«النظرية الثقافية والثقافة الشعبية».. دليلٌ لفهم الظواهر المعاصرة

وصف بأنه المرجع الأشمل في الأكاديميات الغربيّة ومراكز البحث

جون ستوري - غلاف الكتاب
جون ستوري - غلاف الكتاب
TT

«النظرية الثقافية والثقافة الشعبية».. دليلٌ لفهم الظواهر المعاصرة

جون ستوري - غلاف الكتاب
جون ستوري - غلاف الكتاب

جدلية الثقافة الشعبيّة بأبعادها المختلفة وعلاقاتها المتداخلة ببنية الهيكليات السياسية والصراعات المتقاطعة في المجتمعات، تمثل مساحة نقاش واسع النطاق في العالم الغربي أكاديميًا وإعلاميًا، لكن قراء العربية غير محظوظين لافتقادهم مراجع موسوعية تغطي مجموعة الأدوات النظرية التي يمكن أن توظف في إزالة الالتباس عن العلاقة بين منتجي الثقافة ومستهلكيها، وتحليل هوامش المناورة في تحديد معنى المنتجات الثقافيّة بين المنتجين الثقافيين والمستهلكين. ولذا فقد كانت الطبعة العربيّة الأولى لكتاب جون ستوري - النظرية الثقافية والثقافة الشعبية - الصادر ضمن مشروع كلمة (هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة) إضافة نوعيّة في هذا المجال. فهذا الكتاب رغم مرور عدّة سنوات على صدور طبعته الإنجليزية الأولى (صدرت منه إلى الآن 6 طبعات)، لا يزال يعدّ، وعلى نطاق واسع، بوصفه المرجع الأهم والأشمل في الأكاديميات الغربيّة ومراكز البحث والفكر عندما يتعلق الأمر بتغطية موسوعيّة للمدارس والمناهج التي استخدمت - وما زالت تستخدم - في تفكيك بناء المعنى في العمل الثقافي - بمعناه الواسع.
والحقيقة أن القضايا والأفكار التي يعالجها الكتاب تبدو غائبة تمامًا عن المشهد الثقافي العربي - إلى درجة أن المترجمين (د. صالح أبو أصبع ود. فاروق منصور) يعترفان بالمعاناة لإيجاد التعابير اللغوية المناسبة للتعبير عن بعض المفاهيم والمصطلحات - هذا على الرّغم من أن تلك القضايا والأفكار ذات تأثير مباشر وحاسم على حياة ومصائر الشعوب والنخب العربية، على حد سواء.
جون ستوري هو السلطة الأكاديميّة الأعلى في المملكة المتحدة وربما أوروبا كلها، فيما يختص بالدراسات الثقافيّة، وهو نشر أكثر من 10 كتب هامة في هذا المجال، كان آخرها «الثقافة وعلاقات القوّة في الدّراسات الثقافيّة»، لكن أشهر أعماله وأوسعها تغطية يبقى كتاب «النظرية الثقافية والثقافة الشعبية»، ورفيقه الكتاب المصاحب للكتاب الأصلي، الذي يحتوي على أمثلة ومختارات من معظم الأعمال الثقافيّة التي يتناولها النص على نحو يسهل الرجوع إليها في مكان واحد ودون عناء.
يقدم جون ستوري عرضًا أراده نوعًا من تقديم تاريخي محايد دون انحيازات آيديولوجيّة - ما أمكن - للأدوات النظريّة والمنهجيّة لدراسة الثقافة الشعبيّة، متجنبًا الوقوع في مطب تفسير العلاقة الجدليّة بين الثقافة والثقافة الشعبيّة. وهو في ذلك اختار أن يستعير لغة النقاد والمنظرين أنفسهم عند عرض نظرياتهم، وإن كان يتفق مع مؤرخ الأدب الأميركي والتر هوتون في كون «المواقف الفكريّة صعبة المنال وما تلبث تفقد لونها ونبرتها الخاصة لحظة أردت أن تعرّفها».
يبدأ عرض ستوري للنظريات والمناهج في فصل أول يحاول فيه القبض على مفهوم الثقافة الشعبيّة منطلقًا من مفاهيم الثقافة والآيديولوجيا، متسللاً إلى المنطقة شديدة الاشتعال لمحاولات تفسير العلاقة بين الأقانيم الثلاثة، محددًا معالم انفصام نشأ بين مفهوم الثقافة الشعبيّة الذي يفترض بالضرورة ثقافة غائب آخر/ نقيض - مهما تكن - والثقافة «الرفيعة» أو غير ذلك من التسميات. الثقافة الشعبية عند ستوري بعد هذا الفصل ليست فئة مفهوميّة ثابتة تاريخيًّا، بل هي جزء لا يتجزأ من فعل التنظير ذاته في محاولة فهم ظواهر الثقافة المتعددة.
يقوم ستوري وعبر فصول ثمانية بتقديم تغطية شاملة، وإن كانت موجزة للمدارس والنظريّات الأساسيّة التي قدمت أدوات ذات قيمة ما في تحليل وفهم وتفسير الثقافة الشعبيّة تاريخيًا، أو خلال مراحل معينة من تطور الحضارة الإنسانيّة بدءًا بأعمال رائد الدراسات الثقافيّة ماثيو أرنولد، فنظريات النزعة الثقافيّة والماركسيّة (بما فيها مدرسة فرانكفورت وألتوسيريّة والغرامشية ومدارس ما بعد الماركسيّة اللاحقة) والتحليل النفسي (فرويد ولاكان) والبنيوية (دو سوسير وشتراوس وبارت وكذلك ما بعد البنيوية وديدرا وفوكو) والجنسانية والجنسويّة، والعرق والعنصرية والتمثيل (بما فيه الاستشراق كما عند إدوارد سعيد)، قبل فصل موسع استهدف فيه تغطية ما بعد الحداثة بأشكالها المتنوعة في حياتنا المعاصرة.
ينهي ستوري عرضه بفصل عاشر أخير، مناقشًا علاقة الشعبي بالاقتصادي والسياسي، فيقّدم فيه دفاعًا حارًا عن شعبويّة ثقافيّة غير متفقة مع معايير النقد المتداولة، معرفًا إياها بوصفها نتاج استجاباتنا للسلع أو الممارسات المسلعة المتاحة من قبل صناعة الثقافة. وهو في ذلك لا ينكر ميل صناعة الثقافة إلى التلاعب أو كون كثير من مستهلكي الثقافة مغفلين - ثقافيًّا - لكنه يبقى الاستجابات المحتملة لسلوكيّات النخبة المهيمنة - وفق مفهوم غرامشي - من قبل الجماهير الشعبيّة مساحة (صغرت أو كبرت) يمكن فيها فقط أن تقرر أسئلة المعنى، وحدود المتعة والاندماج في الرسائل السياسيّة.
وبعد كل محاولات ستوري المخلصة لتجنّب مواقف آيديولوجيّة مسبقة في عرضه لنظريات ومناهج دراسة الثقافة الشعبيّة، فإنه مع ذلك بقي وإلى حد كبير حبيس مركزيته الأوروبيّة - الغربيّة، وقدم حالة العلم حول دراسة الثقافة الشعبية - إذا شئت - كما هي من منظور العالم الأنغلوساكسوني أساسًا، وبنكهة إنجليزية ظاهرة.
وعلى الرغم من تحدثه بشكل موسع عن مساهمة المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي في تقديم نظريّات شديدة الأهمية لا تزال الأقدر على تفسير كثير الظواهر المرتبطة بمعنى وتحليل وفهم الثقافة الشعبيّة، ومن أن مفاهيم غرامشي التي أرساها عن الهيمنة والآيديولوجيا وطبقة المثقفين واسعة الظهور منفردة أو مجمعة هنا وهناك في ثنايا الكتاب، فإن الأخير ولا شك قد قصّر حقيقة عن إعطاء الرّجل حقه بوصفه الأكثر تبصرًا في تفسير العلاقة بين السياسي والثقافي، وبين ثقافة المهيمنين وثقافة الآخرين - الشعبية - متبعًا في ذلك اتجاه يساريين كثيرين إلى إهمال فكر غرامشي لمصلحة تنظير ألتوسير ومدرسة فرانكفورت، وإن كان ذلك دائمًا يحدث على حساب قدرتنا على توسيع مجال الرؤية لمساحة (توازن التسوية) الذي ينشأ بين الطبقة المسيطرة وتلك التابعة، إذ إن غرامشي وحده هو من - خلال نظرية الهيمنة - استكشف وشرح وفسر الصراعات الثقافيّة التي تتضمن الإثنيات والعرق والجنسانيّة والجيل والجنسويّة والإعاقة وغيرها.
يخلص بنا ستوري إلى الاعتراف بأننا جميعًا نعيش تحت سيطرة الرأسماليّة متعددة الجنسيات، وأننا مستمرون بهذا النهج في المدى المنظور. وموقفه أن كل واحد منا - وليس منتجو الثقافة وحدهم - مساهمون فاعلون في الثقافة: نختار ونرفض ونقاوم وننخدع. لكنه أيضًا يدافع عن فكرة أن تداخل المتعة بالسياسة لا يعني أبدًا بالضرورة انعدام إمكانية الفصل بينهما. فنحن يمكن أن نستمتع بمسلسل «لعبة العروش» والمبالغات والمراوغات والإنكارات التي يقدمها، دون أن يعني ذلك بالضرورة قبولنا بالمحتوى السياسي (الإمبراطوري النزعة) للعمل.
ربما ذلك ليس أمرًا سهلاً، لكنه تحدي الوجود ذاته. بل ينبغي أن نتقبل - اليوم ربما أكثر من أي وقت مضى - ضرورة تعلم العيش بين الصيغ المختلفة للواقع، دون الوقوع في «فك الإلحاح المنهك بأن أنماطًا محددة من الاستهلاك فحسب تقرر قيمة المرء أخلاقيًّا وسياسيًا».



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.