إدوارد سعيد.. محاولة قول الحق

منجزه فيما يخص العلاقة بين المثقف والسلطة من أبرز ما تركه القرن العشرون

إدوارد سعيد في إحدى محاضراته
إدوارد سعيد في إحدى محاضراته
TT

إدوارد سعيد.. محاولة قول الحق

إدوارد سعيد في إحدى محاضراته
إدوارد سعيد في إحدى محاضراته

من الصعب العثور على مفكرين أو نقاد عنوا بالعلاقة بين المثقف والسلطة بالكثافة وحرارة الاهتمام التي نجدها لدى إدوارد سعيد. فإذا استثنينا بعض من ورد ذكرهم، لا سيما فوكو وتشومسكي وباديو، فإن منجز سعيد على هذا المستوى يعد بين أبرز ما تركه القرن العشرون على الصعيد المشار إليه. لقد كان لموقع سعيد في الوسط الأكاديمي والثقافي الغربي، بوصفه عربيًا فلسطينيًا وناشطًا سياسيا أميركي الجنسية وضع نفسه في خضم القضايا السياسية المعاصرة وفي طليعتها قضية فلسطين التي كان عضوًا في منظمة تحريرها، كان لذلك أثر رئيسي وراء انشغاله بتلك العلاقة التي مسته شخصيًا ومست الكثيرين من حوله وممن وجدهم في جبهة قريبة من الجبهة التي كان يحارب عليها على مدى نصف قرن امتدت منذ ستينات القرن الماضي حتى وفاته عام 2004.
المقولة الشهيرة حول قول الحق للسلطة تنطبق دون شك ليس على مواقف سعيد النضالية فحسب وإنما على منتَجه المنشور الذي يتجاوز العشرين كتابًا ومئات المقالات والحوارات والمحاضرات في مختلف أنحاء العالم. وكان كتابه الشهير «الاستشراق» (1978) إحدى العلامات الأبرز للمرحلة النضالية التي خاضها سعيد في وجه المؤسسة السياسية والثقافية الغربية. تلت ذلك كتب حول فلسطين والإسلام والإمبريالية وغيرها من القضايا الكبرى التي كان فيها ناقدًا صارمًا للسياسات والآيديولوجيات التي ظلمت الكثيرين في أنحاء مختلفة من العالم ووضع سعيد نفسه إزاءها مدافعًا عن المظلومين وكاشفًا للظلم رغم المخاطر التي كان يمكن أن تلحق به جراءها. وقد لحقه بالفعل كثير من الأذى منها التهديد بالموت والمقاطعة وغير ذلك. ومن هنا أمكن النظر إلى كثير مما كتب سعيد على أنه نصوص مقاومة لقيت مقاومة مقابلة. لكن السؤال هو إلى أي حد كان سعيد يتحرك ضمن وعي بحدود الممكن من القول والمقاومة؟ وماذا كان تأثير ذلك على خطابه الفكري والسياسي؟ ثم أي نوع من المقاومة كانت بانتظاره؟
في كتابه «صور المثقف» (1994) تأتي عبارة سعيد الشهيرة حول قول الحق للسلطة، أو في وجه السلطة. تأتي العبارة، كما يتضح، في سياق تحديد مهمة المثقف ضمن المجتمع الذي يعيش فيه وفي علاقته بالمؤسسات التي يتعامل معها أو يعمل فيها والتي تفرض شروطها ومطالبها أو التي تمارس ضغوطها. يقول سعيد: «في رأيي، إذن، أن الواجب الفكري الأساسي هو البحث عن تحرر نسبي من مثل هذه الضغوط. ومن هنا كان تصويري للمثقف كمنفي، وهامشي، وهاوٍ، وخالق لغة تحاول قول الحق للسلطة».
التحرر «نسبي» ولغة المثقف «تحاول» قول الحق للسلطة. النسبية والمحاولة قلما تذكر حين يستشهد بالعبارة. لكن سعيد أكثر واقعية في إدراكه لحجم الضغوط التي تواجه حرية التفكير قبل التعبير. إنه هنا في معرض تقديمه لمحاضرات ريث التي ألقاها في بريطانيا والتي تمثل متن كتابه حول المثقف والسلطة أو تمثيلات المثقف، كما هو العنوان الأصلي للمحاضرات والكتاب. يقول هنا إنه حين أكد على دور المثقف بوصفه غير منتم: «كان في ذهني غالبًا ما يشعر به المرء في مواجهة شبكة ذات قوة ساحقة من السلطات الاجتماعية – وسائل الإعلام، والحكومة، والشركات، وما إلى ذلك – التي لا تترك مكانًا لاحتمالات إنجاز أي تغيير». ثم يضيف بنبرة شبه يائسة: «كما أن عدم الانتماء إلى هذه السلطات يعني، من أوجه عدة، عدم القدرة على إحداث تغيير مباشر، لا بل الاقتصار على دور شاهد يشهد على أمر مرعب لم يكن ليسجل لولاه».
لكن من هو المثقف غير المنتمي هنا؟ ما يقوله سعيد بعد ذلك ومن خلال الأمثلة التي يضربها يشير إلى مثقفين لا يحتلون مناصب سياسية أو ليسوا ذوي نفوذ سياسي أو اقتصادي، مثل تشومسكي وغور فيدال، وكلاهما من أشهر المعارضين للسياسات الأميركية الرسمية. أولئك وأمثالهما، وسعيد منهم بالتأكيد وإن لم يشر إلى نفسه، هم من يعني بالمثقفين الذين «لا مناصب لهم يحمونها ولا مناطق يعززونها ويحرسونها؛ ولذا فهم يميلون إلى السخرية من الذات ولا يلجأون كثيرًا للتباهي، والصراحة تغلب عندهم على المراوغة والمواربة». هنا يقول سعيد ما قاله تشومسكي من قبل حول تهميش المثقف المعارض في وسائل الإعلام وتعامل المؤسسات الرسمية. ومن المؤكد أن سعيد، كما هو تشومسكي وآخرين مثلهما، قد وجد تهميشًا من جانب الإعلام الأميركي الرئيسي.
حضور تشومسكي في أطروحات سعيد يتضح كلما اقترب من المعارضة السياسية، لكن حضورًا قويًا آخر يبدو جليًا حين يتصل الأمر بالتحليل الثقافي واستكشاف قواعد الخطاب. إنه حضور فوكو الذي ترك أثرًا عميقًا في فكر سعيد منذ كتاب «الاستشراق» الذي بناه على أساس مفهوم الخطاب لدى المفكر الفرنسي، أي بالنظر إلى تيار الاستشراق بوصفه خطابًا محكومًا بضوابط ومنغلقًا على ذوي الاختصاص وصانعًا لموضوعه – الشرق – من خلال علاقات معرفية ولغوية متخصصة ومعزولة إلى حد بعيد عما يفترض أنها تشير إليه. يتضح ذلك حين يتحدث سعيد عن تجربته الشخصية في مناقشة قضايا في العلوم السياسية والأنثروبولوجيا وفقه اللغة (الفيلولوجيا) يرى المختصون، من المستشرقين، أنها تتطلب استعدادًا علميًا معينًا يفتقر إليه سعيد وأمثاله من أهل الدراسات الأدبية. ففيما يتصل بالعلاقات السياسية بين الولايات المتحدة وحلفائها في أنحاء مختلفة من العالم اتضح له أن التدخل في مناقشة تلك العلاقات يواجه بالرفض. ويضرب سعيد مثالاً بتشومسكي الذي تفوق معرفته خبرة المختصين في كثير من القضايا لكنه يُرفض بوصفه غير مختص. هذا مع أن الأمر يتعدى حرية التعبير أو قيود الخطاب في مجالات معينة إلى دعم توجهات بحثية ومعرفية بعينها لأنها تخدم سياسات السلطة، وهو ما يشكل ضغطًا على المثقف الذي يغريه ذلك الدعم الحكومي المقدم لمؤسسات أكاديمية لإجراء دراسات معينة. فالولايات المتحدة لا تقل عن الاتحاد السوفياتي (أو ما كان كذلك حين ألف سعيد كتابه) في توجيه دفة البحث العلمي والنشاط الفكري الذي يقيد في النهاية حرية التفكير قبل التعبير: «ولقد بدأنا نحن لتونا فقط في التنبه قليلاً إلى مغزى ما حدث – وهو أن وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين قدمتا من المال لإجراء أبحاث جامعية في العلوم والتكنولوجيا أكثر من أي متبرع منفرد». أما النتيجة الواضحة من ذلك كله فيلخصها سعيد على النحو التالي: «إن كل شيء متعلق بهذا النظام يعلو فوق النقاش ويحظى بالقبول، كما سبق وقلت، بناء على مقاييس خاصة بالمنافسة واستجابة السوق، تقرر السلوك في ظل رأسمالية متطورة، في مجتمع ليبرالي ديمقراطي. ولكننا في تمضيتنا وقتًا طويلاً منشغلي البال بالقيود المفروضة على الفكر والحرية الفكرية في ظل أنظمة حكم شمولية، لم نكن متطلبين بالقدر ذاته في تأملنا الأخطار التي تتهدد المثقف الفرد من جانب نظام يكافئ التكيف الفكري، وأيضًا المشاركة الطوعية في العمل على تحقيق أهداف لم يحددها العلم بل الحكم..».. غير أن سعيد وهو يعلن وعيه بالقيود المحيطة به وبغيره من المثقفين والمفكرين والباحثين في بلد يعد ديمقراطيًا وليبراليًا في أذهان كثير من مثقفي العالم لا يغفل عن الإعلان أن تخطي تلك القيود أو العيش بمعزل عنها ليس بالأمر السهل.
من هنا يأتي قوله بمحاولة قول الحق، وليس قول الحق فقط. المحاولة تعبر عن الوعي بالصعوبات التي تكتنف السعي إلى قول الحق في وجه السلطة، وهو ما يكرر سعيد تأكيده في تعريفه للمثقف حين يقول إن «المثقف، الحقيقي الحق، ليس موظفًا أو مستخدمًا منقطعًا كليًا لأهداف سياسة حكومة ما أو شركة كبرى ما، أو حتى نقابة ما من المهنيين المتجانسين فكريًا». ذلك التعريف يشكل مرتقى صعبًا كما يسارع سعيد لتوضيحه مخففًا من عنفوان نغمة التأبي والرفض الكلي لخدمة الأهداف السياسية أو المصالح التي لا علاقة لها بفكر المثقف أو ثقافته: «ويستسلم الكثيرون من المثقفين لهذه الإغراءات استسلامًا كاملاً، وهذا ما نفعله كلنا وإن بدرجات مختلفة. فما من امرئ يعيل نفسه بنفسه كليًا، ولا حتى أعظم عظماء الأحرار». ثم يعيد تأكيد مضمون ما قاله بعد عدة صفحات: «لا أحد يمكنه التكلم كل الوقت جهرًا في كل القضايا» مع تأكيده على ضرورة قول الحق في وجه السلطة.



منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين

منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين
TT

منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين

منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين

أتيحت لي في الأسبوعين الماضيين تجربةٌ جميلة قرأتُ فيها كتابيْن مميّزين عن طبيعة الفعل القصصي (السردي). الكتاب الأوّل عنوانه: «الرواية الفلسفية كنوعٍ أدبي - the Philosophical Novel as a Literary Genre» لمؤلفه مايكل ميتياس Michael Mitias، والكتاب من منشورات عام 2022. الكتاب الثاني عنوانه: «كيف تعمل القصص - How Fiction Works» لمؤلفه الناقد الأدبي ذائع الصيت جيمس وود James Wood الذي يكتب منذ سنوات عديدة في مطبوعات ومواقع عالمية أهمها النيويوركر. صدر كتاب وود عام 2009، وتتوفر له ترجمة عربية أنجزها فلاح رحيم. قادتني هاتان القراءتان إلى التفكّر الحثيث في إشكالية العقل الفلسفي مقابل العقل القصصي: هل هي إشكالية حقيقية؟ هل ثمّة تعارض مؤكّد بين العقليْن؟ وهل منطق الفلسفة يلغي بالضرورة منطق القصة؟ انتهيتُ إلى أننا لسنا في حاجة لتجسير الهوّة بينهما؛ لأنّها (الهوة) مفترضة ونتاجُ وهمٍ راسخ لأسباب تعليمية ومهنية. يعمل المنطق الفلسفي والقصصي (السردي) في كلّ عقل بشري بطريقة متزامنة، وهذا ليس محض رغبة شخصية بقدر ما هو وسيلة تكيفية لعيش حياة طيبة ورفيعة في معاييرها المُشخّصة.

ظهر الفلاسفة منذ أكثر من 5 آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. منذ البدء رأى الفلاسفة في صناعة الحُجج (Arguments) وظيفة أساسية لهم؛ لذا تراهم انخرطوا في مناقشات حجاجية قاسية لم تهدأ يوماً ما. تنازعوا فلسفياً بشأن موضوعات عديدة: من أين جاء العالم؟ ومِمّ صُنِع؟ ولماذا وُجِدنا نحن البشر في هذا العالم؟ على الرغم من الحجاج القاسي بين الفلاسفة فإنّهم اتفقوا على أمر واحد: القصة ليست أداة يمكن الاعتماد عليها في التفكير. هُمْ رأوها وسيلة لا تخلو من جنبة انحيازية (تمييزية)، ووسيلة تتبع هوى خالقها، ومغاليةً في الاعتماد على الحقائق الحاضرة؛ لذا كرّس الفلاسفة أنفسهم لإيجاد أداة تفكير أكثر صرامة، وشيئاً فشيئاً تشاركوا قناعة راسخة بأنّ تلك الأداة هي المنطق Logic.

في سنة 350 قبل الميلاد تمكّن الفيلسوف المقدوني متعدد الاشتغالات (Polymath)، أرسطو، من جمع وتوحيد الأقيسة المنطقية المتناثرة بعمله الكبير: الأورغانون (Organon). جابهت سطوة المنطق الأرسطيّ العتيدة تحدياً بيّناً خلال عصر النهضة الأوروبية، عندما عمد الفلاسفة الطبيعيون ذوو العقول التجريبية (من أمثال ليوناردو دافنشي، وغاليليو غاليلي، وويليام هارفي) إلى استبعاد (بل وحتى مهاجمة) الكتب المدرسية الخاصة بالمنطق الأرسطيّ؛ لأنهم وجدوه قصير النظر محدوداً، تنخره الهشاشة، وغير ذي فائدة؛ لكنّ المنطق استعاد بعض مجده الغابر فكانت له عودةٌ خلال عصر التنوير بفعل جهود ديكارت وعبارته التأسيسية في «الكوغيتو» (إشارة إلى العبارة اللاتينية: Cogito Ergo Sum - أنا أفكّر إذن أنا موجود)، وكذلك علم الفلك الرياضياتي الذي وضع أساسه إسحاق نيوتن، ومفهوم العقل المتسامي الذي جاء به إيمانويل كانْت. منذ تلك الجهود المتقدّمة في جبهة المعرفة البشرية راح المنطق يندفعُ حثيثاً في توسيع مكانته في نطاق الفلسفة. مع أواخر القرن التاسع عشر صار المنطق الأرسطيّ أساساً في انبثاق الفلسفة التحليلية (Analytic Philosophy)، عندما وسّع غوتلوب فريغه (Gottlob Frege) من نطاق القوانين المنطقية الأرسطيّة لتكون حساباً (Calculus) يمكنه تناول أي محاججة.

هذا هو ما جعل الفلاسفة (وعامة الإنتلجنسيا والأكاديميين) يعزفون عن ربط القصة بالتفكير. تمكّنت منهم دهشةٌ مديدة راسخة بلحظات الإلهام واسعة النطاق التي تأتي مع الفلسفة، ابتداءً من الفلسفات الهندية القديمة حتى الانعطافة اللغوية التي جاءت مع نشر كتب فتغنشتاين وتأسيس مدرسة التحليل اللغوي والفلسفة التحليلية البريطانية. من المشروع أن نتساءل: ما الذي يمكن أن يكون خاطئاً مع هذه النسخة من المقايسة الفكرية؟

لم يكن الفلاسفة ومريدوهُمْ مخطئين بشأن اعتبار المنطق تفكيراً. هُمْ أخطأوا في اعتبار المنطق الشكل الأوحد للتفكير. السبب وراء هذا الأمر هو وجود - على الأقل - طريقتيْن للتفكير: المنطق والقصة. كلٌّ من المنطق والقصة بوسعه حلُّ معضلاتٍ ليس في استطاعة الآخر تقديم حلّ مناسب لها، وكلٌّ من المنطق والقصة بمستطاعه تخليقُ أشياء لن يستطيع الآخر تخليقها أبداً.

ثنائية الذكاء هذا (الذكاء المنطقي والذكاء القصصي) يمكن عرضُها بمقاربتيْن: تحليلية وتجريبية. في المقاربة التحليلية: توظّفُ القصة والمنطق طُرُقاً إبستمولوجية (معرفية) مختلفة ومتمايزة. طريقة المنطق هي المعادلة المساواتية (Equation)، أو بطريقة أكثر دقّة من الوجهة التقنية: الاستدلال الارتباطي (Correlational Reasoning) الذي يستبعدُ المؤثرات الفردانية؛ في حين تعتمد القصة طريقة الخبرة الذاتية، أو بتوصيف أكثر تقنية: التأمّل السببي (Causal Speculation). كلُّ مقاربة لها نطاقها الإجرائي الخاص: المنطق ثابت يعتمد على تكرار كثرة من الوقائع؛ في حين أنّ القصة متطايرة تمتاز بالخفة، وقد تعتمد على بيانات قليلة أو حتى قد لا تحتاج إلى أي منها (تخليق ذهني خالص أو ما يسمى في العادة رواية الأفكار Novel of Ideas).

في المقاربة التجريبية: يمكن اقتفاءُ أثر كلّ من القصة والمنطق في عمليات ميكانيكية مختلفة في الدماغ البشري. هذا مكافئ للقول (وعلى خلاف ما ظنّه كثير من العلماء الإدراكيين من قبلُ، ولا يزال قسمٌ ضئيل منهم يعتقد به) إنّ الدماغ البشري لا يعملُ كحاسوب. تعتقد الرؤية الحديثة لعمل الدماغ البشري أنّه يعمل جزئياً كحاسوب (أي مُعالِج منطقي)؛ لكنّ الدماغ البشري يعمل في معظم فاعلياته كماكينة سردية لأنّ واحدة من بين غاياته الرئيسية التي تطوّرت عبر الفاعلية الداروينية هي التأثر بالبيئة المحيطة والاستجابة لها بفعل تكيفي مناسب يستفيد من فواعل التغذية الاسترجاعية الحسية (الخبرة). هذا الفعل يتطلبُ تأمّلاً تسبيبياً؛ أي بعبارة أخرى: يتطلبُ تفكيراً قصصياً.

هذا ما تغافله الفلاسفة والإنتلجنسيا. هُم حسبوا أنّ الذكاء يمكن اختزالُهُ في آلية (ميكانيزم) مفردة، وعندما جعلوا تلك الآلية مكافئة للمنطق بات من البديهي أن تُترك للقصة وظيفةٌ وحيدةٌ باقية هي مناقلة الأفكار. كان الفلاسفة غارقين في لجّة الثقة المفرطة بهذا الاستنتاج إلى الحد الذي جعلهم يغفلون أو تناسون عقبةً بيّنة: تستطيعُ القصة مناقلة الأفكار فقط عندما يمتلك الدماغ القدرة على التفكير بصورة طبيعية (تلقائية) في القصة، أي: عندما تقترن القدرة المنطقية مع القدرة السردية (الحكائية)، وبعكس هذا لن تستطيع القصة التأثير السلس والتلقائي فينا. ما رآه الفلاسفة طرداً للقصة من مملكة التفكير البشري كان في الحقيقة تأكيداً لتغلغل الشكل القصصي في نظام التشغيل الأساسي للذكاء البشري. هذا النسق هائل التعقيد للتداخل الخلاق بين المنطق والقصة هو ما ساعد البشر على تخليق حبكات قادت إلى الصنائع الإبداعية الخلاقة لكلّ شيء في الحضارة البشرية على المستويين المادي والرمزي.

الدور القيادي الرائد للفاعلية السردية يعني - بين ما يعنيه من تفاصيل كثيرة - أنّ المنهاج الدراسي المُؤسّس على المنطق الذي اعتمدته مدارسنا لعقود طويلة إنما هو قصير النظر لسببيْن على الأقل:

أولاً: لأنّه قلّل إلى حد بعيد من قيمة الكيفية الأساسية التي يفكر بها الكائن البشري بصورة طبيعية، وترتّب على هذا الأمر نتائج سلبية عميقة الأثر من حيث مترتباتها الاجتماعية. مأسَسَت المناهج الدراسية القائمة على المنطق الخالص لفعالياتِنا المدرسية ودفعت بالتلاميذ إلى مهاوي الحَيرة، والشعور بالخجل والفشل، وكبحت التنامي المتوقّع للأخلاقيات الرفيعة عندما تعاملت مع التلاميذ بقسوة مفرطة عبر تقييم العقول البشرية بمقاييس الواجبات المطلوب تنفيذها بدقة منطقية كلاسيكية صارمة مع عدم الحيود عنها. من هذه الواجبات: الحفظ، والتفكير النقدي، والتعليل الكمي... وهذه كلها واجبات يمكن إنجازها بكيفية أفضل من البشر بواسطة هواتفنا الذكية وحواسيبنا المحمولة. أكّدت المناهج الدراسية أيضاً، وبكثير من الحماسة المفرطة، على الأقيسة المنطقية والكمية والبيانات، وهذا ما ساهم في تعظيم مناسيب تشوّه الشعور بالشخصانية الفردية والكينونة الذاتية (Depersonalization)، والهشاشة، والاحتراق النفسي...

ثانياً: تتغاضى المناهج الدراسية الحالية عن التاريخ الطبيعي لتطوّر أدمغتنا البشرية. ذلك التاريخ يشوبه الغموض. هذا صحيح تماماً، لكنْ برغم هذا نحنُ نعلم أنّ التركيبة المنطقية للدوائر العصبية في أدمغتنا البشرية ليست انعطافة تطورية حديثة أطاحت بالتقنية العقلية التي طوّرت القصة وأحاطتها بالرعاية الكاملة على مدى حقب زمنية طويلة. كان للمنطق (للتفكير المنطقي، لا فرق) الكثيرُ من الزمن لكي يضع بصمته المميزة على تطوّر الذكاء البشري، ولو أنّ آليات التطور الدارويني ابتغت طرح القصة جانباً وتركها تذوي بعيداً عن متناول فاعلياتنا الدماغية لكان من المنطقي أن يمتلك المنطق الهيمنة الكاملة على أدمغتنا بدلاً من أن يرتضي التعايش مع التفكير القصصي. تقودُنا هذه الحقائق الأساسية إلى استدعاء العديد من الأسئلة ذات النكهة التمردية على المواضعات السائدة: ماذا لو أنّ الفلاسفة قدّروا القصة (التفكير القصصي) كما فعلوا مع المنطق؟ أظنّهم لو فعلوا لكنّا انتهينا إلى إشكالية غريبة: ربما لو تعاملنا مع القصة مثلما تعاملنا مع المنطق لخسرنا القوة الذاتية الكامنة في التفكير القصصي، ولجعلنا التفكير القصصي أقرب إلى المهارات الشائعة التي تفتقد ندرة العبقرية الفردية والكشوف الذاتية المتفرّدة على المستويين التقني والرمزي.

القصة تسعى لتقديم إجابات وقتية لها حد كافٍ (Good Enough) من القدرة على تناول المعضلات الواقعية في الحياة البشرية. القصة انتقالة من الإجابات المطلقة للمنطق إلى البراغماتية الوقتية للتفكير القصصي. مع الارتقاء المستدام بتفكيرنا القصصي نستطيع أن نجعل حيواتنا الأرضية أكثر مناعة ضد الهشاشة والانكسار، وأكثر صحّة جسدية ونفسية وذهنية، وأكثر سعادة. لا أظنّ هذا المسعى أقلّ أبداً من شرف المسعى الذي ظلّ جوهر الفعل الفلسفي ومبتغاه منذ بواكير الفلسفة وحتى يومنا هذا.