رؤساء وسياسيون وكتاب ينعون غارثيا ماركيز

كولومبيا أعلنت الحداد لثلاثة أيام

TT

رؤساء وسياسيون وكتاب ينعون غارثيا ماركيز

أثارت وفاة الأديب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز (87 سنة) الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1982، يوم الخميس أصداء كبيرة بين الشخصيات الأدبية والسياسية في مختلف أنحاء العالم، فقد وصفه الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس بأنه «أشهر شخصية كولومبية في كل الأزمان»، وأعلن الحداد عليه لمدة ثلاثة أيام.
وقال ماريو باغاس يوسا، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب: «لقد مات كاتب عظيم، ساعد بأعماله على شيوع أدبنا الإسباني وإبراز أهمية لغتنا».
وأعربت الكاتبة إيزابيل إليندي عن حزنها قائلة: «إنه خبر غاية في الحزن... لقد تأثرنا جميعا بأعماله». وكتبت الفنانة شاكيرا: «من الصعب علي أن أودعك، لأنك قد منحتنا الكثير، ستخلد في قلوبنا نحن الذين أحبوك وأعجبوا بك».
أما الرئيس الشيلي السابق رافائيل كوريا، فقد كتب: «لقد مات غابو (لقب غارثيا ماركيز) لكن أعماله باقية». كان الكاتب هيكتور أغيلار كامين زار منزل ماركيز حال سماعه بخبر وفاته وقال: «إن وفاته كما لو أنه قد توفي تشارلس ديكنز أو بلزاك».
وعبر الرئيس الفرنسي هولاند عن أسفه لرحيل الأديب الكبير بقوله: «إن ماركيز منح الأدب الإسباني أحد أروع أعماله وهو رواية (مائة عام من العزلة)».
وعبر الرئيس المكسيكي إنريكه بينيا نييتو عن أسفه «لوفاة واحد من أعظم الكتاب في وقتنا الحاضر». أما الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون فقال إنه يفخر بأنه كان صديقا لغارثيا ماركيز، وكذلك أعرب الرئيس الأميركي أوباما عن أسفه لوفاته وقال: «لقد خسر العالم واحدا من أعظم الكتاب، واحدا من الكتاب المفضلين عندما كنت شابا». ووصفه الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بأنه «صديق للزعماء الثوريين». وكتب زعيم الحزب الاشتراكي الإسباني ألفريدو بيريث روبالكابا أن ماركيز «من كتابه المفضلين له وللملايين من القراء».
وكان ماركيز دخل المستشفى يوم 31 مارس (آذار) قبل أكثر من أسبوع، بعد إصابته بالتهاب رئوي.
وفي آخر مقابلة معه قال: «إن عمر الإنسان ليس في الحياة التي يعيشها وإنما فيما يتذكره وطريقة تذكره لتلك الذكريات من أجل أن يرويها».
وكانت أخت الكاتب، آيدا غارثيا ماركيز، قد صرحت قبل أيام لراديو «كاراكول» بأنها رغم أن قلبها يتمنى أن يستمر أخوها على قيد الحياة «والإنسان دائما يريد من الحياة أن تكون خالدة، ولكن لا بد لنا أن نكون مستعدين لقبول إرادة الله. وكما تعرفون فإن حالة ماركيز ليست على ما يرام، وإن الحياة لها بداية ونهاية، وهذه هي الحقيقة، ولا بد لنا من أن نقبلها». وأضافت أنها متفقة تماما مع رأي زوجة ماركيز التي فضلت أن يترك زوجها المستشفى وينتقل إلى البيت، في مكسيكو. الأخت الأخرى لماركيز ليخيا قالت: «إننا نصلي من أجله، ونشعر بالارتياح من تعاطف الجميع مع أخي».
وكانت زوجة الكاتب ماركيز، ميرثيديس بارجا، وأولادها قد أصدروا بيانا قبل ذلك شكروا فيه كل الذين شاركوهم محنتهم هذه الأيام، وذكر البيان أن ماركيز «في حالة مستقرة ولكن صحته ضعيفة جدا، وهناك خطر أن تتدهور حالته بسبب تقدمه في العمر».
وكان صاحب «خريف البطريرك» قد دخل المستشفى قبل أسبوع ثم غادره، بسبب إصابته بالتهاب رئوي، وتحدثت بعض الصحف حول عودة مرض السرطان الذي أصيب به في نهاية التسعينات إليه.
معلوم أن ماركيز يعد واحدا من أشهر الروائيين العالميين، وتعود شهرته في الأساس إلى روايته «مائة عام من العزلة» التي كتبها في المكسيك، وقضى في كتابتها ثمانية عشر شهرا دون أن يخرج من غرفته، وكان يدخن خلالها ست علب يوميا. وأعماله كما هو معروف قد ترجمت إلى اللغة العربية، ومنها الرواية السابقة الذكر، و«الحب في زمن الكوليرا»، و«ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، و«ذاكرة غانياتي الحزينات»، وكذلك مذكراته «عشت لأروي».

الاتحاد الأوروبي: أعماله جعلت عالمنا أكثر ثراء

قدمت المفوضية الأوروبية ببروكسل التعازي في وفاة الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز. وقال رئيس المفوضية الأوروبية مانويل باروسو في بيان إنه تلقى بحزن شديد نبأ وفاة ماركيز، «الذي كان صوت أميركا اللاتينية وأصبح صوت عالمنا. لقد جعلت أعماله عالمنا أكثر ثراء وبفقدانه سنكون أكثر فقرا ولكن أعماله ستدوم». وماركيز توفي في مكسيكو سيتي عن 87 عاما. وقد ولد ماركيز في كولومبيا في 6 مارس (آذار) 1927، وقضى معظم حياته في المكسيك وأوروبا. عمل أولا في المجال الصحافي ثم أخذ ينشر أعماله القصصية وقد توجها بأعظم عمل ألا وهو «مائة عام من العزلة»، وقد أثرت هذه الرواية على كثير من الأدب الروائي خصوصا في العالم الثالث. وحلق اسمه في عالم الرواية برائعته «مائة عام من العزلة» والتي نال شهرة كبيرة بعد نشرها مباشرة في عام 1967، فقد باعت أكثر من 30 مليون نسخة في أنحاء العالم وأعطت دفعة لأدب أميركا اللاتينية. وكانت له علاقة متينة مع الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، مما سببت له مشكلات كثيرة. ومن أعماله: «جئت أتكلم بالهاتف فقط»، و«الرحلة الأخيرة لسفينة الأشباح»، و«الحب في زمن الكوليرا»، و«ليس للكولونيل من يكاتبه» و«وقائع موت معلن». وقد ترجمت أعماله إلى عشرات اللغات، من بينها العربية حيث جرى فيها ترجمة 24 كتابا. وماركيز أحد المدافعين الرئيسيين عن الواقعية السحرية، وهو أسلوب أدبي قال إنه أسلوب يجمع بين «الأسطورة والسحر وغيرها من الظواهر الخارقة للعادة». ومن المشهور عنه أنه كان، في كثير من الأعمال، يحاكي شخصيات حقيقية وبشكل تهكمي. وبعض أعماله كانت تتوقع صعود الديكتاتوريات في أميركا اللاتينية.. وقالت الأكاديمية الملكية السويدية عند منحه جائزة نوبل في عام 1982 إن «ماركيز يقودنا في رواياته وقصصه القصيرة إلى ذلك المكان الغريب الذي تلتقي فيه الأسطورة والواقع».

من أعماله المترجمة للعربية
* مائة عام من العزلة
* الحب في زمن الكوليرا
* أجمل غريق في العالم
* ليس للكولونيل من يكاتبه
* خريف البطريرك
* ذاكرة غانياتي الحزينات
* عشت لأروي
* في ساعة نحس
* قصة موت معلن
* أشباح أغسطس
* بائعة الورد

من سيرته «عشت لأروي

* يقولون إنه يمكن لك، إذا ما صممت، أن تصير كاتبا جيدا. لم أكن قد سمعت مثل ذلك الكلام، من قبل، في الأسرة قط. فميولي منذ الطفولة، كانت تتيح الافتراض بأنني قد أصير رساما، موسيقيا، مغنيا في الكنيسة، أو شاعرا جوالا في أيام الآحاد. وكنت قد اكتشفت ميلا معروفا لدى الجميع، إلى أسلوب في الكتابة، أقرب إلى التلوي والرقة الأثيرية. ولكن رد فعلي في هذه المرة، كان أقرب إلى المفاجأة. فقد أجبت أمي: إذا كان علي أن أصير كاتبا، فلا بد لي من أن أكون أحد الكبار. وهؤلاء لا يصنعونهم، وهناك في نهاية المطاف مهن أفضل كثيرا إذا ما كنت أرغب في الموت جوعا. في إحدى تلك الأمسيات، وبدلا من أن تتبادل الحديث معي، بكت دون دموع. لو أن ذلك حدث اليوم لأثار هلعي، لأنني أقدر البكاء المكبوح كدواء ناجح ومؤكد تلجأ إليه النساء القويات لفرض نياتهن. ولكنني في الثامنة عشرة من عمري، لم أدر ما أقول لأمي، فأحبط صمتي دموعها، وقالت عندئذ: «حسن جدا، عاهدني على الأقل أن تنهي الثانوية، على أفضل وجه ممكن، وأنا سأتولى ترتيب ما تبقى مع أبيك».»

من أقواله

* أسعى أن أتخذ مسارا مختلفا في كل كتاب [...]. الكاتب لا يختار أسلوبا.. بإمكان أي شخص أن يكتشف الأسلوب المناسب لكل موضوع. وكما أشارت، فإن الأسلوب يتم تحديده بناء على موضوع العمل. وفي حالة المحاولة في استخدام أسلوب آخر غير مناسب، ستظهر نتيجته مغايرة. وبالتالي، فإن النقاد يبنون نظرياتهم استنادا إلى ذلك، ويكتشفون أشياء لم تكن موجودة بالأساس. فقط أتجاوب مع أسلوب حياتنا، الحياة في منطقة البحر الكاريبي.
وفي الحقيقة، لو لم توجد حركة الحجر والسماء الكولومبية، فإنني لم أكن متأكدا من ظهوري ككاتب. وبفضل هذه الهرطقة، استطعت أن أترك خلفي خطابة راسخة ومميزة، كولومبية المنشأ... أعتقد أن حركة الحجر والسماء الشعرية الكولومبية ذات أهمية تاريخية كبيرة، إلا أنها في الوقت ذاته لم يعترف بها بشكل كاف... وهناك لم أتعلم كيفية توظيف الاستعارة فحسب ولكن أيضا عرفت كيف أكون أكثر حسما، إضافة إلى الحماس والتجديد في الشعر، والذي كنت أفتقده بدوري كل يوم عن سابقه والذي أعطاني حنينا كبيرا للعودة إلى المسار ذاته.

* كتاب سعوديون: الكبار يغيبون لكن لا يموتون

* غارثيا ماركيز أعطى أميركا الوسطى صوتها الأكثر علواً

* يقول الدكتور معجب الزهراني، الأكاديمي والروائي السعودي، في تعليقه على رحيل الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز: «إن الكتاب الكبار يغيبون لكنهم لا يموتون، لأن نصوصهم تبقى حية في اللغة التي نتكلم ونتواصل بها كل يوم».
ومضى الدكتور معجب الزهراني يقول: «من هنا نتحدث الآن عن الجاحظ، وابن المقفع، وأبي حيان التوحيدي، والمتنبي، وفيكتور هوغو، وشكسبير، وكأنهم يشاركوننا مائدة العشاء أو موائد الفرح والحزن».
وأضاف: «من هذا المنطلق أزعم أن ماركيز هو الذي أعطى لأميركا الوسطى صوتها الأكثر علوا وجمالا في العالم المعاصر، مثلما أعطاه بورخيس بالنسبة لأميركا الجنوبية في فترة سابقة ومعاصرة نوعا ما».
وقال: «يذهب كثيرون إلى أن (مائة عام من العزلة) هي أهم روايات ماركيز، لكنني أذهب إلى أن رواية (الحب في زمن الكوليرا) هي روايته الأجمل والأعمق والأهم، لأنها تحكي قصة تراجيدية - كوميدية فاتنة باذخة، أستعيد منها كل المفاصل العميقة لمعاناة البشر السعيدة والشقية، ولنا أن نتخيل الآن عجوزين أنيقين في يخت باذخ يتجول بين الموانئ، وربانه يدرك جيدا أن ليس مسموحا له بالرسو في أي منها.. ألا تذكرنا هذه الحكاية بآدم وحواء في الجنة؟ ألا تذكرنا بقيس وليلى في الصحراء..؟ ألا تذكرنا بعطيل وديدمونة في المسرح؟ أولا تذكرنا هذه الحكاية بنا ونحن نتيه بين الحلم واليقظة؟».
* شويخات: كانت حياته عجيبة كفنه
* ومن السعودية ايضا ، قال الروائي، والمترجم، وعضو مجلس الشورى السعودي الدكتور أحمد شويخات: لقد خسر العالم روائيا عظيما امتاز بقربه من هموم البسطاء.. وأمتع عبر عدد من أعماله ملايين القراء في العالم. كان ماركيز يكتب أحيانا بأسلوب خاطف، ويضع ذاك في سياق جمل طويلة ترسم لك الشخصيات والأحداث والأفكار في واقعية سحرية شغف بها القراء في أصقاع العالم، وهم يقرأون أعماله المتنوعة، منذ «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، إلى روائعه الأكثر تدليلا على نضج أسلوبه الفريد، كما في «الجنرال في متاهته»، و«مائة عام من العزلة»، و«الحب في زمن الكوليرا».
لقد كانت حياة هذا الفنان عجيبة كفنه. ففي هذه الحياة انشغالات السينما والرواية والوساطات السياسية وسط الحراسات الأمنية والغرائبية الأسلوبية التي تتواشج مع حياته وغرائبية حياة شخوصه.
برحيله، يفقد المشهد الأدبي العالمي شخصية وُلدت على موعد مع المخاطرة في الفن والحياة، ومع الخيال المدهش الممتع الذي يرسم ببراعة أمكنة وأزمنة أميركا اللاتينية، مُجسدا بعض المرئي واللامرئي الإنساني.

* كتاب لبنانيون: فعل ما لم نستطع فعله
* في فضح الديكتاتوريات

* الروائية اللبنانية نجوى بركات تصف ماركيز بـ«الكاتب المؤسس للقارئ والأديب معا، سواء كان قارئا محليا أو عالميا»، فهو برأيها «فتح أفقا جديدا للأدباء سواء أكانوا غربيين أم عربا، وقد سموا هذا النوع من الكتابة بالواقعية السحرية. وللعرب من درس ماركيز ما يستحق الاهتمام أكثر من غيرهم، لأن أميركا اللاتينية تشبهنا في بعض الأماكن. فقد بنى عالما تحكمه الديكتاتوريات والشعوذة، وهو عبارة عن طبقات تحتها طبقات أخرى، كأننا نقرأ عن عالمنا. منه تعلمنا أن هناك طرقا أخرى للكتابة عن الواقع غير المباشرة السياسية التي وقعت فيها الرواية العربية. هذه الرواية التي أصابتها الأدلجة في كثير من الأحيان، في الصميم. شخصيات ماركيز تبقى حاضرة في ذهن القارئ، كأنها شخصيات واقعية. في (مائة عام من العزلة) لا أنسى إحدى الشخصيات التي يلمحها الناس وهي تطير وتحلق في الفضاء. عالمه يشبهنا في القهر والتخلف والطبقات المتعددة للشخصية اللاتينية، التي لها مرادفها في العالم العربي. ربما اكتشف العرب بعد سنوات أن ثمة ما يعنيهم في كتابات ماركيز، ففي (خريف البطريرك) نرى ديكتاتوريات ليس لها أي منطق، نحن حين نتحدث عن هذا النوع من المعاناة غالبا ما نربطه بأدب السجون وكليشيهات أخرى. لست ضد أدب السجون، لكن ماركيز قدم لنا أدبا مختلفا».

* عيساوي: أحببته وغيرت رأيي
* الشاعر اللبناني جوزيف عيساوي يقول «أكثر ما يعنيني في ماركيز بدايته كصحافي، وارتقاؤه في التقرير الصحافي إلى مستوى إبداعي. بالطبع هو بدأ قاصا وقصته (أجمل رجل غريق في العالم) اجتذبني عنوانها أكثر منها، وأحسب أن عناوين كتبه أجمل من صفحات سردية كثيرة فيها. بصراحة لا أريد أن أحمل المترجم النشيط صالح علماني المسؤولية، لكن قراءتي لرواية (مائة عام من العزلة) بالعربية لم تحقق لي المتعة الكبيرة التي أسمع عنها من عشرات القراء الآخرين. (الحب في زمن الكوليرا) أثرت في كثيرا إذ قرأتها وأنا في بداية الشباب، واستشهدت بأبطالها كثيرا وأنا أغوي النساء في ذلك العمر. بطلة ماركيز فيمينا التي لمحها العاشق في المرآة وبقيت في رأسه عقودا، لعلها كانت صورة عشيقة تراها في مرآة السوق حين تمر أمامها، وتعلق برأسها بينما أنت تعشق امرأة أخرى».
يكمل عيساوي «في ما بعد، حين تبدلت نظرتي للحب، أعدت النظر في الرواية التي شاهدتها صدفة فيلما منذ شهرين. أما نقد ماركيز للديكتاتورية من خلال (في خريف البطريرك) فأنا أفضل عليها ما قرأته عند ماريو فارغاس يوسا بحدته وتمسيخه لشخصية الحكام، وترعيته ومجونه وفساده. أما المفضل عندي من أدباء تلك القارة العجيبة والعارية كأرواح أهلها وأشباح غاباتهم وأساطيرهم فهو خوسيه ساراماغو الذي يذهب بالنزق الروائي والدقة السردية إلى أقاص لا محدودة».

* مثقفون عراقيون يصفون رحيل غارثيا ماركيز بالخسارة الكبرى

* أبدت أوساط ثقافية عراقية حزنها وتأثرها الكبير لرحيل الكاتب العالمي غابرييل غارثيا ماركيز، الذي يعده الكثير منهم بمثابة الروائي الذي لن يتكرر بإنسانيته العالية وحضوره وحبه لبلاده، وإن رواياته ستبقى حاضرة في الأذهان على مدى أجيال قادمة.
يقول الأديب فاضل ثامر، رئيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق: «يعد ماركيز من أهم القامات الأدبية الذين رسموا للقصة والرواية سحرها الأخاذ واستبسلوا عبر رواياتهم ضد الديكاتوريات، وستبقى رواياته حاضرة في النفس والذاكرة، وهي تحكي قصة وطن محارب بقلم أحد أبنائه البررة ورحيله أكبر الخسارات». وأضاف: «برحيل ماركيز نكون قد فقدنا أحد أهم رواد الواقعية السحرية والفن القصصي الفريد ولن يجود الزمان بروائي يحمل ذات عبقريته وإمكانياته التي خلدت رواياته وجعلته متوقدا بيننا على مر الزمان، عندما وقف هذا الروائي موقفا مشرفا أمام كفاح أميركا اللاتينية وعرى طغاة العصر وألبسهم العار».
أما الأديبة والروائية العراقية عالية طالب فقالت: «غابرييل روائي عالمي مهم أثرى المكتبة العربية والعالمية بروائع الأعمال التي ترجمت إلى لغات شتى، وهي روايات أقرب للفنتازية الساخرة بأجوائها العامة التي لم تغادر أرض الراحل وحبه لوطنه كولومبيا، وكنا نستشعر حبه لأرضه بين كلماته. وقد استطاع أن ينقل معاناة بلاده وأحداثها الثقافية والاجتماعية وحتى الخرافة الشعبية منها إلى كل أرجاء العالم، وهو ما نجح فيه ونحن بحاجة اليوم إلى مثقفين وروائيين لهم القدرة على تصوير ما يجري في بلادهم عبر نتاجهم الأدبي كما فعل ماركيز الذي سيبقى غيابه يشكل فراغا كبيرا في المشهد الثقافي العالمي.. سنستعيد رواياته ونعيد في طباعتها كيما نشعر بأنه موجود وحاضر بيننا، خصوصا أن روايتيه «مائة عام من العزلة»، و«الحب في زمن الكوليرا» كانتا ولا تزالان القصتين الأكثر تأثيرا لدى القراء وهما روايتان خالدتان في الأذهان.



هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».