودية بالمسيحية (بهدف تقليل عداء المسيحيين).
في عام 1976، توفيت آرينت، وكان عمرها 70 عامًا. بعد وفاتها، كشف موقع «وثائق إف بي آي»، أن مكتب التحقيقات الفيدرالي كان يتجسس عليها. وصنفها بأنها «خطر على الأمن الأميركي، وأنها قد تكون (شيوعية بالسر)»، ووصفها بأنها «يهودية، قصيرة القامة، تحلق رأسها مثل الرجال، وتتكلم مثلهم. لكنها ذكية جدًا».
أما فوغيل فوغيل، فقال: «إنها جمعت بين الذكاء اليهودي والخوف اليهودي».
حنا آرنيت... بحث دائب عن الحقيقة
40 عامًا على رحيل صاحبة «أصل الشمولية»
حنا آرنيت... بحث دائب عن الحقيقة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة