المسرح النسائي في السعودية.. مع وضد!

تجارب بغطاء رسمي تواصل تقدمها

المسرح النسائي في السعودية.. مع وضد!
TT

المسرح النسائي في السعودية.. مع وضد!

المسرح النسائي في السعودية.. مع وضد!

أصبحت المرأة لازمة الجدل بشأن قيام تجربة مسرحية ناجزة في السعودية، البعض وجدها «شماعة» يعلق على غيابها كل إخفاقات هذه التجربة، في حين وجدها البعض مجرد عنوان لصراع أكبر من التشدد والانفتاح.
في كل الأحوال، بدا منذ أكثر من عشر سنوات أن النساء يمكنهن أن يأخذن زمام المبادرة بأنفسهن، وليس مجرد انتظار بطاقة الدخول لخشبة المسرح. فقامت عدة تجارب مسرحية نسائية أهمها في الرياض، كما تشكلت فرق للأداء المسرحي النسوي، الذي يقتصر طاقمه وممثلوه وجمهوره على النساء حصرا.
كيف يمكن تقييم هذه التجربة بعد عدة سنوات على قيامها، وماذا أضافت وتضيف لرصيد الحركة المسرحية السعودية؟

* مسرح ذكوري بالإكراه

* يقول الكاتب والناقد المسرحي عباس الحايك، الذي كتب نصين مسرحيين للمسرح النسائي، إن «المسرح السعودي فرض عليه أن يكون مسرحا ذكوريا، تغيب عنه المرأة بشكل شبه تام، فلا تمثل بمعية الرجل على الخشبة، ولا تحضر عروضا مسرحية على الأغلب، ويبدو عملها المسرحي مقتصرا على الكتابة إذا ما تسنى لها ذلك. وإن طرحت قضاياها فإنها تكون بمنظور ذكوري استعلائي أحيانا كثيرة. لكن من أخذ زمام المبادرة لتعويض غياب المرأة عن المسرح وتخصيص مسرح خاص بالنساء؟ يجيب الحايك، قائلا: لقد كان المسرحيون السعوديون الرجال هم من أخذوا زمام المبادرة، لتجاوز هذا الواقع المفروض، بتخصيص مسرح خاص بالنساء، تقدمه النساء لجمهور نسائي بحت، مستفيدين من المسرح النسائي الذي ينشط في بعض الدول العربية والأوروبية، وتخصص له مهرجانات، ولكن يختلف عن المسرح النسائي السعودي كون الثاني محصورا في دائرة نسائية مغلقة.
تعد مسرحية «مونوكوليا» أول تجربة مسرحية نسائية تكتمل فيها تقريبا عناصر الأداء المسرحي، وهي من تأليف إبراهيم الحمدان، وإخراج سمعان العاني، وتم عرضها في الثمانينات من القرن الماضي. لكن منذ عام 2005 وحتى وقتنا الحاضر، قدمت مسرحيات نسائية كثيرة، المرأة فيها هي الممثلة والمخرجة، من خلال مهرجانات الأعياد التي تقيمها أمانة مدينة الرياض، منذ ذلك الوقت تم إشراك عدد من الممثلات ونجمات التلفزيون الخليجي، بهدف تقديم تجربة أكثر نضجا واحترافا. فقدمت مسرحيات «الهامورة»، و«بيتنا في خطر«، و«بنات فاطمة»، و«هالة وهلالة»، و«مسيار كووم» وغيرها. ولم تكن القضايا التي تناولتها هذه الأعمال (تقليدية) بالكامل، إذ ناقشت قضايا جريئة وصلت بعض أصدائها لصفحات الصحف اليومية.
بعيدا عن الرياض، قدمت أعمال مسرحية نسائية في الدمام والظهران. ونظمت جمعية الثقافة والفنون بالدمام ورشة «إعداد الممثل» أشرفت عليها المدربة البحرينية كلثوم أمين، وأدت فيها المتدربات مشاهد مسرحية. وفي أبها جنوب المملكة، أسست جمعية الثقافة والفنون هناك فرقة (وشل) المسرحية النسائية، كما تشكلت فرقة أخرى تابعة لجمعية الثقافة والفنون بالأحساء. وكانت المخرجة إيمان الطويل قد حازت على عدد من جوائز ملتقى مسرح الطفل السادس منها جائزة الإخراج على مسرحيتها «بلاد الأحلام».

* إشكالات المسرح النسائي

* ما إشكالات التجارب المسرحية النسائية في السعودية؟ في البدء يفرق الحايك بين مستوى هذه الإشكالات، التي لا تمنع استمرار هذه الأعمال، ولكن تقلل من مستوى تطورها، وهو يعددها قائلا، «أولها غياب النقد الموضوعي الذي يقيم المسرحيات التي تعرض على جمهور نسائي متعطش لمشاهدة مسرح، فالنقد يتوازى في أهميته مع أي تجربة مسرحية كانت، ولن تتطور التجربة دون أن تكون تحت مجهر النقد». هذا الغياب، كما يقول الحايك، عائد إلى أن الناقد الرجل لا يمكنه مشاهدة هذه المسرحيات والحكم عليها، ولو أوكل الأمر لناقدات، فإننا سنكون أمام مشكلة جديدة وهي غياب النساء المشغولات بالنقد المسرحي.
ويضيف الحايك: «الإشكال الآخر، هو أن المسرح النسائي، ورغم أنه يكتب عن المرأة وللمرأة، إلا أن أغلب المسرحيات يكتبها كتاب مسرحيون رجال، بسبب عدم وجود كاتبات مسرحيات يرفدن المسرح النسائي بالنصوص التي تتبنى قضايا المرأة من وجهة نظر نسائية وهي الأقرب من وجهة النظر الرجالية التي قد تكون نابعة من تعاطف ليس أكثر. ومن الإشكالات، أن أكثر الممثلات اللاتي يشتغلن في المسرح النسائي، قادمات بخبرات تلفزيونية، فأكثرهن ممثلات دراما، ولم يتسن لهن التمثيل المسرحي بسبب شح الفرص، وحداثة هذا المسرح. وهاته الممثلات يحتجن لتدريبات وورش لكيفية التعامل مع الخشبة، وكيفية الأداء المسرحي الذي يختلف بالضرورة عن الأداء التلفزيوني».وما يؤخذ على المسرحيات النسائية، من وجهة نظر الحايك، أنها أعمال موسمية، إذ تتم كتابتها والإعداد لها لتقدم فقط في مناسبات كالأعياد، أو إجازات المدارس، وتقدم لأسبوع على الأكثر ثم تنتهي، وتكون مجرد عروض طارئة، لا تعاد، ولا تتحول إلى نشاط وممارسة دائمة ولهذه الأسباب لا يمكن التأسيس على هذه العروض لتتحول إلى حركة مسرحية حقيقية، كما يضيف.
ثمة نقص آخر يواجه المسرح النسائي في السعودية، وهو غيابه عن التمثيل في الخارج، حيث استفاد المسرح الرجالي من مشاركاته الخارجية في المهرجانات، ومن احتكاكه بتجارب مسرحية، وبتجارب نقدية دفعت به نحو النضج، وهذا ما لا يتوفر للمسرح النسائي ضمن هذه الحالة الموسمية، وضمن الاشتغال في منطقة الكوميديا الاجتماعية التي قد لا تتناسب إن افترضنا الإمكانية مع طبيعة المهرجانات الخارجية.

ضد التجربة

من جانب آخر، هناك من يرى أن فكرة قيام مسرح نسائي منفصل هي فكرة غير صائبة من أساسها، مثل الكاتب المسرحي عبد العزيز السماعيل، مدير عام جمعية الثقافة والفنون (تابعة لوزارة الثقافة والإعلام)، الذي يقول: «لا يمكن في الحياة إنتاج ثقافة لكل فئة اجتماعية بمعزل عن الأخرى، أو تفصيل الثقافة على مقياس ما تريده أو تفهمه فئة دون أخرى في المجتمع، مثلما نود أن نفصل مسرحا للرجال وآخر للنساء.. أو مسرحا للصحويين ومسرحا لليبراليين مثلا».
السماعيل الذي قدم عددا من الأعمال المسرحية وحاز بعضها على جوائز عربية، يرى أن قيام مسرح نسائي «لن يؤدي إلى نهضة ثقافية وحضارية حقيقية»، ويضيف: «من هنا يمكن فهم خصوصية الحالة المسرحية الفريدة والغريبة في المسرح السعودي المقسم بين مسرح رجالي ومسرح نسائي، لأن كلاهما يعاني أصلا من نقص الآخر وفقدانه المربك». وبرأي السماعيل، فإن الفصل بين المسرحين (الرجالي والنسائي) لا يتيح للكاتب المسرحي إنتاج رسالة ثقافية ناضجة للمجتمع، ولا للفنان المبدع، كما لا يحقق للمسرح حضورا وقيمة حقيقية في الحياة بوصفه فنا اجتماعيا.

* شكسبير ضد النساء!

* لكن غياب المرأة عن المسرح لم يمنع نهضته في أوروبا مثلا، فلماذا التلازم بين المرأة ونجاح التجربة المسرحية في السعودية؟ يجيب عبد العزيز السماعيل، قائلا: «لقد كان مسرح القرون الوسطى في أوروبا، وفي بريطانيا تحديدا مسرحا مشوها لأنه لا يسمح بوجود العنصر النسائي على الخشبة، وكان الفنان العبقري شكسبير في حياته يكتب نصوصه الخالدة وتمثل بين عام 1585 - 1592 من دون العنصر النسائي.. كان الرجال يقومون بدور النساء فيه، ولكن تلك كانت إحدى علامات عصور الظلام والجهل والتخلف وليس زمن الأنوار والازدهار. ونلاحظ من واقع التجربة في المسرح النسائي في المملكة أن محاولته سد الثغرة الناقصة، أو لنقل التعويض عن الفقد كان حلا مشوها أيضا، أي أنه ليس فقط تكرارا للمشكلة ذاتها في المسرح الذكوري، بل يزيد عليها أنه لا يسمح حتى بوجود الذكر كمتفرج، وبذلك فنحن اتجهنا إلى تعميق المشكلة وليس إلى حلها.

* شركاء في العزلة

* لكن، لماذا يعارض بعض المسرحيين السعوديين قيام مسرح نسائي منفصل، ما داموا عاجزين عن تمهيد الطريق أمام مشاركة المرأة على خشبة المسرح؟ يجيب السماعيل بالقول: «رغم أنني لست ضد أي جهود تبذل هنا أو هناك، ولكني أشعر دائما باستجابتنا الضمنية كمسرحيين سعوديين لشروط المتشددين والمتطرفين ضد الفن بتكريس هذا التقسيم الحاد في مسرحنا مثلما هو في مجتمعنا، بل إننا تواطأنا جميعا وبالأخص كتاب المسرح السعودي أو لنقل معظمهم مع الرأي المتطرف الذي يطالب دائما بإقصاء المرأة من الحياة عندما أقصينا بدورنا العنصر النسائي من نصوصنا المسرحية التي نكتبها، أو كتبنا نصوصا للنساء فقط من أجل أن تنفذ نصوصنا على الخشبة بدلا من الإصرار على مطلبنا الأساسي بوجود المرأة شريكا للرجل في مسرح واحد مثلما يحدث في دراما التلفزيون السعودي. وهذا كله عكس واقعا يجب أن يكون مرفوضا من المسرحيين ومن كتاب النصوص المسرحية بالذات». الناقد السينمائي خالد ربيع يتفق مع ما ذهب إليه عبد العزيز السماعيل بقوله: «رغم التجارب المبشرة بقيام تجارب مسرحية نسائية في المملكة إلا أنني لا أؤيد قيامهن بمسرحيات خاصة، فالمسرح مسرح، وهو يمثل الرجل والمرأة». ويضيف: «هذه المسرحيات تسير في الاتجاه المؤكد لعزل المرأة، كما أنه تعبير عن إدانة للرجل المسرحي الذي تقاعس في أداء دوره ولم يناضل حتى يشرك المرأة في العمل المسرحي».
ويضيف ربيع «غالبا هذا الشكل من المسرح يقام في المدارس من أجل تدريب الطالبات على الأداء المسرحي، ولكن لا ينبغي أن يخرج للجمهور لأنه يعزل المرأة عن أداء رسالتها، علما أننا لا نعارض تقديم عرض مسرحي للجمهور من الجنسين لو كانت شخصيات العمل المسرحي كلها من النساء إذا تطلب العرض ذلك، فما نرفضه هو عزل المرأة».
يرى خالد ربيع أن غياب المرأة عن المسرح يمثل معاناة يعرفها المسرحيون، فمنذ الثمانينات كانت هناك مطالبات بوجود المرأة على المسرح، لكن المسرحيين أنفسهم يستحقون اللوم لأنهم لم يقدموا نصا مسرحيا يضمن وجود المرأة. ويضيف «لقد أصبح هناك شبه حالة من اليأس في أن يقدم المسرحيون شخصية نسائية على خشبة المسرح. وهذا يدل على أن غياب المرأة يؤثر على المبدع سواء كان كاتبا مسرحيا أو ممثلا، وبالتالي فهذا الغياب يعزز الحالة الذكورية في المجتمع».
الكاتب والقاص حسن البطران يتفق مع زميليه في رأيهما الرافض لوجود مسرح النسائي منفصل، وهو يرى أن «المسرح يجمع كل الفنون وهو وسيلة تتجسد فيها كل عناصر المجتمع، ومن بينها العنصر البشري وهو يشمل الرجل والمرأة.. وأن أي نقص في هذه العناصر يجعل هنالك حلقة مفقودة تخل بالعمل وإن ظهر في نظر الغير بأنه مكتمل». ويضيف «بسبب هذا الغياب فإننا نرى المسرح السعودي ليس كغيره في الدول الأخرى، كونه يفقد عنصرا أساسيا له أهميته في الأداء ويكمل نصف الدائرة الآخر».
البطران يرى أن قيام مسرح لا يراعي المشاركة من الجنسين هو تجربة ناقصة، وهو يتساءل: ما المانع من وجود المرأة وهي مراعية لأعراف المجتمع من كل جوانبه على خشبة المسرح، فقد ظهرت المرأة في المسلسلات والقنوات التلفزيونية وفي المشاركات الثقافية والأدبية، وحصلت على مناصب في مجالس المؤسسات الثقافية والتربوية والتعليمية والطبية وغيرها.

* الممثلة سارة الجابر: الفرق النسائية تفككت بسبب الشللية ورداءة النصوص

* تقول الفنانة والممثلة سارة الجابر، فنانة مسرحية سعودية، إن «الفرق النسائية السعودية لم تعد موجودة، وغالبية الممثلات السعوديات اللواتي كن أعضاء في فرق نسائية؛ إما اتجهن إلى تقديم مسرحيات الأطفال أو أصبحن يشاركن في مسرحيات يقدمها متعهد أو راع، وليس عبر فرقة مسرحية».
وهي ترى أن غالبية الفرق المسرحية تحولت إلى فرق للأطفال، مع قلة العروض المسرحية التي لا تتجاوز تقديم عرضين في العام. وتضيف «كنت مشاركة في ثلاث فرق مسرحية، أما الآن فلا توجد فرقة مسرحية متكاملة، فقد تفككت الفرق النسائية المسرحية وانتهى وجودها قبل عامين تقريبا، وتشارك ممثلات المسرح عبر الطلب وليس عبر فرق مسرحية كما كان في الماضي».
والسبب وراء ذلك في اعتقادها هو «رداءة النصوص المسرحية، إضافة إلى الشللية التي غزت الفرق المسرحية، فمن ناحية النصوص، كانت غالبية المسرحيات التي تقدمها الفرق متشابهة، وكانت أغلب الفرق تقدم أفكارا مكررة منذ 20 سنة».
وتفكك الفرق المسرحية النسائية السعودية، كما تضيف، ليس له علاقة بالمردود المادي فالفرق كانت تتعاقد مع جهات حكومية مثل أمانة الرياض أو مع شركات راعية لتقديم عروض مسرحية في المهرجانات، كما إنها لم تكن تعاني من صعوبة الحصول على تصريح، فالجهات التي تعمل معها توفر التصريح، إضافة إلى توفير موقع للتدرب بكامل التجهيزات على الأعمال المسرحية بالنسبة لجهة مثل أمانة الرياض أو في المنازل في حالة رعاية إحدى الشركات لها. الفنانة سارة الجابر دخلت عالم المسرح منذ نحو 18 عاما، وآخر مشاركة مسرحية لها كانت من خلال عرض قدمته فرقة نسائية في مهرجان رالي حائل الذي جرى تنظيمه مؤخرا، حيث شاركت الجابر مع فرقة مسرحية نسائية بمسرحية موجهة للأطفال.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي