يوسف فاضل: نحن في مجتمع يمارس فيه العنف الذكوري بقسوة

روايته الأخيرة تتنافس مع خمس روايات أخرى لنيل جائزة بوكر العربية

يوسف فاضل وروايته الأخيرة
يوسف فاضل وروايته الأخيرة
TT

يوسف فاضل: نحن في مجتمع يمارس فيه العنف الذكوري بقسوة

يوسف فاضل وروايته الأخيرة
يوسف فاضل وروايته الأخيرة

تأخذنا «طائر أزرق نادر يحلق معي» (2013. دار الآداب) للروائي المغربي يوسف فاضل، المرشحة ضمن القائمة الصغيرة لجائزة بوكر العالمية للرواية العربية، في رحلة سردية تجمع بين ضيق المعتقل ورحابة الخيال. إنها شهادة متخيلة عن «سنوات الجمر والرصاص»، تلك الحقبة العصيبة لتاريخ المغرب السياسي والاجتماعي.
يأتي تعاطي فاضل مع هذه المرحلة، التي كتب وقيل عنها الكثير، سواء في وسائل الإعلام أو من خلال شهادات المعتقلين أو الكتابات الأدبية، مختلفا تماما من خلال توظيفه لعنصر الفانتازيا أو اللامعقول، الأمر الذي يجعل من العمل رواية «جديدة كل الجدة» كما يصفها الكاتب. صحيح أن «طائر» تسلط الضوء على عالم السجون السرية والمعتقلات في المغرب، إلا أنها تضج بما يطلق عليه الكاتب «العنف الذكوري» أو «الظلم العادي» الممارس خارج أسوار السجن في الشارع والمدرسة وداخل العائلة.
هنا لقاء مع الروائي يوسف فاضل عن روايته «طائر أزرق نادر يحلق معي»، وتجربته الروائية عموما:
* «طائر أزرق نادر يحلق معي» عنوان رقيق فيه من الشاعرية والجمال ما لا يوحي بالقسوة والوحشية اللتين نراهما في العمل. ما العلاقة بين العنوان ومضمون العمل؟
- العلاقة بين العنوان والرواية هي العلاقة بين البطل وماضيه ومستقبله: الطيار والطائرة والطائر. يهبط إلى القاع، حتى أقصى درجات الجحيم، إلى القاع الذي يفتح على فضاء. ليس من خيار غير أن تفرد جناحيك وتطير. في الواقع أو في الخيال، لا فرق.
* ليوسف فاضل تجربة شخصية مع السجن. حدثنا عن هذه التجربة وكيف أثرت في مشروعك الروائي؟
- السجن تجربة قاسية دائما. في البداية بشكل خاص. أيام التعذيب والاستنطاق في أي وقت من النهار أو الليل. الجسد يرفض الطعام بينما رفيقك الذي قضى فترة قبل وصولك يلتهم صحنك بشهية فظيعة. لا تعرف أين أنت وكم ستقضي من الوقت. ثم يأتي وقت لا تعرف فيه متى دخلت. تتقاسم مع جلادك مضغة رغيف ونكات عابرة. ثم في هذه الحدود المتطرفة للتجربة الإنسانية في تجلياتها الأكثر همجية تكتشف أنه بإمكانك أن تعتاد، وهذا هو الجانب الأفظع في التجربة. ثم فيما بعد، بعد الخروج، بعد مضي كل هذا الوقت لا شك أن التجربة تؤثر بشكل من الأشكال. لم أتساءل وليس من الضروري أن أتساءل عن السبل التي تسربت أو تتسرب منها خيوط التجربة إلى العمل الأدبي.
* «طائر» هي الرواية الثانية في الثلاثية التي تتناول سنوات الرصاص التي ابتدأتها في «قط أبيض جميل يسير معي»، حيث تدخل في عمق الحياة السياسية في المغرب في فترة السبعينات والثمانينات. حدثنا عن الفرق بين العملين.
- عندما كتبت «قط أبيض جميل يسير معي» لم أكن أفكر في الثلاثية. وحتى هذا المصطلح مبالغ فيه. الذي يجمع بين العملين والعمل المقبل هو فترة الثمانينات. وقد نسميها مجازا ثلاثية دون أن يكون من الضروري أن تجمع بينها أحداث أو شخصيات، كما هو الأمر بالنسبة لأعمال أخرى سابقة.
* ما يميز عملكم الأخير عن غيره من الأعمال التي تناولت موضوع السجون هو عنصر الغرابة. فمثلا بدلا من أن تكتفي بتصوير عزيز في محبسه نراك تجعل له جناحين ليطير بهما مبتعدا عن الأرض وسكانها في مشهد أسطوري غرائبي يعيد إلى الأذهان «التحولات» للشاعر الروماني أوفيد. حدثنا عن توظيف عنصر الغرابة (الفانتازيا) في «طائر».
- شخصيا أعتقد أن الغرابة تكمن في التجربة برمتها. أن يكون البطل في السماء وإذا به في الجحيم. أن يتزوج ويقبل زوجته بعد ست وعشرين سنة. أن يقضي أيامه في البحث عن كنز في زنزانة من ستة أمتار. أن تقضي امرأة عمرها في البحث عن رجلها. أما أن تتماهى باقي العناصر وتنصهر في المناخ الكابوسي نفسه فليس أكثر غرابة. الحالة التي عشناها هي الغرابة بعينها لا تترك أمام الإنسان غير خيار أن يطير ليهرب بجلده. وهذه الأمور ليست اختيارا يختاره الكاتب. إنها أشكال تفرض نفسها وتتشكل في سلوك الشخصيات قبل أن تتشكل في وعيه. وبالنسبة لي لا توجد سوى هذه الطريقة لكتابة هذه الرواية. ثم إذا كان من الممكن الحديث بلغة أخرى فالسؤال الذي يطرح نفسه هو كالتالي: كيف يمكن أن تجعل من أحداث قيل عنها الكثير وتداولتها الصحف وقدمت فيها كتابات مستفيضة في مذكرات الذين غادروا المعتقلات أحياء وفي شهاداتهم أمام كاميرات التلفزة، كيف يمكن أن تجعل منها عملا جديدا كل الجدة؟
* بالإضافة إلى التركيز على العنف الممارس داخل السجن، يلقي العمل الضوء على عدد من الشخصيات الديكتاتورية خارج أسوار السجن كالقواد «جوجو» والوالد المتسلط والعم القاسي. ما الذي يريد يوسف فاضل أن يقوله؟
- ما نراه داخل المعتقل ليس سوى صدى لما يقع خارج أسواره. نحن في مجتمع يمارس فيه العنف الذكوري بقسوة، في الشارع والمدرسة وداخل العائلة. في السلوك والتربية، في الوعي واللاوعي، ديكتاتوريات صغيرة وأخرى أكبر وأخرى أكبر وضحايا مجهولون يذهبون وتواريخ مشوهة تكتب... والكاتب يحاول أن يضيء هذا الجانب الخفي من الظلم العادي.
* من الأمور اللافتة في الرواية استخدام اللغة المحكية المغربية. ألا تعتقد أن هذا الخيار يبعدك عن القارئ المشرقي؟
- بالذات في هاتين الروايتين لم أستعمل اللغة المحكية إلا فيما ندر، وفضلت أن أجعل الحوار في حدود ما لا يمكن الاستغناء عنه، مفضلا الأسلوب غير المباشر الذي يضفي على الرواية نفسا ديناميكيا. ثم إن اللغة الدارجة المستعملة لا تبتعد كثيرا عن الفصحى إلا في أحيان قليلة.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.