«الشرق الأوسط» في مهرجان دبي السينمائي الدولي 2: رئيس مهرجان دبي السينمائي الدولي: رأيي الدائم أننا مهرجان دولي بقلب عربي

قال إن الدنيا تتغير من حولنا وعلينا أن نستوعب المتغيرات ونواصل العمل

عبد الحميد جمعة يرافق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم  في دورة المهرجان الثامنة عام 2011 (غيتي)
عبد الحميد جمعة يرافق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في دورة المهرجان الثامنة عام 2011 (غيتي)
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان دبي السينمائي الدولي 2: رئيس مهرجان دبي السينمائي الدولي: رأيي الدائم أننا مهرجان دولي بقلب عربي

عبد الحميد جمعة يرافق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم  في دورة المهرجان الثامنة عام 2011 (غيتي)
عبد الحميد جمعة يرافق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في دورة المهرجان الثامنة عام 2011 (غيتي)

رئاسة مهرجان سينمائي تعني أشياء كثيرة، تحدد لا سمات الشخصية فحسب، بل سمات المهرجان الذي يُقام تحت إدارته.
نعم هناك مسؤولون آخرون ينفّذون، ومجموعة كبيرة من المديرين والموظفين والمتطوعين يرسمون الخطوط الأولى والأخيرة وما بينها من مسؤوليات وأعمال، لكن الإدارة تنتهي بقمّـة يحتلها الرئيس (أي رئيس) وهي العماد التي ينجح فيها المهرجان (أي مهرجان) أو يخفق.
تتكاثر المهرجانات من حولنا وتتبدل وتتغير ثم تنحني لذلك التغيير أو لتلك الأزمة أو تعلو عليها وتتجاوزها، لكن تقدمها أو تأخرها أو بقاءها كما يعود على الرئيس الذي هو - كمخرج الفيلم - عليه أن يدير كل الشؤون معًا وإلا حُسب التقصير عليه حتى وإن كان نتاج موظف آخر.
عبد الحميد جمعة رئيس مهرجان دبي السينمائي الدولي، شغر هذا المنصب منذ عشر سنوات، وذلك بعد عامين من اشتراكه بتأسيس هذا المهرجان سنة 2004، ورئاسته للمهرجان سنة 2006 لم تكن في غاية استمراريته فحسب، بل سعى نحو التطوير من العام الأول، وبقي التطوير هاجسه حتى اليوم.
خلق عبد الحميد جمعة بيئة سينمائية صحيحة لإدارة هذا الحدث السنوي. وفي حين التفت مديراه الإداري والفني إلى النواحي التنفيذية لكيفية إنجاز هذا المهرجان، فإن الطريق لهذا الإنجاز كان يحتاج لرئاسة تواجه المتغيرات والظروف وتبني على النجاحات السابقة من دون توقف.
ليس هناك وسيط بين الرئيس وبين الجوانب التي يتألف منها عمل المهرجان. هناك خيارات لمديريه يعتمدونها على ضوء الخطوط والخطوات التي شقها المهرجان لنفسه وهي تبدأ وتنتهي بعناية الرئيس الشديدة فالمسؤولية النهائية مسؤولية والتحدي ينبع من داخله ويصب عنده في نهاية المطاف.
غرفته ما زالت على حالها من العام الماضي. ابتسامته لا تفارقه. يدخل الموعد وهو يرنم أغنية ويبدو هادئًا كما لو أن بداية المهرجان ليست على بعد يوم (ينطلق يوم غد الأربعاء) بل ما زالت هناك أميال زمنية قبل الوصول إليه. والسؤال الأول ينطلق من مقابلتنا الأخيرة ونحن ما زلنا على مشارف دورة العام الماضي 2015.
* في العام الماضي، عندما أجرينا مثل هذا الحديث، أخبرتني أن التحدي الدائم هو كيف تنجزون دورة أفضل من الدورة السابقة. هل هناك سقف لهذا التحدي؟ أم هل يمكن القول ليس في الإمكان أفضل مما كان؟
- التحدي، قبل كل شيء بيننا وبين أنفسنا. وربما كلمة «تحد» جافة بعض الشيء، لأننا لسنا في مجال تحدي غيرنا. أفضل كلمة تطور، لأنه ما دام المهرجان موجودا وما دمنا موجودين فإن التطوّر أمر موجود. أي مدير عام، أي مسؤول وأي شخص في أي إدارة أو مؤسسة يشعر بأنه وصل إلى القمّة سيكون هذا هو اليوم الأول في انحداره. التطور كان وسيبقى موضوعنا الأساسي هنا في المهرجان، علمًا بأننا نتعامل مع ظروف إنتاج الأفلام التي لا علاقة لنا بها. لا نستطيع ضمان المستويات ذاتها لكننا نحاول جهودنا الدائمة في سبيل ذلك. نستقبل ما نعتقد أنه أفضل ما تم إنتاجه من أعمال لكن ليس في مقدور أي مهرجان الحفاظ على المستوى المتميز ذاته في كل عام.
* ماذا عن برمجة هذا العام بالنسبة لمهرجان دبي؟
- هذا العام أعتقد أن لدينا أفلامًا مهمة وجميلة من حول العالم ولدينا أسماء عربية وأسماء إماراتية كبيرة. أسمّـي المخرجين الإماراتيين والخليجيين عمومًا أبناء وبنات هذا المهرجان كونهم نشأوا تحت عباءة هذا المهرجان.
* هناك إضافات جديدة على أقسام المهرجان هذا العام...
- هناك إضافة مهمة هي أفلام «الواقع الافتراضي» التي هدفنا من خلالها لتقديم رؤية لسينما المستقبل.
* صحيح، لكن لأي مدى يستطيع المهرجان التوسع في استيعاب برامج جديدة لميزانية تقول أنت أنها محدودة في نهاية الأمر؟
- طبعًا ليست هناك ميزانية مفتوحة. لا أعتقد أن هذا ممكن، حتى بالنسبة لأصحاب المشاريع التي تكلف المليارات. لكن المهم هو كيف يواصل المهرجان أعماله بنجاح ضمن الميزانية المحددة له وعلى الرغم من أي من الظروف الطارئة. إدارة المهرجان عليها أن تكون مستعدة لكل طارئ ولكل حدث. الدنيا تتغير من حولنا، ونحن علينا أن نستوعب المتغيرات ونواصل العمل، بحسبة أن لقاء كل درهم نسترد ثلاثة دراهم من القيمة المعنوية للعمل.
* ما رأيك بالتطوّرات التقنية التي تحدث حاليًا في السينما العالمية؟
- أتذكر أول ما طلع الراديو..
* كان هذا قبل زماني..
- (ضاحكًا) أقصد تاريخيًا، كان هناك الراديو ثم التلفزيون ثم الفيديو والدي ڤي دي وفي كل مرّة يقولون هذه هي نهاية السينما. لكن السينما تتطور ولا تنتهي. التاريخ يقول إن السينما تستعصي أن تؤذى وأن الشاشة الكبيرة لا بديل لها وسوف تستمر. ما يحدث اليوم، هذا «الواقع الافتراضي» ينتمي إلى ما تشهده السينما من متغيرات إيجابية. ونحن، كمهرجان، نريد أن نكون في صلب هذه المتغيرات التي تقع. كل ما نريده هو أن نأتي بهذه التحديثات والتطورات التقنية لنقدمها إلى الجمهور ونكون في وسط هذا التطوّر. نريد من الجمهور أن يجرب هذا الواقع الافتراضي، وهو يحدث في شؤون أخرى غير السينما. الواقع الافتراضي يلعب دورًا في تطوير الاقتصاد والمجتمع والصحة.. نريد أن نشارك في تعريف الجمهور به والاستماع إلى ما ينتج عن كل ذلك من نقاش.
* خلال العام الحالي سافرت كثيرًا وشاهدت كثيرًا وحضرت أحداثًا ومهرجانات عدة. ما الذي استفدته أنت على الصعيد الشخصي؟ وكيف يضيف حضورك للفاعليات المختلة المهرجان؟
- أهم ما استفدت والمهرجان منه هو إدخال تقنية الواقع الافتراضي إلى صلب أقسام المهرجان عمومًا. كان اهتمامي في تورونتو وفي كان وفي مهرجان سيدني منصبا على برنامج «الواقع الافتراضي» وأهميته بالنسبة للسينما وللدورة الحالية من مهرجان دبي. الأمور الأخرى كانت إدارية. دائمًا ما أبحث عما يمكن تطبيقه لدينا وما لا يمكن تطبيقه. ليست كل فاعلية جيدة في الخارج تناسبنا. أنظر إلى كل التفاصيل لأنها تفاصيل مهمّـة.
* هل تتدخل في قرارات العاملين في مهرجان دبي؟
- لا أتدخل في القرارات، لكن في التوجيه العام. دائمًا ما أقول للشباب لا تقدموا على فعل ناقص غير متكامل. دائمًا اعملوا على استكمال تجربتكم قبل تقديمها. ابحثوا في التفاصيل وحاولوا أن تتجاوزوها قبل نقلها إلى حيز التفعيل.
* إذن ما هي ميزانية المهرجان؟
- لا أستطيع أن أقول لك ما هي..
* ميزانية المهرجان ليست سرًا..
- لا، ليست سرًا، لكن إذا أعلنت عن رقم فإن الصحافة سوف تركّـز عليها وتبدأ بالحديث المتواصل عنها كما لو كانت هي الأساس. أعتقد أن النشاطات الثقافية لا ثمن لها أو سعر. تعطي الصحافة رقمًا فتحاسبك عليه. إذا كان كبيرًا يكتب البعض أنه كبير وإذا كان صغيرًا تكتب أنه صغير. لكن أقول لك بكل صراحة ليس الرقم المهول الذي نشرته (15 مليون دولار) قبل أيام.
- (يضحك) ليس الرقم الذي ذكرته في مقالك الأخير. دعني أقل فقط إننا مرتاحون.. مرتاحون وندرك أن أمامنا عشر سنوات ثابتة. الوضع الثقافي حول العالم يعاني ونحن نحاول أن ندرأ عن المهرجان هذه المعاناة، بمعنى أننا نسعى دوما لتوظيف كل بند في الميزانية على النحو الذي يفيد المهرجان ويؤمن له الدور المناط به. تعلمنا عبر السنوات كيف يمكن لنا أن نتطوّر ونزيد من فاعلية المهرجان ضمن حدود ميزانيتنا.
* ماذا عن نجوم السينما هذه السنة؟ أعلم أن صامويل ل. جاكسون مدعو..
- هذا الموضوع يقع ضمن ما أتحدث عنه من القدرة على استيعاب الأفضل والأكثر من دون الخروج عن الميزانية. معظم أفلامنا هذا العام، نحو 95 في المائة منها، تحتوي على نجوم من الممثلين وأسماء كبيرة. هؤلاء آتون بأفلامهم. ليس من الضروري أفلام طويلة بل بأفلام قصيرة أيضًا. هناك تغير صوب فهم دور الفيلم القصير ليس فقط عند العرب بل أيضًا لدى الخليجيين. لديك شيء آخر. الكثير من الممثلين والممثلات موجودون أصلاً في الإمارات هذه الأيام لتصوير أفلام أو مسلسلات تلفزيونية أو أنهم يعيشون في دبي. هذا سبب وجود رقم كبير من النجوم الذين يشتركون في هذه الدورة.
* ما أهمية ذلك بالنسبة إليك؟ ما يعني بالنسبة للمهرجان؟
- كانوا يحاسبوننا سابقًا بدعوى أن الكثير من الممثلين والممثلات الذين حضروا دورات ماضية لم تكن لديهم أفلام ولا تكريمات بل تمّـت دعوتهم بسبب مكانتهم الفنية فقط. حسنًا، دعهم يأتوا. يقولون لك هؤلاء النجوم موجودون لأسباب سياحية.. ليكن. أنت تعلم أن 200 ألف ضيف يحلون في مهرجان «كان» معظمهم من الأسماء اللامعة. لا أحد يشكو من كثرتهم. تعلم أن معظمهم يقيمون في يخوت بعيدًا عن الشاطئ ولا يكترثون لفيلم واحد. لكن المهرجان سعيد بهم وبحضورهم كذلك الإعلام هناك.
* الصحافة تهتم بوجود الجمهور..
- طبعًا. ليس الصحافة فقط، بل الجمهور أيضًا. أقول دعهم يأتوا. هذا لا يضر بل يساعد على إتاحة الفرصة لهم للمشاركة ويساعد الجمهور والإعلام على الاهتمام بالمهرجان بسببهم. هذا حدث سابقًا. منذ 12 سنة ونحن نتحدّث عن «السوق السينمائي» والكثير من الأصوات والآراء كانت سلبية. اليوم «السوق السينمائي» صار حقيقة يهتم بها الجميع وتثير النقاشات عندنا. اهتمت به الصحافة وأصبح له وجود إعلامي يتوازى مع «السجادة الحمراء». أتمنى أن يكون للنجوم الذين يحضرون المهرجان أسباب إقامة مسبقة، لكن علينا أن نقدر حقيقة أن النجوم يمنحونك المردود الإعلامي الذي تبحث عنه.
* من بعد توقف مهرجانات أخرى في منطقة الخليج، كمهرجان «أبوظبي» وكمهرجان «الدوحة»، كيف ترى نتيجة ذلك التوقف بالنسبة للمهرجان، إيجابًا وسلبًا؟
- كنت دائمًا أقول إن مهرجان أبوظبي أو مهرجان الدوحة يساعد صانعي السينما الذين كان لديهم منصّات أخرى مساعدة لهم. مع كل احترامي لصانعي قرار إيقاف مهرجان أبوظبي، هم يعرفون استراتيجيتهم وما يريدون أكثر مني أنا. لكني أقول لك إن الكثيرين اعتقدوا أننا فرحنا لإيقاف هذين المهرجانين، لكن هذا ليس صحيحًا. لم يكن صحيحًا قبل ثلاث سنوات وليس صحيحًا اليوم.
* رغم ذلك، لا بد أن التحديات هي أكبر مما سبق. أقصد أن مهرجان دبي اليوم بات بالنسبة للسينما العربية المكان الكبير الوحيد الذي يتجهون إليه.
- صحيح. مثلاً من بين 2600 فيلم استعرضناه، كان علينا أن نختار 165 فيلما. هذا صعب على (المدير الفني) مسعود أمرالله والعاملين معه الاختيار. ونعتذر من على منصّـة صحيفة «الشرق الأوسط» لكل من لم نستطع أخذ فيلمه. ليس معنى ذلك أن فيلمه لم يكن جيدًا أو جديرًا، لكن هذه اختيارات لجنة تشاهد كمًا كبيرًا جدًا من الأفلام وعليها أن تنتقي. أحيانًا تُـوفّـق وأحيانًا لا تُـوفّـق. إذن غياب مهرجاني الدوحة وأبوظبي وقبله مهرجان دمشق أعطانا مسؤولية أكبر وأعطانا تحديا أكبر. وإن شاء الله نكون على قدر هذا التحدي.
* دائمًا ما وصفت مهرجان دبي بـ«بيت السينما العربية»، هل ما زلت تعتقد أنه بيت السينما العربية بالفعل؟
- هنا يمكن لي أن أذكر لك الأرقام: عندك مثلاً 63 فيلما في المسابقات الأربعة وهي المهر الطويل والمهر القصير والمهر الإماراتي والمهر الخليجي. عندنا 73 فيلما عربيا. عندك 16 فيلما خليجيا. عندك 13 فيلما من دولة الإمارات بينها ستة أفلام طويلة. لذلك أعتقد أن ما يميّـزنا، وكما أقول دائمًا، نحن مهرجان دولي بقلب عربي. نبضنا عربي وهمّـنا عربي. لديك علاوة على كل ذلك 11 فيلما من تلك التي ساعدناها في «إنجاز» ما يعني أن دائرة الأفلام تدور بالفعل. ننتج ونعرض ما أنتجناه. نعم. إذا كان هناك شيء يريحني عندما أسمعه هو أن مهرجان دبي السينمائي هو بيت الفيلم العربي. هذا بالفعل ما يعطيني الإحساس بأننا مشينا ولا نزال نمشي في الطريق الصحيح.
* ما الذي ستطرحه هذه الدورة لأهل السينما ما لم تطرحه من قبل؟
- ثلاثة أشياء تكون سلسلة واحدة: فيلم الافتتاح «مس سلون» الذي يتكلم عن واقعنا اليوم. هو عما يجري اليوم في كواليس واشنطن ما يترك تأثيره حول العالم. وهناك أفلام كثيرة تتطرق إلى الأحداث الحالية أو الواقع الذي تعيشه دول العالم على اختلاف تلك الأحداث. الشيء الثاني أفلام المستقبل وهي التي تحدثنا عنها، أفلام الواقع الافتراضي، والثالث أفلام الأخوين لوميير الأولى. جئنا بـ98 فيلما سيقدمها مدير عام مهرجان «كان» الذي سيزور مهرجاننا للمرّة الأولى. هذه هي الفرصة المتاحة لهواة السينما ولمحترفيها للتجوّل في الزمن سينمائيًا. كيف بدأت. أين هي اليوم وما هو مستقبلها. بذلك نقدم بانوراما للماضي والحاضر والمستقبل، وأنا فخور جدًا بذلك.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».