ترامب والـ«نيويورك تايمز».. «الأصدقاء الأعداء»

ورد اسم دونالد ترامب للمرة الأولى في «نيويورك تايمز» الأميركية في الـ28 من يناير (كانون الثاني) من عام 1973 عندما تحدثت الصحيفة عن مشاريع إعمارية لوالده فريد ترامب. وصفها الصحافي الدين ويتمان آنذاك بمبان توفر شققا سكنية بأسعار معقولة لـ«عامة الشعب». وفي النص، يظهر اسم دونالد: «ابن فريد، خريج جامعة بنسلفانيا، انضم إلى شركة والده قبل 5 أعوام وأصبح (المحرك) فيها». وأضاف ويتمان: «يقول فريد إن ابنه هو أذكى شخص يعرفه، ويتحول التراب إلى ذهب بين يديه».
ومنذ السبعينات، تناولت الصحيفة في نسختها اليومية اسم ترامب الابن أكثر من 12 ألف مرة، وفقا لمحرك البحث في أرشيفها الإلكتروني. وحتى إعلان ترشحه للرئاسة، لم تتعد المقالات المذكور فيها عن تحقيقات وتغطيات محايدة - بل وإيجابية أحيانا - في صفحات الاقتصاد والعقارات والأعمال.
ومع تبلور حملته لمنصب الرئاسة، دأبت الصحيفة على ملاحقة أخباره وتوثيق كل تحركاته وتصريحاته المثيرة للجدل على صفحاتها السياسية وأعمدة الرأي. وهنا دخل الطرفان في صراعات يومية ومشادات إعلامية، اختار ترامب «تويتر» لإشعالها والرد على الصحيفة بتغريداته الجريئة. ومع هذا التاريخ الحافل بالإشادات والمشادات، أصبحت علاقة الرئيس المنتخب بإحدى أهم المطبوعات الأميركية علاقة شائكة وضبابية بين العداوة والصداقة.

هدنة سرعان ما تبطلها الخروقات

قرر ترامب الأسبوع الماضي وبعد تردد، مواجهة الصحيفة في عقر دارها. وجلس في غرفة اجتماعاتها مع طاقمها يحاورهم عن رؤيته «لأميركا أفضل». وبدت مقابلته مع «نيويورك تايمز» بمثابة هدنة مؤقتة مع الصحيفة، لا سيما بعد معلومات عن اجتماع صدامي ليس للنشر سبقها مع إداريي وكبار صحافيي شبكات التلفزيون الكبرى.
وغالبا ما هاجم ترامب الصحيفة في تغريداته، لكنه نأى بنفسه عن التهديدات بتشديد قوانين التشهير، وحادث مسؤولي الصحيفة بمرح. وأكد أنه من قرائها بقوله: «أنا أقرأها بالفعل. مع الأسف»، متابعا: «لو لم أفعل لطال عمري 20 عاما».
وكان قد أعلن ترامب الثلاثاء الماضي عبر «تويتر» أنه ألغى مقابلته مع الصحيفة التي يتهمها بانتظام بالتعامل معه بانحياز، وذلك قبل أن يتراجع ويجري المقابلة وفق الشروط المقررة سلفا.
وكتب ترامب في تغريدة: «ألغيت الاجتماع الذي كان مقررا اليوم مع (نيويورك تايمز) التي تشهد تراجعا، إثر تغيير بنود وشروط الاجتماع في آخر لحظة. هذا ليس جيدا».
وأضاف: «ربما يتم تنظيم اجتماع جديد مع (نيويورك تايمز). وفي الانتظار، تواصل (الصحيفة) تغطية نشاطاتي بطريقة غير صحيحة وبلهجة بغيضة». وفي تغريدة ثالثة، أشار إلى أن شكاوى القراء بحق الصحيفة بلغت عددا قياسيا منذ 15 عاما، وهو ما أعلنته الصحيفة نفسها.
وقالت إيلين مورفي، المتحدثة باسم الصحيفة: «لم نغير القواعد الأساسية البتة، ولم نحاول القيام بذلك».
وفي نهاية المطاف أعلنت هوبي هيكس، المنسقة الصحافية للرئيس المنتخب، للصحافيين الذين يتابعون أنشطة ترامب في مانهاتن، أن «المقابلة تمت كما كان مقررا».
ويأتي هذا الهجوم الجديد لترامب ليجسد العلاقات الصعبة بين الرئيس المنتخب وبعض وسائل الإعلام.
وكثيرا ما ندد ترامب علنا بالتغطية «غير النزيهة» لوسائل الإعلام الكبرى لأنشطته، متهما خصوصا شبكة «سي إن إن» بالكذب.
ويبدو أن الهدنة بين ترامب والصحيفة قد تطيح بها الخروقات، فبعد الاجتماع، سارع كاتب الرأي في «التايمز» تشارلز بلو، في نشر مقال يوم الأربعاء بعنوان: «لا يا ترامب.. لن نتفق». وقال فيه: «أؤكد وبفخر أنني لم أحضر اجتماع الصحيفة مع ترامب، فمجرد فكرة جلوسي على ذات الطاولة مع (زعيم دهماء) يجد في مسائل العرق والدين فريسة له يثير غثياني.. ولن أتفق معه أبدا».

«أوراق البنتاغون»

بعد انتخاب ترامب، باتت هناك مخاوف على حرية الصحافة في فترة رئاسته، خصوصا مع الاتهامات التي طالته خلال الحملة الانتخابية بمضايقة الصحافيين، ما جعل كثيرا من الصحف الأميركية تعلن تأييدها منافسته هيلاري كلينتون. وكانت «نيويورك تايمز» من أهمها. وقالت منظمة «مراسلون بلا حدود»، إنها شعرت بالهلع إزاء التهديدات التي أطلقها ترامب عندما عبر في وقت سابق عن تصميمه على إعادة النظر في قوانين القذف المعمول بها في الولايات المتحدة، بحيث «نتمكن من مقاضاة صحيفة (نيويورك تايمز) أو (واشنطن بوست)» كلما نشرتا مقالات تنتقدانه، بحسب قوله. وقالت المنظمة في بيان نشر على موقعها الإلكتروني إن «ترامب تعمد التضييق عليّ وإهانة المراسلين الذين صوروه بشكل سلبي أو وجهوا إليه أسئلة محرجة». ولا يزال ترامب إلى يومنا هذا متخليا عن البروتوكول الرئاسي في الولايات المتحدة بفرضه صحافة ترافقه.
وهدد في أكثر من مرة بمقاضاة «نيويورك تايمز»، بسبب نشرها روايات لسيدتين تتهمان ترامب بالتحرش بهما. كما أكد في لقائه مع الصحيفة أنه ما زال يعتزم فتح ملف قانون القذف وحرية الصحافة الذي تم اعتماده عام 1964. وينص القانون الحالي على حماية حرية الصحافة والوسائل الإعلامية عند مهاجمتها أو انتقادها أي موظف حكومي. ويحاكم الناشر فقط في حال نقل معلومات خاطئة تهدف بشكل مباشر للتشهير. وهذه ليست العلاقة الشائكة الأولى بين صحيفة «نيويورك تايمز» ورئيس أميركي. فخلال الحرب الفيتنامية، حصلت الصحيفة على وثائق حكومية سرية تسمى «أوراق البنتاغون»، كشفت أن حكومة الرئيس السابق ليندون جونسون صعدت الصراع في فيتنام، وزودت الكونغرس بمعلومات خاطئة بشأن تصرفاتها. وعندها حاول الرئيس الأميركي الجمهوري الذي خلف جونسون، ريتشارد نيكسون، التكتم على الوثائق ومنع الصحيفة من نشرها. إلا أن «التايمز» قامت بنشر حلقات من الوثائق عام 1971، ونشرت الصحيفة على مدار السنوات أغلب أجزاء «أوراق البنتاغون»، رغم أنها ظلت «سرية».
وحاول نيكسون مقاضاة الصحيفة، إلا أن قرار المحكمة العليا جاء لصالح «التايمز»، ما رفع سقف الحرية للإعلام الأميركي منذ ذاك الحين. وإن حاول ترامب تعديل هذا التقليد الذي ساهم في تكوين هوية الإعلام الأميركي المبنية على سنوات من الصحافة النوعية والاستقصائية، فإنه أمام معركة خاسرة ضد القضاء والدستور.. والصحافيين.