يوسف مليطان.. حالة «داعشية» غامضة تجاوزت تأثيراتها ليبيا

أمام خلفية النزاعين السياسي والعسكري

عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا  («الشرق الاوسط»)
عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا («الشرق الاوسط»)
TT

يوسف مليطان.. حالة «داعشية» غامضة تجاوزت تأثيراتها ليبيا

عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا  («الشرق الاوسط»)
عناصر من « انصار الشريعة» بايعوا داعش وانتقلوا الى سرت وسرعان ماخرجوا منها ايضا («الشرق الاوسط»)

حكاية يوسف مليطان، الشخصية الليبية الداعشية المثيرة للجدل، برزت بين الدواعش ليس في ليبيا فقط، ولكن أيضًا في المركز الرئيسي للتنظيم في العراق والشام. وتوعد أربعة قادة جدد ممن جاؤوا من الخارج إلى ليبيا، أخيرًا، بالثأر له من مدينة مصراتة التي ينتمي إليها غالبية مقاتلي عملية «البنيان المرصوص» ضد داعش في سرت.
غير أن التنظيم الدموي في هذه المدينة الليبية تلقى ضربة أخرى بعد واقعة مقتل مليطان بيومين، حين وردت أنباء عن مقتل القيادي في داعش سرت، المدعو محمد غليو. ومن الملابسات ذات المغزى أن المحققين المتهورين ممن كانوا يستجوبون مليطان وهو يرتعش من البرد والخوف، سألوه عمن يعرف من القيادات الداعشية التي تنتمي لمصراتة وتقيم في سرت، فقال إن من بينهم غليو، وذكر أنه مصاب بطلقة رصاص في صدره، وأنه قد يكون قد فارق الحياة.
تعد واقعة مقتل غليو، وهو أيضًا في الثلاثينات من العمر، نقطة مهمة في مسيرة الليبيين للقضاء على داعش في هذه البلاد التي تعاني من الفوضى منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011. فقد أسس غليو البؤرة الرئيسية لدواعش مصراتة، وانتقل بهم فيما بعد إلى سرت مصطحبا معه مليطان. وهناك أخذ على عاتقه مهمة استقبال الداعشي البحريني الأصل، تركي البنعلي، الذي تدور شكوك حول مقتله هو الآخر في هذه الأيام الأخيرة من معارك سرت.
أما مليطان فكان من بين شباب مصراتة المعجبين بلحية غليو ونظاراته الطبية وطريقته في تحدي كبار قادة مصراتة ممن يجنحون إلى التفاوض السياسي بدلا من الاحتراب وذلك منذ عام 2013. أي قبل سنة من ظهور داعش في ليبيا. كان مليطان وهو يدور في شوارع مصراتة يتوقف ليستمع إلى غليو وخطبه التي كان يلقيها هنا وهناك بألفاظ حادة ولهجة حماسية، فهو قيادي في «كتيبة الفاروق» التي كانت قد أعلنت ولاءها في ذلك الوقت لتنظيم «أنصار الشريعة» وقادتها الذين كانوا وقتها يتحكمون في مدينتي درنة وبنغازي بشرق ليبيا.
كانت ميليشيات مصراتة مشغولة في عامي 2013 و2014 بالنزاع السياسي حول حكم البلاد. وتخوض ضمن تحالف «فجر ليبيا» معارك طاحنة مع منافسين لها من ميليشيات مدينة الزنتان حول مطار طرابلس الدولي. وحين هدأت الأمور بعض الشيء أدرك بعض زعماء مصراتة أنه يمكن الاستفادة من كتيبة الفاروق في مواصلة الحرب في الشرق ضد الجيش الوطني الذي يقوده خليفة حفتر، وضد البرلمان الذي خسر فيه «تيار الإسلام السياسي» معظم مقاعده التي كان يستحوذ عليها في البرلمان السابق (المؤتمر الوطني).
يقول «أبو مسعود» وهو أحد قيادات فجر ليبيا التي حاربت في واقعة مطار طرابلس إن كتيبة الفاروق كانت تميل إلى التطرف منذ البداية. وحين بدأت محاولات استثمار الانتصار في حرب طرابلس سياسيا، رفضت ذلك. كان لدى قادتها، ومنهم مليطان وغليو، رغبة في مواصلة الحرب من أجل ما يؤمنون به، وهو تطبيق الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم. لهذا رأى البعض أن يتم استثمار هذا في الضغط على الجيش وعلى البرلمان. ولم يكن تنظيم داعش قد ظهر في سرت بعد.
ويضيف أنه باختصار جرى دمج كتيبة الفاروق في القوات التي كانت تحاول في أواخر 2014 وحتى بداية 2015، السيطرة على الحقول النفطية الموجودة في الشمال الأوسط من البلاد، أي إلى الشرق قليلاً من مدينة سرت. وكان البعض يرى أنه يمكن لكتيبة الفاروق أن تكون مصدر عون في الحرب التي يشنها تنظيم أنصار الشريعة في بنغازي ضد الجيش الوطني والبرلمان. كما كان بعض قادة مصراتة يسعون لترويض قادة الكتيبة. وعقدوا معهم، داخل معسكراتهم، اجتماعات، وألقوا عليهم محاضرات ودروسا دينية وغيرها.
وبعد محاولات فاشلة في السيطرة على الحقول النفطية شرقي سرت، تحولت الكتيبة إلى مصدر تهديد لمصراتة نفسها. وجرى طرد عناصرها الموجودة في مصراتة إلى مدينة سرت. وكانت أولى العمليات التي شاركت فيها قتل 12 من جنود الصاعقة التابعين للجيش في تلك المنطقة.
ويقول شهود كانوا على صلة بعدد من متطرفي ليبيا، إن مليطان وغليو انتقلا إلى سرت. وهناك جرى الإعلان عن أن المدينة أصبحت مركز داعش في ليبيا. ثم انقسمت كتيبة الفاروق إلى قسمين: قسم استمر على موالاة «أنصار الشريعة» دون أن يبايع داعش وهذا القسم انتقل إلى بنغازي. وقسم أصبح على صلة مباشرة بمركز قيادة داعش في العراق والشام، وهذا رسَّخ قدميه في المدينة وضم إليه كل عناصر «أنصار الشريعة» الذين بايعوا داعش، وبناء عليه جاؤوا من درنة وبنغازي وتونس ومصر وغيرها للإقامة في المركز الداعشي الجديد.
ومع منتصف العام الماضي أصبح داعش يسيطر على سرت بشكل كامل. وظهر مليطان في وسط المدينة بلحية طويلة ولقب جديد هو «أبو همام»، وفقًا لروايات مستقاة من شهود عيان فروا وقتها من سرت وأقاموا في بلدة أجدابيا الصحراوية ناحية الشرق. لكن الخلاف يتعلق بالدور الذي كان يقوم به الرجل. فالبعض شاهده في حلقات الدروس الدينية التي كان يلقيها البنعلي أثناء زياراته إلى سرت. والبعض يقول إنه أصبح في سرت من المقربين من غليو ومساعديه. ويقول بشير، أحد أبناء سرت ممن نزح مع أسرته وأصبح يقيم في أجدابيا: «أبو همام» لم يكن متفقها في الدين لكنه كان محبوبا وسط دواعش المدينة. أحيانا يؤم المصلين في المسجد. وأحيانا يقضي في النزاعات بين الناس، وأحيانا يصدر أحكاما بالإعدام. وأحيانا نسمعه في إذاعة سرت الداعشية يلقي الخطب الحماسية.
وحين دخل «المجلس الرئاسي» المنبثق من حوار الصخيرات لتولي زمام الحكم من طرابلس في نهاية مارس (آذار) الماضي، كان يبحث، على ما يبدو، عن عملية كبيرة يثبت بها وجوده. وكانت العملية التي جرى تجهيزها على عجل، هي محاربة داعش في سرت بداية من شهر مايو (أيار) الماضي. وأثناء التحضير للحرب تبين أن نفوذ كتيبة الفاروق لا يقتصر على سرت بل إن لها متعاطفين موجودين على رؤوس كتائب كانت متمركزة في معسكر الأبرار في بلدة تاورغاء المهجورة من السكان. وهي بلدة تقع على مشارف مصراتة.
وبداية من يوم 20 من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بدأ نشاط كتيبة الفاروق (الفرع الداعشي) ينشط في داخل مصراتة نفسها، وأصبح هذا مصدر قلق كبير، ومصدرا للخلافات بين عدد من قادة المدينة التي تعد من المدن الثرية الواقعة على البحر المتوسط. وشوهد غليو ومعه مليطان وهما يتجولان فيها مع أحد قادتها الكبار. وكان هذا الأمر مثار غضب من جانب مسؤولين عسكريين في مصراتة، خصوصًا أن الكتيبة كانت قد حاصرت القاعدة الجوية في المدينة لمنع الطيارين من الإقلاع بالطائرات الحربية لقصف داعش في سرت.
ووفقًا لشهادة من مصدر عسكري، فإن دخول الرجلين إلى مصراتة التي يتساقط أبناؤها قتلى في الحرب ضد داعش سرت، كان أمرًا مستفزًا. وقال الرجل: «أبلغنا أحد القيادات القبلية التي كانت ترافق غليو ومليطان في ميناء مصراتة البحري في شهر أكتوبر، وقلنا له هل أنت لا تعلم أن الرجلين اللذين معك من قيادات داعش في سرت.. هل أنت لم تر خيام العزاء التي نصباها وسط مصراتة على قتلى قيادات داعش في العراق وسوريا؟». وكانت إجابة القيادي القبلي قوله: «إذا كانت لديكم كل هذه المعلومات عنهما فلماذا لم تلقوا القبض عليهما؟». ويضيف المصدر العسكري أن «غليو ومليطان اختفيا فجأة مرة أخرى من مصراتة وعادا للظهور لمواصلة الحرب ضدنا في سرت». ويشير إلى أن مليطان كان يبدو عليه المرض والهزال في تلك الأيام.
وينتمي مليطان إلى قرية صغيرة في منطقة قصر أحمد المطلة على ميناء مصراتة البحري. وكان قبل الانتفاضة المسلحة المدعومة من حلف شمال الأطلسي «الناتو»، التي أطاحت بحكم القذافي، يعمل موظفا بسيطا في شركة في المدينة. والتحق بالانتفاضة وشارك في محاربة القوات التي كانت تدعم القذافي. وبعد ذلك ظهر مع كتيبة الفاروق وانتقل معها إلى سرت. ويضيف أحد القيادات الأمنية في طرابلس حوله أنه يعد من قيادات الصف الثاني في داعش، وأنه ليس لديه الكثير من المعلومات كما يعتقد البعض ممن يقولون إن عملية قتله كانت لإخفاء علاقات متداخلة بين قادة من مصراتة وقادة من داعش. ويضيف أن أكبر دور لعبه مليطان خلال الشهور الثلاثة الماضية يتلخص في توريد المؤن.
ويشير مصدر آخر على صلة بقوات «البنيان المرصوص» إلى أن مليطان كان يورد للدواعش أسلحة وذخائر وسيارات من مصراتة، وكان صندوقا متحركا ممتلئا بالمعلومات الثمينة؛ ولذا فقتله دون استجواب خطأ كبير. وكان الرجل اختفى عن الأنظار بداية من منتصف شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ولم يظهر لا في سرت ولا في مصراتة، إلى أن بث مقاتلون مقطع فيديو على الإنترنت مطلع الشهر الحالي يظهر فيه مرتديًا بنطلونا وعاري الصدر وهزيلا وخائفا. كان مقيد اليدين والقدمين بين أيدي عناصر غاضبة مما فعله الدواعش من ذبح وتقتيل وسحل وصلب لأهالي سرت منذ التمركز فيها العام الماضي، بالإضافة إلى سقوط مئات القتلى من قوات «البينان المرصوص» خلال الشهور الأخيرة.
وسأله أحد المقاتلين «مَن على حق.. نحن أم أنتم؟» فأجاب: «يا شيخ عالجني فكريًا.. أنا أسير لديك يا شيخ.. راجعني فكريًا». ونهره مقاتل آخر وسأله: «من على حق؟ أجب». فقال مليطان: «أنا أرى أن بعضًا مما تقوم به تنظيم داعش على حق، مثل معاقبة شارب الخمر بالجلد وقطع يد السارق. وهناك أمور أخرى نختلف عليها. هات لي شيخ يقنعني ويراجعني فكريًا».
فقال له ثالث: «كلنا شيوخ». ثم سأله آخر: «قل لنا ما رأيك في قتل الناس وتصليبهم الذي تقوم به (داعش)؟ هل أنتم تقتلون الأسرى؟». فأجاب قائلا: «ما أعرفه من علوم شرعية أن الأسير يمكن أن يُقتل، ويمكن أن يُفدى، ويمكن أن يتم تبادله مع أسرى آخرين».
لا أحد يريد أن يكشف على وجه الدقة كيف جرى القبض على مليطان. ولكن تقول إحدى الروايات إنه خرج من بين أنقاض ضاحية الجيزة البحرية في مدينة سرت هو وزوجته وأطفاله، حيث سلموا أنفسهم إلى قوات «البنيان المرصوص». وتوضح رواية أخرى أن الرجل أصيب في قدميه أثناء الاشتباكات في ضاحية الجيزة، ومن ثم ألقت القوات القبض عليه. وتزيد رواية ثالثة أنه كان قد ترك سرت منذ منتصف الشهر الماضي واختبأ في بيته بقصر أحمد، إلى أن جرى القبض عليه واقتياده إلى سرت لكي يُقتل فيها في المكان نفسه الذي كان يقتل فيه الناس. ولقد جرى ضرب مليطان وتعذيبه قبل قتله بالسكين في ميدان الزعفران وسط سرت.
ويقول مصدر في قوات «البنيان المرصوص» إنه فتح تحقيقًا في الواقعة لمعرفة ما إذا كان القبض على الرجل وتعذيبه وقتله جرى بأيدي القوات التابعة للمجلس الرئاسي، أم أنها عملية انتقامية من ذوي ضحايا داعش. ويضيف أنه «يلقى القبض عليهم أو تسليم أنفسهم يقتادون إلى جهات التحقيق للاستفادة مما لديهم من معلومات تساعد في تخليص ليبيا من خطر التنظيم الدموي».
هذا، ويخشى قادة عسكريون من التكتيكات الجديدة لتنظيم داعش في ليبيا. ووفقًا لمصدر عسكري فقد انتقل عدة مئات من الدواعش من سرت إلى مناطق تقع على تخوم طرابلس من بينها منطقة الخُمس ومنطقة مسلاتة، مع ظهور قيادات جديدة يبدو أنها حلت محل القيادي السابق المعروف باسم «المدهوني» وهو ليبي يحمل جواز سفر عراقي منذ عام 2012، وكان على صلة مباشرة بمركز قيادة التنظيم في العراق والشام.
ويضيف مصدر عسكري أن «المدهوني» سافر إلى العراق قبل ثلاثة شهور ولم يرجع، بينما جرى رصد تحركات لأربع قيادات داعشية جديدة هم: لبناني يدعى «أبو طلحة»، وتونسي يلقب بـ«أبو حيدرة»، وصومالي اسمه «أبو إسحاق»، وليبي يلقب بـ«أبو مصعب».. وكان هذا الأخير يحارب في العراق تحت اسم «أبو حذيفة الليبي». ويشير المصدر إلى أن هؤلاء عقدوا اجتماعًا في منطقة النقازة القريبة من طرابلس، وبحثوا مستقبل التنظيم وإعادة انتشاره في ليبيا، وبدوا غاضبين من خسائر سرت ومن الطريقة التي جرى بها تصفية مليطان.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.