تغير ولاءات المتحاربين يُربك طرابلس

تحشيد ميليشياوي في العاصمة الليبية.. وهروب مئات العائلات إلى الصحراء

مقاتلان ليبيان في طرابلس
مقاتلان ليبيان في طرابلس
TT

تغير ولاءات المتحاربين يُربك طرابلس

مقاتلان ليبيان في طرابلس
مقاتلان ليبيان في طرابلس

دخلت «حكومة الوفاق» التابعة للمجلس الرئاسي إلى العاصمة الليبية طرابلس، أواخر العام الماضي، تحت حماية ميليشيات منتشرة في طرابلس، بعضها تعود أصولها للعاصمة، وبعضها تعود أصولها إلى مدينة مصراتة المشهورة بالحرب والتسليح القوي. ويقول المبعوث الأممي إلى ليبيا مارتن كوبلر إنه لا يمكن لأي حكومة أن تعمل اعتمادًا على الميليشيات. وراهنًا يوجد في طرابلس ما لا يقل عن عشرين ميليشيا كبيرة بالإضافة إلى عشرات المجاميع المسلحة الصغيرة التي تتخذ من الغابات المجاورة والضواحي البعيدة مقارّ لها. أما الميليشيات الكبيرة فلها تمركزات معروفة.
لا أحد ينام هنا. خرج طابور مكون من خمس سيارات مسلحة واقترب من مقر سجن الهضبة. في المبنى الضخم القريب من طريق مطار طرابلس الدولي المحترق، توجد عشرات من قادة النظام الليبي السابق. من بينهم رئيس مخابرات القذافي وآخر رئيس لحكومته، بالإضافة إلى رئيس جهاز الأمن الخارجي. خلال أقل من أسبوعين تحولت طرابلس إلى برميل بارود كبير. من يريد أن ينتقم ممن؟ كلٌ يضع يده على الزناد ويستعد لإطلاق النار وهو لا يأمن لمن يقف إلى جواره. إنها حروب الإخوة الأعداء. أما السلاح والبارود فمتوافر بلا حدود.
دارت السيارات الخمس حول المقر. هذه تبدو أنها طلعة استكشافية قبل محاولة لاقتحام مقر السجن. من يقف وراءها؟ هل هي قوات تابعة لوزارة الداخلية أم أنها قوات تابعة لوزارة الدفاع؟ وأين المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق التابعة له من كل هذا؟ وأين حكومة الإنقاذ المنافسة لها، برئاسة خليفة الغويل؟ في وقت متأخر من الليل ظهرت حركة غير طبيعية في العمارات المجاورة لمبنى السجن من الجهة الشرقية. لقد زاد عدد السيارات المسلحة من خمس إلى أكثر من عشرين كما بدا في وسط العمارات. وبدأت أقدام العناصر الملثمة التابعة للميليشيات تضرب على درجات السلالم. والتمركز على الأسطح.
وبالتوازي مع هذه التحركات الخاطفة والسريعة بدأ فريق آخر من الملثمين في الطرق على أبواب الشقق: اخرجوا.. اهربوا.. توجد حرب هنا. هيا.. هيا. كما أنتم، لا تأخذوا شيئًا لا يوجد وقت. احملوا صغاركم واهربوا فورا. ثم انقطعت الكهرباء عن منطقة الهضبة بالكامل.
في الشوارع المظلمة حيث الريح الباردة التي تضرب بقوة مقبلة من الشمال، تسللت عشرات العائلات وبدأت تهيم في الطرقات بحثا عن مخرج. من لديه أقارب سيذهب إليهم، لكن ما مصير الآخرين الذين لا أقارب لهم ولا أصدقاء يمكن أن يفتحوا لهم أبواب بيوتهم في هذا الوقت المتأخر والمخيف من الليل؟!

مَن يحارب مَن؟
من يحارب مَن؟ هذا سؤال تصعب الإجابة عنه. فالقوات التي يقودها عسكري قديم يدعى العقيد بادي، بدأت في الدخول إلى طرابلس. لكن لا حكومة التوافق ولا حكومة الإنقاذ المنافسة لها، ولا قادة سجن الهضبة التابعون اسميًا لوزارة العدل، يعلمون بوجهة قوات «بادي»، وما إذا كانت ستحارب مع هذا الفريق أو ذاك. إنها أيام المتاهة.. إنها ليلة طويلة لن ينام فيها أحد في طرابلس. أولا لديك فريق من الجماعة الليبية المقاتلة الموالية في الأصل لتنظيم القاعدة، يريد أن يهاجم سجن الهضبة الذي يديره قيادي في الجماعة نفسها يدعى «أبو حازم». لقد تحول أبو حازم، منذ شهور، إلى خصم لرفاقه القدامى، وهذا أمر شرحه يطول وسترد تفاصيله لاحقًا.
ولديك فريق ثان هو خليط من الجماعة المقاتلة ومن جماعة الإخوان ومن مجموعة الغرياني، أو المفتى الليبي السابق. وأكثر قادة هذا الفريق أصبح لديهم نزوع قوي للانتقام لمقتل أحد الدعاة المحسوبين عليهم، ويدعى الشيخ نادر العمراني. لقد قُتل العمراني في ظروف غامضة، لكن المسؤولية جرى تعليقها في عنق جماعة منافسة تعمل تحت لافتة وزارة الداخلية، رغم أنها لا تتبع الوزارة في أي شيء عدا الحصول على الرواتب الشهرية لعناصرها. بدأ الاحتشاد بين كثير من هذا النوع من الفِرق منذ أواخر الشهر الماضي. ومع بداية الشهر الحالي بدأ فتيل الحرب يشتعل في ضواحي في طرابلس. أصبح في الإمكان سماع دوي الانفجارات ورؤية ألسنة الدخان الأسود وهي تتمايل مع الريح فوق رؤوس العمارات.
أعادت الدبابات تمركزها في ضاحية أبو سليم، وظهرت طوابير السيارات الصغيرة ذات الدفع الرباعي والمحمول عليها مدافع من عيار 14.5 ملليمتر و23 ملليمترًا. وانفجرت عدة صواريخ من نوع «غراد» في محيط منطقة معيتيقة التي يوجد فيها مطار مدني وسجن وعدة معسكرات لجماعات مسلحة متنافسة. اشتعلت حدة الاشتباكات جوار فندق ريسكوس ومجمع قصور الضيافة ومنطقة بن غشير. وسقط حولي عشرة قتلى وأصيب عشرات آخرون.
شغل «أبو حازم» منصب وكيل وزارة الدافع الليبية عقب سقوط نظام القذافي. وفي الوقت الحالي يدير سجن الهضبة. وهو قادم في الأساس من الحرب ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. كانت له علاقات جيدة مع زملائه القدامى، ومن بينهم عبد الحكيم بلحاج، القائد السابق في طرابلس. ومن بينهم أيضًا سامي الساعدي، وعبد الوهاب قائد شقيق أبو يحيى الليبي الذي قتل في غارة أميركية في عام 2012 في باكستان. كل هؤلاء، وغيرهم، أعضاء لهم أهمية في الجماعة الليبية المقاتلة التي تأسست في أفغانستان في أواخر ثمانينات القرن الماضي. لكن خلال السنوات الخمس التي أعقبت مقتل القذافي أصبحت العلاقات فيما بينهم ليست على ما يرام في معظم الوقت. وتصل المنافسة فيما بينهم أحيانًا إلى درجة الاقتتال، كما حدث الأسبوع الماضي.

اختلاف الولاءات
ظهرت معظم المشكلات بين المجاميع المسلحة التي يديرها قادة من «الجماعة الليبية المقاتلة» بسبب اختلاف الولاءات في العاصمة، إذ إن الغالبية العظمى من قادة هذه الجماعة ينشطون فقط في طرابلس. ومن النادر أن تجد لهم مقاتلين أو تشكيلات مسلحة خارج العاصمة. على سبيل المثال كان المقاتلون التابعون لـ«الشيخ الساعدي» يعملون جنبا إلى جنب مع المقاتلين التابعين لـ«أبو حازم»، لكن مجموعة من أنصار الساعدي شاركت في عمليات لم يرض عنها «أبو حازم». كما أن موالين للساعدي أصبحت لديهم علاقات عسكرية قوية مع قادة في جماعة الإخوان. أضف إلى ذلك أن الساعدي مسؤول في دار الإفتاء التي يرأسها الغرياني.
الشيخ العمراني الذي قُتل قبل أسبوعين، كان محسوبا على جماعة الساعدي وعلى جماعة دار الإفتاء وعلى جماعة الإخوان المسلمين أيضًا. وهذا التيار لم يعد ينسجم مع التيار الذي يقوده «أبو حازم». أما أهمية هذا الأخير فتكمن في عدد السجناء الذين يخضعون لإدارته ونوعهم. غالبيتهم سجناء من عهد النظام السابق، لكن يوجد أيضًا سجناء من تيارات مختلفة. من بينهم سجناء تابعون لتنظيم داعش، جرى القبض عليهم أثناء قدومهم من منطقة الحرشة والزاوية إلى العاصمة. وتعد الحرشة والزاوية مناطق نفوذ لخليط من قادة المتطرفين. من بينهم فرع للجماعة الليبية المقاتلة بقيادة أبو المنذر. ومن بينهم فرع آخر يديره رجل خطير يدعى «هدية»، ولدى هؤلاء اتصالات وتنسيق مع فرع من فروع جماعة الإخوان في غرب طرابلس.
ومن بين الاتهامات الموجهة إلى «أبو حازم» أنه يستغل سجناء النظام السابق للتفاوض بشأنهم وتحقيق مصالح سياسية له. كما أن احتجازه لعناصر تابعة لجماعات أخرى جعل السجن في مرمى النيران. حين بدأت التحركات العسكرية على أرض طرابلس لم يكن أحد يعلم على وجه الدقة مَن يريد أن يهاجم مَن، ولماذا. المتهمون بقتل الشيخ العمراني كانوا يتحصنون في منطقة معيتيقة. والمتهمون بالتعاون مع قادة من النظام السابق يتمترسون خلف مواقعهم في منطقة الهضبة. والمتهمون بقتل مخزن أسرار أبو المنذر ويدعى «بوخشيبة»، يتحصنون في ضاحية «أبو سليم»، وهم متهمون أيضًا بالتعاون مع كل من تنظيم داعش وتنظيم جند الحق التابع له (في الحرشة والزاوية.
وفي الأول من الشهر الحالي، انطلقت مجموعة من السيارات المدججة بالمدافع والمقاتلين الذين يحملون الأسلحة الرشاشة وقذائف الـ«آر بي جيه»، إلى «أبو سليم». وبدأت الاشتباكات مع مجموعة محسوبة على الجماعة الليبية المقاتلة بقيادة رجل يدعى درمان. المشكلة هنا تكمن في أن مجموعة درمان لديها تعاون مع متطرفي «الحرشة والزاوية».. أي من «داعش» و«جند الحق». وهذان التنظيمان لديهما تعاون مع المجموعة المتمركزة في أبو سليم. كانت حرب متداخلة يتقاتل فيها رجال كانوا حتى عصر اليوم يتناولون طعام الغداء مع بعضهم بعضًا. والآن جرى اجتياح معسكر 77 وغابة النصر. لتشتعل النار بعد ساعات أمام بوابة سجن الهضبة.

صراع «الحكومتين»
وفي اليومين التاليين بدأ قادة سياسيون من المحسوبين على «اتفاق الصخيرات» والمجلس الرئاسي وحكومته يتخذون تدابير احتياطية لحماية ما تبقى من مقرات لهم في العاصمة. فقد كانت ميليشيات تابعة لحكومة الإنقاذ التي يرأسها الغويل، قد استولت على بعض المقار التابعة لحكومة الوفاق. ومن بين المشكلات التي يواجهها القادة السياسيون في طرابلس، سواء كانوا من المجلس الرئاسي أو من حكومة الإنقاذ، هي سرعة تغير ولاءات الميليشيات. فإذا لم يتمكن المجلس الرئاسي من صرف رواتب هذه الميليشيا، اتجهت بكشوف الصرف إلى حكومة الإنقاذ. ومن أشهر المجاميع التي فاجأت الطرابلسيين بتغيير ولائها بسبب تأخر الراتب، مجموعة ما يعرف بـ«الحرس الرئاسي» التي انتقلت بكل بساطة من حراسة مقار مجلس السراج إلى حراسة مقار الغويل.
غالبية الميليشيات تتقاضى رواتب من خزينة الدولة. وهذا النظام جرى وضعه على يد الحكومات التي جاءت بعد سقوط نظام القذافي. وكان الحكام الجدد الذين ظهروا في العاصمة منذ عام 2012 قد قرروا الاعتماد على الميليشيات في حماية المقار الحكومية والسفارات الأجنبية والمنشآت العامة وحراسة الحدود، في مقابل تخصيص ملايين الدولارات كرواتب شهرية لعناصر هذه الميليشيات.
وفي الحرب الأخيرة ظهر في الخلفية تنافس بين المجلس الرئاسي وحكومة الإنقاذ على شراء ولاءات الميليشيات بتخصيص أجولة من الدولارات لقائد هذه الميليشيا أو تلك. ويقول كوبلر إن العاصمة بصدد تشكيل حرس نظامي يتولى حماية المقار الحكومية والسفارات والمنشآت المهمة. ووجد البرلمان الليبي الذي يعقد جلساته في شرق البلاد الفرصة ليقول قبل يومين إنه لا يمكنه أن يتعامل مع مجلس رئاسي يعتمد على ميليشيات.
إلا أن الواقع على الأرض يتغير سريعًا. فبمرور الوقت وتراجع درجة الثقة في المتحاربين داخل طرابلس، أرسل عدد من القادة المحسوبين على اتفاق الصخيرات والمجلس الرئاسي طالبين النجدة من أبناء عمومتهم في مدينة مصراتة ذات التسليح القوي. كان معظم مقاتلي مصراتة يحاربون تنظيم داعش في سرت، تحت اسم «قوات البنيان المرصوص». وصدرت الأوامر: «تعالوا لنجدتنا في طرابلس. اتركوا سرت وتعالوا». كيف هذا.. والحرب لم تنته بعد في سرت؟! وجرى التوجيه بإصدار بيان يعلن انتهاء القتال في سرت وتطهيرها من «داعش». وهو أمر أغضب كثيرًا من القادة العسكريين في «البنيان المرصوص». لكن هذا لم يمنع من توجيه أرتال من جبهة سرت لحماية مقار المجلس الرئاسي في طرابلس.
وفي الشوارع، كانت النيران تشتعل في العاصمة. وسمع صوت قذائف المدفعية في منطقة بن غشير. ثم ارتفع هدير الانفجارات في ضاحية أبو سليم. وغطى الدخان الأسود سماء المدينة.
يشغل العمراني عضوية دار الإفتاء الليبية. وتعرض في مطلع الشهر الماضي للاختطاف. وأبدى عدد من قيادات الجماعة الليبية المقاتلة تعاطفًا. وشارك بعضهم في ندوة تدعو إلى سرعة الإفراج عنه بحضور ابنته، سارة، التي ألقت كلمة مؤثرة أبكت بعض الحاضرين. لكن جرى بعد ذلك بنحو ثلاثة أسابيع بث شريط فيديو يتضمن اعترافات من أحد الشهود على واقعة قتل العمراني على يد إحدى الجماعات المحسوبة اسميًا على وزارة الداخلية التابعة للمجلس الرئاسي.
ولم يستغرق حشد المقاتلين للانتقام وقتًا طويلاً. فجأة بدأت التحركات في مناطق اسبيعة وسوق السبت وسوق الخميس. وقامت قوة مسلحة مشتركة، تضم عناصر من كتائب طرابلس ومصراتة، ومحسوبة على الغرياني بمداهمة مبنى جهاز مكافحة الجريمة الموجود في منطقة اسبيعة. وتتهم الجماعة المحسوبة على الغرياني أحد مسؤولي الجهاز بقتل العمراني بسبب خلافات في التوجه الديني.
وبدأت قوات الردع المستهدفة من قوات الغرياني تستعد للدفاع عن نفسها في قاعدتها الرئيسية في منطقة «امعتيقه» والمناطق والطرق المحيطة بها. وأخرجت أسلحتها الثقيلة. ومن الجانب الآخر احتشدت قوات تابعة لـ«بادي» في منطقة صلاح الدين وطريق المطار. وبالتزامن مع هذا دخلت السيارات الخمس لاستطلاع منطقة الهضبة تمهيدًا للهجوم على السجن. لم يكن عليها أي شيء يدل على هويتها أو تبعيتها لأي كتيبة أو ميليشيا. وجرى على الفور تحريك الدبابات إلى باب المقر، وزيادة عدد الحراسة حول السجن ونشر القناصين وتزويد أفراد الحراسة في أبراج السجن بقذائف «آر بي جيه».

البُعد القَبَلي
الذي أسهم في صب مزيد من الزيت على نيران طرابلس، من الخفاء، مجموعة سياسيين كانوا يخشون على ما يبدو من اتهامهم بالوقوف وراء حرب أخرى كانت تدور رحاها بالدبابات بين قبيلة القذاذفة وقبيلة أولاد سليمان في سبها على بعد 600 كيلومتر جنوب العاصمة. من بين ما ظهر من اجتماعات جرت حول هذا الموضوع أن أي اشتباكات في طرابلس من شأنها أن تبعد الأنظار عن سبها وما يجري فيها من اقتتال. وزادت وتيرة التحركات العسكرية في العاصمة خصوصًا قرب منطقة اسبيعة. وبدأت التحذيرات للمواطنين من خطورة التحرك في الطرق والشوارع. وعمم المجلس البلدي في منطقة غريان، غرب طرابلس تنبيها للمواطنين القاطنين في الجبل الغربي من مغبة استخدام طريق اسبيعة في حال توجههم للعاصمة.
ودعا الغويل الليبيين إلى الوحدة وقطع الطريق على من سماهم بالعابثين بأمن الوطن والمواطن. وأصدر أعضاء في المجلس الرئاسي بيانات مماثلة. لكن مَن يسمع؟! لقد وصف أحد هؤلاء الأعضاء قياديًا ميليشاويًا بأنه «لن يستمع للتحذيرات.. إنه يفقد عقله حين يستمع لصوت الرصاص». وبدأ القلق يصل إلى الدول الكبرى. وتلقى رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج اتصالات للاطمئنان. وظهرت طائرة مراقبة أجنبية ذات لون أبيض في سماء العاصمة. طائرة معروفة من دون طيار.
مع هذا اشتعلت الاشتباكات في عدة مناطق. كان هناك خوف من جانب بعض الميليشيات المحسوبة على «الإخوان» وعلى عدد من قادة الجماعة المقاتلة، من تهريب «أبو حازم» لسجناء الهضبة. وفي اليوم التالي تمكنت إدارة السجن من تحديد هوية السيارات الخمس التي تستطلع الأوضاع في منطقة السجن. إنها لمجموعة تاجوراء. والآن تمركزت هذه السيارات أمام بوابة مبنى التموين المقابل للسجن. وبدأ الرماة يجهزون قواذف الـ«آر بي جيه» للرد. لكن السيارات تراجعت واختفت داخل المنطقة السكنية حيث تتمركز باقي قواتها هناك. وصدرت تعليمات بملاحقتها والقبض على من فيها. وبدأت المطاردات ليلاً داخل منطقة العمارات.
وخلال ذلك أصدرت القوات التي تتمركز داخل عمارات الهضبة وعمارات صلاح الدين، تعليمات للسكان بمغادرة بيوتهم. وفعلت ذلك بينما كانت عناصرها تحتل الأسطح وتحولها إلى مواقع للقناصين. وخرج تحت جنح الليل وفي ريح الشتاء الباردة أكثر من 230 عائلة بأولادهم وأطفالهم، وتوجهوا إلى الوديان الجنوبية، لينضموا إلى عدة مئات من أهالي طرابلس الهاربين من الاحتراب الميليشياوي في العاصمة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.