بدأ الانحسار العثماني التدريجي يأخذ مجراه لأسباب تتعلق في الأساس بالمشاكل الداخلية وضعف النخبة الحاكمة وحالة التآكل السياسي في الدولة.
وإلى جانب تولي سلسلة من السلاطين الضعاف الحكم، فإن تغيير مسار التجارة الدولية والانشقاقات الداخلية وضعف السلطة المركزية أدت إلى مشاكل اقتصادية وسياسية متفاقمة، خاصة أن الدولة العثمانية كانت من أكثر الدول تنوعًا عرقيًا ولغويًا ودينيًا بفضل توسعاتها المختلفة بما شمل جنسيات وعرقيات وديانات متباينة.
إلا أن القدر ساق لهذه الدولة خلال هذه المرحلة الحرجة أسرة كوبرولو العظيمة التي مثلت ما يمكن أن نسميه «الصحوة الأخيرة» للدولة العثمانية. وكانت من ثم كفيلة بتحريك الجسد العثماني الخامل بعدما تولى محمد كوبرولو رئاسة الوزراء بدلاً من سلسلة من الساسة الفاسدين والقليلي الحنكة.
ذلك أن محمد كوبرولو كان رجلا مستنيرًا وداهية سياسية من الطراز الأول، ولقد تدرج في المناصب كحاكم لولايات مختلفة بما ساعده على فهم طبيعة الدولة ومشاكلها.
وبمجرد توليه مقاليد الحكم الفعلي في البلاد ترك السلطان لحياته الخاصة وملذاته بعيدًا عن أمور السياسة، وباشر كوبرولو تطبيق «سياسة حديدية» مكنته من السيطرة تمامًا على الدولة بالقضاء على عناصر الفتن في الديوان السلطاني ثم في الدولة ككل من خلال الإعدامات والنفي وغيرهما من الأدوات المتاحة في ذلك الوقت. بعد ذلك اهتم بإعادة بناء الجيش وتدريبه على الأساليب الحديثة خاصة بعد تطور التسليح والتكتيكات العسكرية السريعة في أوروبا.
لم يمهل القدر محمد كوبرولو طويلاً، ولكن مع وفاته انتقلت رئاسة الوزراء إلى ابنه أحمد كوبرولو الذي سار على نهج والده في ممارسة الحكم تاركًا السلطان محمد الرابع لهواياته وملذاته. وسرعان ما أصبح الجيش العثماني جاهزًا للقيام بجولة عسكرية جديدة في المجر التي كانت تمثل مسرح الصراع التقليدي مع النمساويين، وبالفعل، استطاع أن يهزمهم في عام 1663، ولكن في العام التالي صمد النمساويون وهزموا الجيش العثماني في معركة سان غوثارد الشهيرة مع أنها لم تضعف إمكانيات الجيش الذي احتفظ إلى حد بعيد بقوته. وبالتوازي، تفرغ رئيس الوزراء للإصلاحات الداخلية ووضع نظامًا ضريبيًا حديثًا وقضى على نسبة كبيرة من الفساد الإداري السائد في هذه الدولة.
وبحلول عام 1672 فتح العثمانيون الجبهة الأوروبية مرة أخرى بدعم القوزاق الأوكرانيين ضد حكامهم البولنديين، وهو ما زج الدولة في حالة حرب مع بولندا انتهت بهزيمة القائد جون سوبييتسكي، وانتزاع جزء من أراضيه وضمها لحلفائه القوقازيين.
غير أن أحمد كوبرولو توفي فجأة في سن الثانية والأربعين من عمره بسبب إفراطه في شرب الخمر، وتولى من بعده قرة مصطفى رئاسة الوزراء، وفي عهده هزمت روسيا الجيوش العثمانية في شرق أوروبا واستعادت كل الأراضي التي حصل عليها أحمد كوبرولو.
بعدها أراد قرة مصطفى محو خطيئته العسكرية في شرق أوروبا فقرر فتح الجبهة مع النمساويين مرة أخرى في عام 1683 وأرسل جيشًا قويًا إلى المجر لدعم المجريين البروتستانت ضد الكاثوليك، واستغل الفرصة لمحاولة فتح فيينا بعدما فشل في ذلك السلطان سليمان القانوني منذ قرنين من الزمان. إلا أن الرجل كان يفتقر للكفاءة العسكرية لإدارة هذه الحملة أو لحصار النمسا، وارتكب سلسلة من الأخطاء العسكرية إذ فرض الحصار عليها من دون مدفعية ثقيلة تستطيع ضرب الأسوار الشاهقة للمدينة. ثم إن خطة الحصار لم تكن محكمة إضافة إلى وجود ثغرات تكتيكية متعددة، ما اضطره إلى اللجوء لشق الأنفاق من أجل الوصول للأسوار حتى يستطيع أن يلغم الجدران ما فتح المجال أمام المدافعين لإعاقة تحركاته. غير أن أكبر أخطاء السياسي العثماني أنه لم يأخذ احتياطاته في مواجهة الجيش البولندي بقيادة سوبييتسكي الذي كان في طريقه لرفع الحصار عن المدينة، وعند وصول هذا الجيش وجد العثمانيين في حالة انفلات كامل، وقد استغرب سوبييتسكي من هذا الإهمال ووصف قائد الجيش العثماني بأنه غير مدرب ولا يعرف كيف يدير حصارًا، إذ ترك معسكره بلا أي حماية تذكر. وهكذا أجهز الجيش البولندي - النمساوي المشترك على الجيش العثماني ورفع الحصار عن المدينة واستولى على غنائم كثيرة للغاية، وخرجت أراضٍ واسعة في شرق أوروبا من قبضة العثمانيين خاصة في البلقان.
إزاء الهزيمة النكراء اضطر قرة مصطفى لسحب ما تبقى من قواته وعاد يجر أذيال الخيبة، إلا أنه دفع حياته ثمنًا لهذه الهزيمة إذ أعدم بأوامر من السلطان. ولكن سرعان ما قامت الثورة ضد السلطان محمد الرابع بسبب الهزائم العسكرية المتتالية.
ومن ثم انتهت آخر صحوة للدولة العثمانية في السياسة الدولية، ومنذ ذلك التاريخ تحولت هذه الدولة إلى لاعب احتياطي في المعادلة السياسية الأوروبية والدولية وأصبح وجودها مرتبطًا في الأساس للحفاظ على التوازن الاستراتيجي الأوروبي، إذ لم تسمح لها القوى الأوروبية المختلفة بالاندثار السياسي خشية اندلاع الصراع على إرثها، بينما لم تسمح لها ظروفها المتهاوية أي نوع من أنواع المقاومة الجدية، وكان الإخفاق في الاستيلاء على فيينا نقطة تحول في موازين القوى الأوروبية خفت من بعدها النجم العثماني تدريجيًا.
لقد تركت هزيمة العثمانيين النمسا ومعها أوروبا في حالة نشوة سياسية وعسكرية، فنسجت الروايات حول هذا اليوم المشهود، ومنها رواية ابتكار معجنات «الكرواسون» الشهيرة الذي أرجعه البعض خطأ على أنه ابتكار للاحتفال بهذه المناسبة لأنه أخذ شكل الهلال (وكلمة «كرواسون» الفرنسية تعني «الهلال») ابتهاجًا بهزيمة العثمانيين الذين كانوا يضعون الهلال رمزًا لهم. ولكن هذا غير صحيح لأن الكرواسون ظهر في القرن التاسع عشر.
أما الثابت تاريخيًا فهو أن النمسا تعرّفت على مشروب القهوة من العثمانيين، فعندما استولى النمساويون على غنائم حرب كثيرة بعد رفع الحصار كان منها كميات كبيرة جدًا من القهوة أو البنّ.
ومن هنا عرفت أوروبا الغربية القهوة وتم افتتاح أول مقهى يقدم هذا المشروب الجديد عقب فك الحصار مباشرة، ولهذا يسمى نوع من أنواع القهوة إلى اليوم «قهوة تركي» علمًا بأن العثمانيين عرفوها من العرب لأن زراعة البن كانت تقليديًا منتشرة في اليمن وكانت تُصدر بكميات كبيرة عبر ميناء المُخا اليمني.
وهكذا، نسبت القهوة إلى الأتراك ونسب مشروب «الموكا» إلى الميناء اليمني، وفي كل الأحوال ترك حصار العثمانيين لفيينا تركة شرب القهوة بينما تركت الهزيمة الأوروبية للدولة العثمانية علامة نهايتها كدولة لاعبة في مقدرات السياسة الأوروبية.
من التاريخ: «الصحوة العثمانية الأخيرة».. وحصار فيينا الثاني
من التاريخ: «الصحوة العثمانية الأخيرة».. وحصار فيينا الثاني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة