في حلب.. روسيا تعيد صناعة تاريخها القديم

أوامر بوتين دمرت غروزني والمدن السورية تعرضت لقصف بساطي

حلب (2016) (أ.ف.ب)  -  غروزني (2000) (غيتي)  -  كابل (1988) (غيتي)
حلب (2016) (أ.ف.ب) - غروزني (2000) (غيتي) - كابل (1988) (غيتي)
TT

في حلب.. روسيا تعيد صناعة تاريخها القديم

حلب (2016) (أ.ف.ب)  -  غروزني (2000) (غيتي)  -  كابل (1988) (غيتي)
حلب (2016) (أ.ف.ب) - غروزني (2000) (غيتي) - كابل (1988) (غيتي)

كانت وسائل الإعلام الروسية، خلال الأيام القليلة الماضية، مليئة بالتقارير الإخبارية والتكهنات حول «النهاية الوشيكة» للحملة العسكرية التي قادها الرئيس فلاديمير بوتين ضد قوات المعارضة في حلب، ثاني أكبر المدن السورية. وزعمت وكالة «سبوتنيك» الإخبارية التي يسيطر عليها الكرملين، أن روسيا وبقايا جيش رئيس النظام السوري بشار الأسد، إضافة إلى «المتطوعين» من لبنان، والعراق، وأفغانستان، وإيران، والخاضعين لسيطرة طهران، على مقربة من إنهاء عمليات القتال. وإذا ما حدث ذلك، فإن حلب، وهي واحدة من أكبر المراكز في التاريخ الإسلامي، لن تكون أول مدينة في مكانتها التي يقضي عليها الجيش الروسي. ولكن ما يجري في حلب يحمل أصداء ما فعلته روسيا، وفي غالب الأمر بمساعدة من الحلفاء المحليين، في العشرات من المدن الإسلامية الأخرى.
وكانت أولى المدن الإسلامية التي «قضي عليها»، بطبيعة الحال، هي مدينة قازان عاصمة الخانية المسلمة التي حكمت روسيا نفسها لما يزيد على قرنين من الزمان. ولقد أنشئت مدينة قازان في بداية القرن الحادي عشر الميلادي لتكون مركزًا تجاريًا يربط بين السهول وبين سيبيريا المترامية الأطراف.
أرسل كثير من الخلفاء الدعاة إلى المنطقة من أجل تحويل السكان المحليين إلى الدين الإسلامي. وفي ذلك الوقت، أصبحت قازان وضواحيها واحدة من المناطق القليلة التي اعتنقت الإسلام ديانة، ومن دون أن يغزوها الجيش الإسلامي. وفي بدايات القرن الخامس عشر الميلادي تحولت مدينة قازان إلى المدينة الرئيسية للتتار، وهم بقايا القبيلة الذهبية لجنكيز خان، والتي اعتنقت الإسلام. ولقد أعلنت مدينة قازان رسميا عاصمة للخانية في عام 1438، وهي الوضعية التي احتفظت بها حتى عام 1552 عندما تعرضت للغزو من قبل القيصر الروسي إيفان الرهيب.
تمكن إيفان من السيطرة على قازان بفضل تعاون البكوات الباشكيرية الذين على غرار بشار الأسد اليوم، زعموا أنهم من المسلمين، ولكنهم كانوا مستعدين لمساعدة جيش «الكفار» في غزو مدينة الإسلام قازان والسيطرة عليها. اجتاحت قوات إيفان، بمساعدة الحلفاء المحليين، المدينة ودمروها تماما وقطعوا رؤوس أكثر من 100 من زعماء التتار. القبة المقوسة لكاتدرائية القديس باسيل في موسكو، والتي شيدت في عام 1561، تمثل النصب التذكاري للاحتفال بانتصار القيصر إيفان الرهيب على المسلمين، وهي تجسد الرؤوس المقطوعة لزعماء التتار المسلمين بعمائم وأغطية الرؤوس المشهورة لديهم. وعلى مر القرون، أعاد شعب قازان بناء مدينتهم، بما في ذلك كثير من المساجد والمدارس الدينية التي سوّاها الجيش الروسي بالأرض.
والموجة الثانية من الدمار الروسي جاءت بين عامي 1920 و1930 عندما صدرت الأوامر من لينين وخليفته ستالين بإزالة آثار الإسلام كافة من مدينة قازان مرة أخرى. ومجددا، كان الحلفاء المحليون لروسيا، بمن فيهم أتباع سلطان التتار الشيوعي علييف (أو غيلاييف باللغة الروسية) قد ساعدوا القوات الروسية مثل ما يصنع بشار الأسد الآن في حلب.
المسلمون الباشكيريون الذين ساعدوا القيصر إيفان في تدمير قازان، لم يَسلَموا هم أنفسهم من المصير الرهيب على يد نفس القيصر. فلقد سوى عاصمتهم (عوفا) بالأرض في عام 1557، واستبدل مسجد المدينة الكبير بكنيسة سانت ترينيتي. وفي هذه المرة لعبت عصابة من اللصوص التتار بقيادة شخص يدعى شيباك بك نفس الدور الذي يلعبه بشار الأسد اليوم، عن طريق التعاون مع الغزاة الروس.
ومن المدن المسلمة الكبيرة التي دمرها الروس أيضا كانت مدينة (ميرف)، وهي من حواضر آسيا الوسطى التي أبهرت الناس خلال الإمبراطورية الأخمينية (550 - 330 قبل الميلاد). استولى الروس على المدينة في عام 1881، وكان «الخائن» المسلم في هذه المرة هو المغامر علي خانوف، الذي انضم إلى الجيش القيصري وحصل على رتبة عقيد هناك. وعلى العكس من قازان وعوفا اللتين تمكنتا من التعافي من المحن والمآسي التي تعرضتا لها بعد قرون لاحقة، لم يعد هناك ذكر لمدينة ميرف بعد دمارها الأول وحتى الآن. وحتى يومنا هذا، ليست تلك المدينة سوى كومة من الأطلال القديمة.
وجاء الدور على مدينة (باكو) في القرن الثامن عشر الميلادي لتعاني من الدمار الروسي، وهي عاصمة إقليم شيروان الإيراني، والذي أعيد تسميته أذربيجان الآن.
وخلال الخمسين عاما التالية، انتقلت باكو بين الأيدي الروسية والإيرانية ثلاث مرات. وكان الضم النهائي من قبل روسيا تحت معاهدة «تركمانجاي» في عام 1828، بعدما انحاز «الخونة» المحليون إلى جانب الروس، وكانوا هذه المرة تحت قيادة زعماء قبائل الترك وبعض الأقليات المسيحية. وكان سكان المدينة، ويقدرون بنحو 20 ألفًا في ذلك الوقت، ويعود أغلبهم إلى قبائل التاتيين والطاليين، قد أجبروا على النزوح من المدينة إلى إيران حيث عاشوا هناك مهاجرين.
وفي الآونة الأخيرة، دبرت روسيا التدمير الكامل لاثنتين، على الأقل، من المدن المسلمة: كابول عاصمة أفغانستان، وغروزني عاصمة جمهورية الشيشان المستقلة. دمرت كابول خلال الاجتياح السوفياتي والاحتلال الذي تلاه في الفترة بين عامي 1980 – 1989، عندما كان المتعاونون المحليون مع القوات السوفياتية هم فصائل الشيوعيين الأفغان، فصيل (خلق، أي الشعب) وفصيل (بارشام، أي الراية). أما الميليشيات الأوزبكية، والمعروفة باسم (غليم – جام، أي لصوص السجاد)، والذين تم تجنيدهم بواسطة الجيش الأحمر السوفياتي، فقد لعبوا نفس الدور الذي تلعبه قوات بشار الأسد في حلب اليوم.
كانت غروزني هي ساحة المعركة بين روسيا والشيشان منذ القرن الثامن عشر. ولكن تدميرها النهائي جاء في يناير (كانون الثاني) من عام 2000، عندما صدرت الأوامر من فلاديمير بوتين بتنفيذ عمليات القصف البساطي من النوع الذي تشهده حلب الآن. وكما هو الحال في حلب، أصدرت روسيا الأوامر بوقف إطلاق النار للسماح للمدنيين بالمغادرة. وبمجرد الانتهاء من ذلك، شنت القوات الروسية هجومها النهائي. بحلول السادس من فبراير (شباط) من عام 2000، تم رفع العلم الروسي في وسط المدينة التي تحولت الآن إلى كومة من الأنقاض. وبعد ستة عشر عاما أخرى، أصبح تعداد سكان غروزني أقل بمقدار الثلث عما كان عليه الأمر في عام 2000. ومن بين منازل المدينة البالغ عددها 6700 منزل في عام 2000، لم تتم إعادة بناء إلا 900 منزل فقط منها.
وفي غروزني، لعب رمضان قاديروف وأتباعه من الجماعة الصوفية التي ينتمي إليها، دور بشار الأسد الحالي في حلب. وفي حالة روسيا وجيرانها من المسلمين، يعيد التاريخ نفسه، وفي كل مرة بمأساة أعمق من سابقتها.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟