مبدأ الذاتية.. من الحداثة إلى التواصل

عُدّ مؤسس الأزمنة الحديثة الذي فُسر تفوق العالم على أساسه

مبدأ الذاتية.. من الحداثة إلى التواصل
TT

مبدأ الذاتية.. من الحداثة إلى التواصل

مبدأ الذاتية.. من الحداثة إلى التواصل

اعتبر مبدأ الذاتية، مؤسس الأزمنة الحديثة، وعلى أساسه، فسر تفوق العالم الحديث، باعتباره أيضًا، عالم الهشاشة والضعف. ويتجلى ذلك في الأزمات التي تعرض لها العالم ولا يزال يتعرض. لذلك وجدنا بلاندييه يقول: «إن الحداثة تقلق وتغري»، ولهذا السبب، جعل هيغل من تحديد مفهوم الحداثة، نقدًا لها ومنذ النشأة.

إن ما يميز الأزمنة الحديثة، هو الارتداد إلى الذات أو الذاتية، ويتضمن هذا، في نظر هابرماس، أربعة مدلولات، وهي كالتالي:
1 - الفردانية: في العالم المعاصر، يحق للفردانية المسرفة في خصوصيتها، أن تبرز طموحاتها.
2 - الحق في الانتقاد: يتطلب مبدأ العالم الحديث، أن يبدو ما يتوجب على كل فرد تقبله، في نظره هو، شيئًا له ما يبرره.
3 - استقلالية الفعل: يعود للأزمنة الحديثة الفضل في إرادتنا أن نكون مسؤولين عما نفعل.
4 - وأخيرًا الفلسفة المثالية ذاتها: يرى هيغل أن من منجزات الأزمنة الحديثة، أن تدرك الفلسفة الحديثة الفكرة التي تعي ذاتها.
لقد فرضت الذاتية في نظر هابرماس، الأحداث التاريخية الكبرى. فقد عملت على إماطة اللثام عن كل الأشكال السحرية والأسطورية التي كانت الطبيعة تتخذها في القرون الوسطى، بحيث بلورت الثقافة في كل أشكالها، وخلصتها من الشوائب القروسطية، واتجهت إلى اختزال الطبيعة في مجموعة قوانين ومعادلات رياضية. أما فيما يخص المفاهيم الأخلاقية، فقد عملت على التركيز على حرية الفرد واستقلاليته ومسؤوليته في اتخاذ قراراته. وجرى ذلك في إطار قانوني ينظم علاقته بالآخرين، أي توافق استقلالية الإرادة الذاتية مع القوانين العامة. وأخيرًا، نجد الفن الحديث، يكشف عن جوهره في الرومانسية على مستوى الشكل والمضمون، اللذين يتحددان بالاستبطان المطلق.
أمام هذا الواقع الثقافي ذي البعد الفلسفي، استطاع هابرماس أن يغير بنيته، «بالانتقال من النشاط الإنتاجي إلى النشاط التواصلي، إذ حصلت إعادة صياغة مفهوم العالم المعيش اعتمادًا على نظرية التواصل»، على اعتبار أن هابرماس، قام بتركيب جديد لنظرية الحداثة، استنادًا إلى نظرية للتواصل. فنظرية «النشاط التواصلي تقيم بالفعل، علاقة داخلية بين الممارسة الإبداعية والعقلنة، وتدرس المضمرات العقلانية التي تفترضها الممارسة التواصلية، وتسعف المضمون المعياري الملازم للنشاط الموجه نحو التفاهم، ليتوصل إلى مفهوم العقلانية التواصلية»، التي تذهب بعيدًا عن التناول النقدي الجمالي للحداثة، ويعتبر الانخراط الوجودي فيها، موحدًا ومسجونًا وموضوعًا تحت تصرف التقنية بشكل كلياني خاضع للسلطة. وبناء على ذلك، تستمد مضامين الحداثة من عقل مجسد في العملية التواصلية للممارسة الاجتماعية، التي تنطلق من مقولة النشاط التواصلي في علاقتها بمكونات العالم المعيش المحدد في نظر هابرماس: في الثقافة، والمجتمع، والشخص البشري. ويعتبر «الثقافة، تلك المعرفة المهيأة والجاهزة التي تستمد منها الذوات الفاعلة في النشاط التواصلي، التأويلات ذات الطابع الإجمالي فرضيًا، وذلك بالبحث عن التفاهم حول شيء معين موجود في العالم والمجتمع. تلك الأنظمة المشروعة التي تستمد منها ذوات النشاط التواصلي، التضامن المؤسس على الانتماءات الجماعية المنتجة للعلاقات بين الناس. في حين أن الشخصية، وهو هنا لفظ تقني، يعني الإمكانات التي بفضلها تكتسبُ ذاتٌ ما قدراتها على الكلام والفعل، وبالتالي على المشاركة في عمليات التفاهم بين الذوات داخل سياق يختلف في كل مرة». لذلك، فإنه في الوقت الذي يتعقلن فيه العالم المعيش، فإن الذوات الفاعلة في النشاط التواصلي مضطرة لبذل جهود إضافية لضمان الاتفاق والتفاهم. وإذا تأملنا عن كثب، الشروط الضرورية التي ينبغي أن تتوافر من أجل أن نتفاهم، فيما بيننا، على شيء من الأشياء، فإننا «نكتشف وجود مسلمات ضمنية عملية محتومة، ذات مضمون معياري ضابط». هذا يعني أنه قبل أن ندخل في أي نوع من أنواع المناقشة أو المحاججة، بما فيها الكلام اليومي العادي الحالي بين طرفين، فإننا نفترض مسبقًا، وباتفاق الطرفين، أننا مسؤولون. أي أن أفراد العالم المعيش، ينطلقون من تقاليد ثقافية مشتركة، مصاغة في نسيج الأفعال التواصلية، التي تنجز اعتمادًا على التأويل المشكل من طرفهم، والمبني على أخلاق تواصلية، للاتفاق على الحقيقة المبرهن عليها داخل تنظيم مؤسسي للمناقشة العمومية. لذلك، فهابرماس، «يرفض كل إجماع معطى سلفًا، أو مؤسسًا على سلطة تحيل دومًا إلى التراث، ويفترض تدخلات برهانية عقلانية، في سياق تواصلي ينبذ المسبقات، ويشجع على إبراز تشكيلات خطابية للإرادة». إن وسيلة اللغة وغاية الفهم، مرتبطتان، داخليًا، ولا يمكننا أن نفصلهما عن بعضهما، كما نفصل، عادة، بين الوسائل والغايات. ولا يمكننا أن نفسر ما هي اللغة من دون اللجوء إلى فكرة الفهم والإدراك.
وعمومًا، إذا كانت الحداثة في جوهرها، تعني الابتعاد عن التقليد وإعادة إنتاج الماضي، وتتضمن في عملياتها وحركاتها، الأزمة وإمكانات تخطيها في الآن نفسه، فإن مشروع هابرماس الفلسفي، ارتبط، منذ عصر الأنوار إلى الآن، بالتنظيم المؤسسي للمجتمع، المرتبط بتوجهات الدولة السياسية، في عمليات التنظيم والعقلنة والتحديث، وما تطرحه من قضايا فكرية واجتماعية على العالم المعيش وعلى مستوى مختلف القيم، تستدعي النقد وإعادة النقد. وهذا ما يجعلها في نظر هابرماس، مشروعًا غير مكتمل، يحتاج إلى عقل تواصلي لممارسة هذا النقد. وبالتالي، تجاوز النزعات التي تريد أن تنفيها. لذلك يُطرح علينا سؤال أخير: ماذا نعني بنظرية التواصل عند هابرماس؟
التواصل في نظر هابرماس، هو علاقة حوارية بين فئات المجتمع المتعددة والمتباينة آيديولوجيًا وطبقيًا، وذلك عن طريق استخدام القوة المفرضة عقلانيًا، هذه القوة المتضمنة بالضرورة في أفعال النطق اللغوية. يضاف إلى ذلك، أن الفعل التواصلي، لا يمكن أن نستبدل به ممارسات من نوع آخر، أيًا كان السياق والظروف. فعملية التفاهم اللغوي، لا يمكن أن تحل محلها كيفما شئنا، آليات أخرى لتنسيق الأعمال. ولتوضيح هذا الكلام، يقول هابرماس: «إذا ما أردنا أن نربي أطفالنا أو نعلم طلابنا أو نحاول إنعاش الروابط الاجتماعية بطريقة مشتركة، فإننا لا نستطيع أن نرفض الدخول في هذه الممارسة ذاتها (أي الممارسة التواصلية اللغوية). وهذا يدل على أنه خلال الفعل التواصلي، ومن خلاله وحده، تجري عملية الانصهار الاجتماعي، وانتقال الإرث الثقافي من جيل إلى جيل، ودمج الفرد في المجتمع أو جعله حيوانًا اجتماعيًا».
والواقع في نظر هابرماس، أن الفعل التواصلي لا يمكن أن يتحرك كما يحلو له هكذا في الفراغ، وإنما هو بحاجة إلى عالم معيش يقدم له الخلفية والقاعدة الارتكازية. إذ لو كانت هذه المسلمات الضمنية المشتركة، محدودة كليًا، لما التقينا في العالم المعيش إلا بالأفعال الاستراتيجية لا التواصلية. لكنه يلاحظ في المجتمعات الحديثة، وجود كثير من العوالم المعيشة المختلفة، وكل وجود فردي هو بحد ذاته عالم ومشروع فريد من نوعه. فالنزعة الفردية والنزعة الشمولية، وجهان لعملة واحدة منذ هيغل. فلا يمكن وجود فردانية من دون شمولية معيارية ضابطة. لذلك، فإن مفهوم التفاهم، يحيل عند هابرماس إلى اتفاق مبرر عقليًا، تتوصل إليه مجموعة من المشاركين في التفاعل، المبني على ادعاءات الصلاحية القابلة للنقد والمشاركة، اعتمادًا على معايير أخلاقية، يسميها هابرماس «أخلاقيات التواصل»، أي أن للتواصل معايير أخلاقية تنظم الأفكار والادعاءات، من خلال المناقشة، عن طريق تقديم مجموعة من البراهين والحجج المرتبطة منهجيًا. يقول هابرماس إن «قوة برهان ما تقاس، داخل سياق معين، بصحة الحجج. وهذه الصحة تظهر من بين ما تظهر فيه، في قدرة تعبير معين على إقناع المشاركين في المناقشة، وعلى تبرير قبول ادعاء ما للصلاحية».
إن الحداثة الغربية، على الرغم من نزوعها المعلن نحو الكونية، وجعلها العالم عبارة عن «قرية» صغيرة تتفاعل فيها كل الثقافات والحضارات والأجناس واللغات، فإنها اصطدمت بأشكال حضارية وثقافية لدى شعوب لم تستسغ الحداثة بعد. هذا التفاعل أو التنابذ بين المرجعيات الإنسانية، جعل التفكير في التواصل، هو أصلاً تفكيرا في الحداثة، باعتباره تتويجًا للعقلانية. وهذه الأخيرة، تقتضي عمليات تحديث العقلنة وعقلنة التحديث، وإلى وضع شروط مجتمع ممكن «ما دام التفكير في التواصل، في شكله البرهاني، هو في العمق، تفكير فيما هو مجتمعي». وبالتالي تجاوز هابرماس النقد الجذري للعقل الذي دشنه نيتشه وهايدغر والفلاسفة الفرنسيون.
وعمومًا، فإن فلسفة هابرماس، تسهم في تغيير منطلقات الفكر الفلسفي، وأسلوب النظر إلى اللغة، والزمن، والمجتمع، والانتقال من التفكير الموجه نحو الغاية، الذي تؤطره العقلانية الأداتية، إلى التفكير الموجه نحو التفاهم، الذي تحدده العقلانية التواصلية. لذلك فإن الاتفاق اللغوي التواصلي، يتعين أن يحل محل السلطة المسنودة من طرف التصورات التقليدية نتيجة المناقشة المستمرة، التي تعبر عن التحرر والنضج والاستقلال، بحيث تبعد النظرية التواصلية العقلانية عند هابرماس، من كل يوتوبيا، وتجعلها أكثر ارتباطًا بالواقع.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!