باولو جنتيلوني الزعيم الدمث اسمًا وفعلاً

رئيس الوزراء الجديد «أرستقراطي» عاقل يخوض في مستنقع السياسة الإيطالية

باولو جنتيلوني الزعيم الدمث اسمًا وفعلاً
TT

باولو جنتيلوني الزعيم الدمث اسمًا وفعلاً

باولو جنتيلوني الزعيم الدمث اسمًا وفعلاً

ألقى باولو جنتيلوني، رئيس الوزراء الإيطالي الجديد، بيان حكومته في المجلس النيابي قبل أيام لنيل الثقة في قاعة خلت من غالبية قوى المعارضة التي انسحبت بذريعة أن «هذه الحكومة الضعيفة لا تستحق حتى التصويت ضدها!». واستغرق البيان ثلث ساعة جرى خلالها الهمس بين الحاضرين من مؤيدي الحكومة، وكأنه تعبير عن مللهم، لأن النتيجة مضمونة لصالحه.
وصل باولو جنتيلوني (واسم «جنتيلوني» يعني اللطيف أو الدمث بالإيطالية) إلى منصبه الجديد نتيجة فشل سلفه ماتيو رينزي في إقناع 60 في المائة من الناخبين الإيطاليين بتبني إصلاحاته الدستورية التي تعطي رئيس الوزراء مزيدا من الصلاحيات، وتبدل تركيبة مجلس الشيوخ، وتتبنى قانونا جديدا للانتخابات.
غير أن الحكومة الجديدة تُعتبر نسخة طبق الأصل عن الحكومة المستقيلة باستثناء بعض التفاصيل مثل تحويل آنجيلينو الفانو من وزير للداخلية إلى وزير للخارجية، مع الإبقاء على وزيرة الإصلاح الدستوري ماريا ايلينا بوسكي التي جهزت مسودة الإصلاحات الفاشلة في الاستفتاء، وكذلك بقاء رينزي زعيما للحزب الديمقراطي الحاكم يحرك الأمور من وراء الستار.
جيوفاني، أورسينا أستاذ السياسة الإيطالية في جامعة لويس بروما، قال معلقًا: «لقد حشر رينزي نفسه قبل الاستفتاء على الإصلاحات، فحوّله إلى استفتاء على أدائه لذا خسر بنسبة كبيرة». وأردف: «على الحكومة الآن أن تسترجع أصوات الناخبين الذين ابتعدوا عن تأييد الحزب الديمقراطي ليدعموا (حركة 5 نجوم) المعارضة للحكومة وللاتحاد الأوروبي التي يقودها الممثل الهزلي ذو اللسان السليط بيبي غريللو».
على أي حال، فإن اختيار جنتيلوني ليترأس الحكومة الجديدة، بعدما كان قد شغل منصب وزير الخارجية في الحكومة السابقة لمدة سنتين، يعني فعليًا استمرار سياسة يسار الوسط المتبعة في عهد ماتيو رينزي حتى موعد إجراء الانتخابات النيابية المقبلة المقررة عام 2017، قبل انتهاء المدة القانونية للمجلس النيابي الحالي عام 2018.

أرستقراطي دمث وعاقل
ليس لدى باولو جنتيلوني، في واقع الأمر، طموحات سياسية شخصية. فهو رجل يتحدّر من عائلة نبيلة عريقة درس العلوم السياسية في جامعة روما لا سابيينسا المرموقة في العاصمة الإيطالية. ويتميّز، وفق متابعي مسيرته الشخصية والمهنية والسياسية، بسلوكه المسؤول والمشرف. فهكذا عُرف طوال عمله كصحافي عضو في حزب «الخضر» البيئي، ومنذ عام 1993 كعضو في البرلمان، ثم كوزير للاتصالات في حكومة رومانو برودي بين عامي 2006 – 2008.
ويتمتع جنتيلوني بفضل رزانته واعتداله – وكما يقول عارفوه ومؤيدوه بـ«حسن أخلاقه»، بقدر كبير من الاحترام في مختلف الأوساط. وشخصيته الهادئة تختلف تمامًا عن شخصية رينزي (41 سنة)، الشاب الوسيم ذو المواهب الخطابية، والسياسي الغريزي الذي يحب المواجهة ويتسم بالنشاط والحيوية.. وأيضًا بالغرور. وحقًا، يؤخذ على رينزي أنه تصرف بتهور كبير في فترة من فترات صعوده السياسي الصاروخي، مما أفقده تأييد الجناح اليساري من حزبه، وهو الجناح ذو الجذور الشيوعية بزعامة ماسيمو داليما رئيس الوزراء الأسبق.
عودة إلى باولو جنتيلوني، المولود في العاصمة روما قبل 62 سنة، فإنه حين تبوأ منصب وزير الخارجية أثبت أهليته ومقدرته بسرعة لافتة. كذلك برهن، بخلاف غالبية من سبقوه إلى تولّي هذا المنصب، على تمكّنه من اللغة الإنجليزية، وتعامل بسلاسة مع جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، لتأييد الحكومة الليبية برئاسة فايز السراج المدعومة من الأمم المتحدة. وفي الوقت ذاته، كان يساير روسيا بكياسة ودبلوماسية، ويصرح مرارًا بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «زعيم يمكن الوثوق به».
وعلى صعيد آخر، وجّه جنتيلوني دفة السياسة الخارجية الإيطالية نحو الاعتماد على تنمية الاقتصاد والتجارة بدلاً الانخراط في الأزمات السياسية العويصة في العالم. ويذكر عنه أنه أثناء عمله كوزير للخارجية هدّده تنظيم داعش الإرهابي المتطرف لأنه صرح بأن إيطاليا لا تقبل بوجود تهديد إرهابي في ليبيا يبعد عنها بضع ساعات، ووصفه الدواعش يومذاك بأنه «عدو صليبي».

التحديات الاقتصادية
أما الآن، وبعد تولي جنتيلوني رئاسة الحكومة فإن التحديات التي تواجهه صارت أكبر. ولعل أهم مشكلة تواجهه (تواجه إيطاليا) الآن هي الوضع الاقتصادي المتدهور للبلاد، لا سيما الأزمة المالية التي تعصف بعدد من البنوك، خصوصًا أقدم مصرف في العالم (يعمل منذ القرن الخامس عشر) وهو مونتي دي باسكي في مدينة سيينا، بإقليم توسكانيا بوسط إيطاليا الغربي. فلقد طلب هذا المصرف وقتًا إضافيًا ليجد مَن يمول رسملته ولكن دون جدوى، وذلك لأن المستفيدين من قروضه ليس بإمكانهم دفع ديونهم.
ويبدو أن الحكومة الجديدة ستضطر إلى التدخل من أجل إنقاذ هذا المصرف العريق من الإفلاس. وأما المشكلة الثانية المهمة، فتتعلق بانتظار قرار المحكمة الدستورية حول الوضع القانوني لقانون الانتخابات. وهنا من المتوقع أن يقود ماتيو رينزي حزبه في هذه الانتخابات إلا أن الوضع ما زال غامضًا، حتى اللحظة، حول ما إذا بإمكانه إنجاز مهمة توحيد أجنحة الحزب الديمقراطي في وقت قريب.
وجود جنتيلوني على رأس الحكومة الحالية بكفاءته وحسن تصرفه، حسب آراء كثرة من المحللين والمعلقين السياسيين الإيطاليين، من شأنه أن «يضمن الاستقرار في البلاد والاستمرارية في متابعة السياسات الحكيمة في وقت تلوح العواصف في إيطاليا وأوروبا». ويشير المحللون والمعلقون هؤلاءِ، اليوم، من خلال رصد تطورات الساحة السياسية الإيطالية - وبالأخص، الاستفتاء الأخير - إلى وجود خطر جدي يكمن في أن الناخبين ملوا حقًا من الساسة التقليديين الذين اعتادوا السير في طريق تتبادل فيه الطبقة السياسية المنافع رغم اختلافها في الآراء والمواقف، وقد يميلون في الانتخابات البرلمانية المقبلة إلى التصويت لمرشحي الأحزاب الشعبوية مثل «حركة 5 نجوم» و«رابطة الشمال» الانفصالية ما يمكن أن يعرض فكرة الاتحاد الأوروبي للخطر، ويؤدي إلى انسحاب إيطاليا من العملة الموحدة (اليورو).
وبناء، عليه، لا يشك المحللون في أن مهمة رئيس الوزراء الجديد خلال الأشهر المقبلة ستكون شاقة وحافلة بالتحديات، ويذهبون إلى حد القول إن جنتيلوني قد يجد نفسه مضطر لكبح جماح رينزي، رئيسه السابق، مع أن مثل هذا الأمر «يتطلب شجاعة كبيرة».

ماذا يقول خصومه؟
في المقابل، يتهم خصوم جنتيلوني، ومنهم أولئك الذين يحاولون طعنه من الخلف، رئيس الوزراء الجديد أنه «يتأثر كثيرا بأفكار رينزي». وخلال برنامج هزلي على التلفزيون الإيطالي ظهر ممثل فكاهي معروف يدعى موريتزيو كروتزا، يقلد جنتيلوني بصورة متقنة، وفتح معطفه فشاهد المتفرجون جهازًا مخفيًا يتوهّج باستمرار... بينما يقول كروتزا: «الجهاز يوقف ضربات قلبي إذا بُحت بأي شيء لا يعجب رينزي».
وبالفعل، بدأت عدة قوى في المعارضة شن الهجمات على جنتيلوني، ووصفه بأنه «دمية في يد رينزي». وذهب لويجي دي مايو، أحد زعماء «حركة 5 نجوم» في هجماته إلى حد القول: «تعيين جنتيلوني بعد خسارة الاستفتاء يعني خيانة الشعب الإيطالي». والواقع، أن خصوم الحزب الديمقراطي يدركون أن مشكلات الاقتصاد الضعيف وتزايد الهجرة غير الشرعية سلاح فعّال يثير المواطن العادي الذي فقد بهجة الحياة المعروفة في إيطاليا، ومن ثم غدا «مَن هو في السلطة» هدفا طبيعيا لتنفيس مشاعره الغاضبة.
لكن مناصري جنتيلوني يرون أن في تحميله المسؤولية عن مشكلات إيطاليا المتفاقمة إجحافًا وظلمًا كبيرين. أما المراقبون الموضوعيون فيعتقدون أن جنتيلوني بسبب شخصيته الهادئة لا يبدي الثقة المفرطة التي كانت سمة تصرفات رينزي، كما لا يرى المحايدون منهم في «حركة 5 نجوم» الشعبوية الكفاءة والخبرة اللازمتين لحل المشكلات المعقدة لإيطاليا، ومن جانب آخر، فإن فكرة عودة الملياردير اليميني ورئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلسكوني إلى سدة الحكم على رأس حكومة يمين - وسط لا تلقى الاستحسان.
ختامًا، لا شك في أن إيطاليا تمر الآن بفترة انتقالية حساسة، ولا يبدو في الأفق من يعرف كيف ستتطور الأحداث خلال الشهور المقبلة. ولكن ربما سيحاول جنتيلوني أن يضع حدا لمحاولات رئيسه السابق رينزي التدخل في شؤون حكومته، من منطلق أنه زعيم الحزب الحاكم وليس في الأفق من سيخلفه. وبالتالي، فإن احتمالات التخبط أو التشويش واردة في على الدوام، إلا أن إيطاليا (المتعايشة فعليًا مع الهزات والبراكين) دأبت (على امتداد العقود الأخيرة) على اجتراح المفاجآت ومفاجأة العالم... بوقوفها على قدميها بعد كل هزّة سياسية.

بطاقة شخصية
* اسمه الكامل باولو جنتيلوني سيلفيري، ويتحدر من أسرة نبيلة عريقة، ويحمل ألقاب «نبيل فيلوترانو» و«نبيل تشينغولي» و«نبيل ماسيراتا».
* ولد في العاصمة الإيطالية روما يوم 22 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1954. ودرس في مدرسة ليسيوم توركاتو تاسو الكلاسيكية، ثم درس العلوم السياسية في جامعة روما لا سابيينسا في العاصمة، وتخرّج فيها ثم انطلق للعمل في مجال الصحافة.
* متزوّج من إيمانويلا ماورو.
* انخرط في أيام دراسته بحركة طلابية يسارية، ثم بتنظيم «حركة العمال من أجل الاشتراكية». وخلال هذه الفترة أصبح مديرًا لصحيفة «لا نووفا إيكولوجيكا» البيئية. وعبر عمله التقي بحليفه وصديقه المستقبلي فرنشيسكو روتيللي.
* عام 1993 اختاره روتيللي ناطقًا باسمه إبان حملة انتخابات عمدة روما التي خاضها روتيللي وانتصر فيها على منافسه اليميني المتشدد جيانفرانكو فيني. ومن ثم صار جنتيلوني عضوًا في مجلس بلدية روما.
* دخل البرلمان لأول مرة عام 2001.
* عام 2002 كان أحد مؤسسي حزب «الأقحوانة» (يسار وسط مسيحي)، وتولى مسؤولية قيادية وإعلامية في الحزب.
* بين 2005 و2006 شغل منصب رئيس لجنة الرقابة على خدمات البث الإعلامية الحكومية.
* عام 2006 أُعيد انتخابه عضوًا في مجلس النواب عن تحالف «شجرة الزيتون» (يسار وسط) تحت قيادة رئيس الوزراء الأسبق رومانو برودي، ومن عين وزيرًا للاتصالات في حكومة برودي الثانية (2006 – 2008).
* عام 2007 كان واحدًا من 45 عضوًا في اللجنة التأسيسية الوطنية للحزب الديمقراطي، شكلوا من ائتلاف الديمقراطيين الاشتراكيين وديمقراطيي اليسار والجناح اليساري «الأقحوانة» بين الديمقراطيين المسيحيين.
* تكرر انتخابه لمجلس النواب عام 2008.
* خسر معركة انتخابات عمدة روما عام 2013، لكنه فاز مجددًا (للمرة الرابعة) بالانتخابات البرلمانية.
* عام 2014 عيّن وزيرًا للخارجية في حكومة ماتيو رينزي خلفًا لفيديريكا موغيريني، بعد توليها منصب الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي.
* يوم 7 ديسمبر (كانون الأول) 2016 اختير رئيسًا للحكومة الإيطالية.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.