أفلاطون.. شاهدًا «واحدًا وحيدًا» بحكم مزامنته للسفسطائيين

أكثر من ظلمهم وحرّف نتاجهم المعرفي وسفّهه

تمثال نصفي لأفلاطون
تمثال نصفي لأفلاطون
TT

أفلاطون.. شاهدًا «واحدًا وحيدًا» بحكم مزامنته للسفسطائيين

تمثال نصفي لأفلاطون
تمثال نصفي لأفلاطون

لا أجد في تاريخ الفكر اليوناني، جمعًا من المفكرين ظلمهم المؤرخ / الفيلسوف أفلاطون، كالسفسطائيين؛ وقد ابتدأ تحريف نتاجهم المعرفي وتسفيهه، منذ بداية القرن الرابع قبل الميلاد، وصار تأويله، تقليدًا مهيمنًا، وجدارًا منيعًا أمام كل نظر مغاير يبتغي المجاوزة. ولا أدل على ذلك، من استمرار الأحكام الرئيسية التي بلورتها القراءة الأفلاطونية، حتى عند كبار فلاسفة القرن التاسع عشر، أمثال «هيغل»، و«زيلر»، وغوثري وغيرهم. هذا على الرغم من أنهم اعتنوا بتأسيس تاريخ للفكر، بناء على اجتهاد فلسفي خاص بهم، مَكَّنَهُم – في غير مجال البحث السفسطائي - من بلورة كثير من الأحكام والتقييمات المخالفة للتقليد الموروث. بل لافت للنظر أنه على الرغم من المراجعات النقدية للتأويل الأفلاطوني، التي أنجزها البحث العلمي المعاصر، بدءا من المؤرخ الإنجليزي غروت، والإيطالي ماريو إنترشتاينر، لا تزال تصدر اليوم، دراسات تكرر التقويم الذي بلوره أفلاطون نفسه، مع أن بداهة التفكير، تفرض، ابتداء، التشكيك في شهادته، وعدم تلقي أحكامه القدحية دونما أعمال النظر النقدي فيها؛ لأنه كان خصمًا للسفسطائيين.
وانتصاب القراءة الأفلاطونية للسفسطائية كتأويل، يصعب تخطيه، له أسباب كثيرة، أهمها، فقدان المتن السفسطائي؛ حيث صار أفلاطون بفعل مزامنته للسفسطائيين، الشاهد «الواحد والوحيد».
وللأسف، حتى أرسطو الذي كان من عادته الحرص على مخالفة أستاذه أفلاطون، في تأويل تاريخ الفكر السابق لهما، نجده قد كرر التأويل ذاته، على الرغم من وجود المتون السفسطائية الأصلية بين يديه. وما يثير الانتباه في النصوص الأرسطية، هو أن «المعلم الأول»، لم يعتن بإيراد الشواهد من المتن السفسطائي، بل اقتصد كثيرا في الإحالات، مكتفيًا بانتزاع كلمات معدودات، تسمح بتوكيد الموقف القادح الذي سبق أن بلوره أفلاطون.
ويرجع سبب ذلك التوافق، إلى أسباب، أهمها اشتراك أرسطو مع أفلاطون في الأساس النظري للتفلسف. وأعني به، فكرة الحد الماهوي التي صارت من بعد، لا تعامَلُ كأرضية للتفلسف الأفلاطوني / الأرسطي، بل لكل التفلسف الكلاسيكي. وقد أدرك أرسطو أن استعمال تلك الفكرة، وإشادة المواقف النظرية والمنطقية على أساسها، يحتاج إلى مذهب مخالف. ولم يكن ثمة وضوح في مخالفة مقتضيات نظرية الحد الماهوي، أكثر من السفسطة بالصورة التي عرضها ورسمها التأويل الأفلاطوني.
ومعلوم أن هذا التوافق، بين أفلاطون وأرسطو؛ سمح للتأويل القادح في حق السفسطة بالرسوخ والهيمنة على كل مراحل تاريخ الفكر الفلسفي اللاحق، سواء داخل السياق الغربي أو في سياقات الفكر المتأثرة والمتفاعلة معه. فإذا استحضرنا السياق العربي مثلا، سنرى أن نموذج القراءة العربية للفلسفة اليونانية استند، أيضًا، إلى التقويم الأفلاطوني / الأرسطي، وكرر وُسُومَاتِهِ القادحة في السفسطة. ففي تراثنا الكلامي والفلسفي، جرى تقسيم السفسطائية إلى ثلاثة أصناف:
صنف العندية، ويفيد بأن كل مذهب حق عند من يعتقده، وباطل عند من لا يعتقده. وَيُقَدَّمُ بروتاغوراس، كزعيم ومعبر عن هذا الصنف في النحلة السفسطائية. وصنف العنادية، ومعناه أن ما من قضية إلا ولها معارضة، تماثلها في القوة على إقناع الأذهان. ويُمَثَّلُ لهذه النحلة بفكر جورجياس.
كما أدخل التراث الكلامي والفلسفي العربي اللاأدرية في السفسطة، كصنف ثالث، ويُرَادُ بها الفكر الشكي، كما تجلى عند بيرون. ويجري جمع هذه الأقسام كلها ووسم أصحابها بأنهم «مبطلو الحقائق»، بحسب التعبير الوارد عند ابن حزم في «الفصل بين الملل والنحل».
واختصارًا، يمكن أن نستحضر آخر لحظات تطور الفكر الفلسفي العربي، كدليل على استقرار الحكم القادح في حق السفسطة، وأعني بها لحظة ابن رشد. حيث صارت كلمة سفسطائي عند صاحب «تهافت التهافت» علامة مشينة، توسلها في مناقدته للغزالي، مما يدل على استقرار معنى السفسطة كضد للتفلسف، ورمزًا لاختلال الفكر وهبوط طرائق النقد.
لنتأمل مثلا، نعته لطريقة الغزالي في مجادلة الفلاسفة، حيث نرى ابن رشد يصفه بأنه ينتقل من قضية إلى أخرى، وأن هذه الطريقة في المجادلة، القائمة على «النقلة من مسألة إلى مسألة، فعل سفسطائي.» وفي رده على مناقشة الغزالي للفلاسفة، في مسألة العدم، يشهر ابن رشد ذات الوسم القادح قائلا: «هذا كله قول سفسطائي خبيث». وقد استمرت هذه الدلالة الشائنة لصيقة بالفكر السفسطائي حتى لحظتنا المعاصرة، حيث نقرأ عند أشهر مؤرخي الفلسفة العرب، أي الأستاذ يوسف كرم، بأن «السفسطائيين كانوا مجادلين مغالطين، وكانوا متجرين بالعلم. أما الجدل، فقد وقفوا عليه جهدهم كله. خرجوا من مختلف المدارس الفلسفية لا يرمون لغير تخريج تلاميذ يحذقونه. وكانوا يفاخرون بتأييد القول الواحد ونقيضه على السواء، وبإيراد الحجج الخلابة في مختلف المسائل والمواقف. ومن كانت هذه غايته، فهو لا يبحث عن الحقيقة، بل عن وسائل الإقناع والتأثير الخطابي».
أما في السياق الأوروبي، فكما أسلفنا القول، استمر ذلك التأويل الأفلاطوني حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث بدأت لحظة المراجعة النقدية الشكاكة في صدقيته؛ مثمرة تقدمًا مهمًا في البحث في مسار تلك المراجعة، بدءًا من غروت، حتى إنترشتاينر وأوجين دوبريل وبربارا كاسان.. لكن لا بد من الإشارة إلى أن هذا التقدم في البحث، الذي أنجزه التأويل المعاصر، لم يكن نفيًا جذريًا للآثار الأفلاطونية التي غبشت فهم دلالة ومكانة السفسطة في تاريخ الفكر الإغريقي. بل أكثر من ذلك، نرى أن بعض تلك المراجعات التي لحقت القراءة الأفلاطونية، كانت توكيدًا لها من نواحٍ كثيرة.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.