العنف والعشوائية.. السمة الجديدة لإرهاب المتطرفين

من «القاعدة».. إلى «داعش»

أحد برجي مركز التجارة العالمي اللذين تعرضا لهجوم إرهابي في 11 سبتمبر من عام 2011 (غيتي)
أحد برجي مركز التجارة العالمي اللذين تعرضا لهجوم إرهابي في 11 سبتمبر من عام 2011 (غيتي)
TT

العنف والعشوائية.. السمة الجديدة لإرهاب المتطرفين

أحد برجي مركز التجارة العالمي اللذين تعرضا لهجوم إرهابي في 11 سبتمبر من عام 2011 (غيتي)
أحد برجي مركز التجارة العالمي اللذين تعرضا لهجوم إرهابي في 11 سبتمبر من عام 2011 (غيتي)

باتت العشوائية والدمار لغة العصر، وشمل ذلك الجماعات الإرهابية التي تنحو للتخريب واستهداف الأبرياء ببطش وعنف بعيدًا عن التخطيط المدروس بعناية. ولقد أصبح الهدف المحوري إثارة الرعب وإبادة كل من يعارض فكر التنظيم، وبلغت الوحشية الحد الذي استهدف فيه الإرهاب الأطفال في المدارس، والمصلين في المساجد، والأبرياء في الملاعب الرياضية. ويعكس ذلك استراتيجية عقيمة تحمل جهلاً وقلة اكتراث في انعكاسات ذلك على الرأي العام، كون مثل هذه الهجمات العشوائية ستفضي إلى رفض المجتمعات لمنهجية هذه التنظيمات، التي تتخذ من المجتمع نفسه عدوًا لها.
الهجمات الإرهابية التي شهدناها في الآونة الأخيرة أشبه بأحداث شغب وعمليات قتل انتقامية فردية، تنافي المفهوم التقليدي للإرهاب الذي يستهدف المدنيين بأعداد كبيرة منهم من أجل التأثير على الرأي العام وتحقيق أهداف سياسية أو دينية. ويُلحظ أخيرًا تغير في هذا النمط واستهداف عسكريين بصفة فردية أو قتل عشوائي لأفراد، بما يشكل توجهًا جديدًا أكثر اضطرابًا.
ولقد حرصت التنظيمات المتطرفة الأقدم عهدًا مثل «القاعدة» على شيطنة العدو وتبرير أسباب قتله. وكان هناك نوع من الانتقائية في الهجمات الإرهابية التي تركز على نوعية اختيار الأهداف، مما يعكس استراتيجية معينة بهدف اكتساب عدد أكبر من المناصرين من خلال استهداف «الكفار» عبر هجماتها الإرهابية، والتركيز في رسالتها على مهاجمة الولايات المتحدة الأميركية وكل من يناصرها، وتعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 أبرز مثال وأكبر عملية إرهابية تسببت بإشادة وتعاطف كثير من متابعي الحدث فور حدوثه.
حرص «القاعدة» في الوقت نفسه على كسب الرأي العام عبر إظهار نفسه كأنه أشبه بنسخة متطرفة من شخصية روبن هود نصير المستضعفين، وظهر ذلك جليًا في العراق عبر الحملات الإعلامية التي كانت تبرز ما يقوم به لإعادة بناء العراق ومساعدة أهاليه، وفي الوقت الراهن دوره في اليمن. غير أن التنظيمات المتطرفة الأحدث عهدًا تحوّلت ضاربة باستراتيجيات من سبقها عرض الحائط، إذ جعلت المجتمع بأسره عدوًا لها وضربته بهجمات لتستحيل صورة «نصير المستضعفين» إلى سفاح مختل عقليًا يبطش بالأبرياء.
إنه توجه نحو الأهداف الناعمة والأكثر سهولة دون اكتراث بالأبعاد والنتائج، مما يعكس تغييرًا جذريًا في مفهومي التطرف والإرهاب، وذلك ليس مستغربًا، سواء نتيجة ضعف التنظيمات في الفترة الأخيرة بحكم استهداف المجتمع الدولي للأماكن المحتشدة بالمتطرفين من جهة، والتشديد الأمني ووضع احترازات وقائية في كثير من الأماكن الحيوية والمزدحمة من جهة أخرى.
ومن ثم، فإن الهجمات الضخمة التي تهدف إلى قتل أعداد كبيرة من الأشخاص قد بدأت تتقلص، ليصبح التوجه صوب اختيار أهداف سهلة لا تتطلب مجهودًا كبيرًا في التخطيط، ولا أشخاصًا مدربين متمرسين، مجرد أشخاص من السهل التأثير عليهم عن بعد بتواصل من خلال العالم الإلكتروني وتحفيزهم نفسيًا وآيديولوجيًا، دون الحاجة إلى إعطاء تعليمات مباشرة لتفاصيل الهجمات. ويسهّل ذلك على التنظيمات المتطرفة التنصل من المسؤولية حيال تطرف الآخرين. خصوصًا بعد أن أصبحت مراقبة المشبوهين وتتبع حركاتهم ووسائل تواصلهم أسهل، مما قد يتسبب بالكشف عن خلايا إرهابية تخطط لعمليات إرهابية.
في الآونة الأخيرة يظهر تحفيز لدور «الذئب المنفرد»، وهو شخص واحد فقط يقوم بعملية إرهابية وحده، سواء من خلال تواصل عن بعد مع التنظيمات الإرهابية، أو مجرد تأثر بالرسائل الإعلامية للتنظيمات المتطرفة التي تعطي نصائح أو توجيهات عامة للطرق الأفضل لقتل الآخرين. وكان تنظيم داعش في الآونة الأخيرة قد ركز على حث المتطرفين على استهداف «الكفار»، ومن أشهر تلك التصريحات لقادته «دم الكافر حلال لك، فاستغلّه». وكثف التنظيم من استخدام وسائل الإعلام الإلكترونية التي تصدر بعدة لغات، والتي تعطي تعليمات محددة لطرق الاستهداف العشوائي لأي «كافر» بالطعن، وإعطاء نصائح وتعليمات حيال الأماكن الأكثر فاعلية التي يفترض طعنها في جسد الضحية لقتله، إضافة إلى التحذير من استخدام سكاكين المطبخ لعدم فاعليتها.
وتستهدف هذه النصائح «الذئب المنفرد» الذي يقوم بعمليات إرهابية وحده، سواء متأثرًا بالتنظيم عبر رسالته أو عملياته، أو بالتواصل معهم إلكترونيًا أو عبر أعضاء آخرين، وإن أصبح ذلك أقل كثيرًا بعد تضييق الخناق على المتطرفين. وبشكل عام، فإن التغيير في استراتيجيات الهجمات الإرهابية جعلها تبدو كأنها أعمال شغب أو جرائم لا تمت للإرهاب بصلة، بل تختلف جذريًا في الهجمات الإرهابية. الأمر الذي حدا بالسلطات الأمنية الأميركية وقت وقوع حادثة ولاية مينيسوتا، بالتصريح بأنها غير واثقة من ارتباط الحادثة بجماعة إرهابية. ويومذاك أقدم متطرف على طعن 8 أشخاص في مركز تجاري مما تسبب بإصابتهم بجروح. ولم يتأخر «داعش» في تبني هذا الهجوم الغريب الذي يبدو أشبه بعملية إجرامية بعيدًا عن الإرهاب.
أيضًا تبتعد العمليات الإرهابية التي شهدناها أخيرًا عما كان مألوفًا في الهجمات الإرهابية ذات الخطط المدروسة، وتميل بشكل أكبر نحو تكثيف الهجمات العنيفة العشوائية غير المدروسة، بما هو أشبه بهجوم شخص مختل غير سوي، كعملية الدهس باستخدام شاحنة في مدينة نيس بجنوب فرنسا، التي أدت إلى مقتل 84 شخصًا وإصابة الحشود بحالة هلع وفوضى. في حين تنحو عمليات أخرى نحو استهداف أشخاص معينين بأعداد قليلة، وهذا أيضًا توجه غير معتاد، كما حدث باستهداف مطبوعة «شارلي إيبدو» الفرنسية. وفي هذه الحادثة، ما كان هناك تصور لنفس الحدث في مكان آخر، يظهر اقتحام أشخاص مقنعين كأنه عملية سطو مسلح لبنك مصرفي، باستثناء أن حاملي الأسلحة ينتمون لـ«داعش»، يهدفون بإطلاقهم الرصاص على 12 ضحية في المطبوعة الانتقام للإسلام بطرقهم المتطرفة. وكما نذكر، تسببت حادثة «شارلي إيبدو» بأقوى حملات ضد الإرهاب وأوسع تضامن دولي مع ضحايا الإرهاب. وقد تكون هذه الحملات هي الأقوى على الصعيد العالمي من بعد حملات التضامن مع ضحايا الحادي عشر من سبتمبر.
أيضًا توجهت التنظيمات الإرهابية أخيرًا نحو التركيز على أهداف ناعمة جديدة، فبجانب استهداف السياح في أوروبا.. هناك استهداف للمنشآت الرياضية، والأطفال والمصلين، واستهداف فردي لرجال الأمن.
استهداف المنشآت الرياضية يشكل ابتعادًا أكبر عن نمطية الأهداف، وقد يكون ذلك في محاولة لإيجاد أماكن مستهدفة جديدة باحترازات أمنية قليلة، كما حدث في محاولة تفجير ملعب الجوهرة بمدينة جدة أثناء مباراة بين منتخبي المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، باستخدام سيارة مفخخة في مواقف الملعب. وبما أن الملعب يتسع لما يصل إلى 60 ألف متفرج كان مخططًا للعملية الإرهابية التسبب بكارثة إنسانية. وهذا الاستهداف للأنشطة الرياضية ظهر على الصعيد الدولي، فبعد استهداف أحد أكبر ملاعب العاصمة الفرنسية باريس، وجهت السلطات الأميركية تحذيرًا لوجود تهديدات من قبل إرهابيين متأثرين بتنظيم داعش، يستهدفون الملاعب الرياضية في الولايات المتحدة. وعلى أثر ذلك تم تكثيف الاحترازات الأمنية إبان اقتراب الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية في سبتمبر 2016.
كذلك بات الاستهداف الفردي لرجال الأمن جزءًا من توجيهات «داعش»، إضافة إلى توجيه التنظيم المتطرف أعضاءه بقتل الأقارب المنتمين إلى السلك العسكري، وذلك قبل الانضمام إلى صفوف التنظيم المتطرف في مناطق الصراع. ولقد اكتشف عدد من الخلايا تنتمي لتنظيمات مختلفة في السعودية تستهدف رجال الأمن. والملاحظ عدم التركيز على شخصيات عالية الرتب، بل على أي رجل أمن لمجرد ارتدائه الزي العسكري.
إذ كشفت السلطات السعودية خلية إرهابية تتخذ من محافظة شقراء منطلقًا لأنشطتها التي تترصد رجال الأمن في كل من الرياض وتبوك والمنطقة الشرقية وتقوم بإرسال معلوماتهم بالتواصل مع تنظيم داعش في سوريا بهدف اغتيالهم، كما تعرضت إحدى دوريات الأمن التابعة لشرطة الدلم في محافظة الخرج للتفجير بعبوة ناسفة، فيما تعرضت دوريتان أخريان لتلفيات أخرى. ومن جهة أخرى، كثفت خلية إرهابية في بلدة العوامية في محافظة القطيف هجماتها على رجال الأمن، وإلى جانب عمليات السطو المسلح وأعمال الشغب والتخريب، تكررت عملية إطلاق النار على رجال الأمن واستهداف مواقع الدوريات الأمنية، وقد تم اكتشاف مصنع تجهيز قنابل المولوتوف بغرض التعرض لمسؤولي الأمن تحديدًا.
وأخيرًا، يبقى الأمر الذي يصعب استيعابه وتفهمه هو التوجه نحو قتل الأطفال والمصلين بتجرد تام من التعاطف معهم. وهنا يعتبر تنظيم بوكو حرام، الناشط في غرب أفريقيا الأشرس في تركيزه على الأطفال والمؤسسات التعليمية. وتعد عملية الاختطاف الأشهر للتنظيم هي تلك التي نفذها بتاريخ 14 أبريل (نيسان) 2014، عندما خطف ما يزيد على 200 طالبة نيجيرية تتراوح أعمارهن بين 12 و17 سنة، وتعرضن للسبي والزواج بالإكراه. كذلك أقدم على إحراق عدد كبير من المدارس النيجيرية، مما أدى إلى إغلاق عدد كبير من المؤسسات التعليمية وحرمان ما يزيد على مليون طفل نيجيري من ارتياد المدارس، وذلك حسب تقرير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف). كذلك، هذا التوجّه الشرس لم يضع حسبانًا للأماكن المقدسة وأماكن التعبد. والأمر الذي يعد غريبًا أن بعض هذه الجماعات التي تبرّر جرائمها بما تزعم أنه «تعاليم الإسلام الصحيح» لم تتردد بمهاجمة الأماكن المقدسة كما حدث قرب الحرم النبوي، أو المساجد مثل مسجد أبها لقوات الطوارئ، ومسجد القديح أثناء صلاة الجمعة ومسجد العنود في المنطقة الشرقية، ومسجد المشهد في نجران.
نحن الآن نلاحظ أن التطرف الإرهابي تحت رايات الدين المزعومة لا يكترث بسفك دماء مسلمين قرر المتطرفون تكفيرهم، كونهم لم ينضموا معهم، أو لم يؤمنوا بمفاهيمهم التي تكفّر وتقتل كل من يخالفها. إلا أن مراقبين يرون في الاستهداف العشوائي مؤشرات على ضعف هذه التنظيمات المتطرفة، سواء على صعيد استراتيجياتها بشكل عام أو على صعيد التخطيط للهجمات. وقد يعود السبب في ذلك إلى ضعف الإمكانيات الكمية والنوعية في الآونة الأخيرة، مما أجبرها على شن هجمات فردية أقرب إلى أعمال شغب وممارسات إجرامية عادية منها إلى «حرب» إرهابية ذات منظور استراتيجي.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.