قراءة في دور البعد الآيديولوجي بإعادة تدوير موجات الإرهاب المتتالية

أمام خلفية نشاط «القاعدة» و«داعش» في العراق وسوريا

فكر الإرهاب الداعشي انتشر بين الشباب الصغير في السن مثل النار في الهشيم («الشرق الأوسط»)
فكر الإرهاب الداعشي انتشر بين الشباب الصغير في السن مثل النار في الهشيم («الشرق الأوسط»)
TT

قراءة في دور البعد الآيديولوجي بإعادة تدوير موجات الإرهاب المتتالية

فكر الإرهاب الداعشي انتشر بين الشباب الصغير في السن مثل النار في الهشيم («الشرق الأوسط»)
فكر الإرهاب الداعشي انتشر بين الشباب الصغير في السن مثل النار في الهشيم («الشرق الأوسط»)

يمثل التطرف الفكري الديني ظاهرة معقّدة من حيث عوامل إنتاجه، الشيء الذي انعكس على مختلف أوجه الدراسة الفردية أو تلك التي تمارسها مراكز البحث المتخصصة في هذه الظاهرة. ورغم الإقرار العلمي بهذا الوضع، فإن التركيز البحثي على الجانب الآيديولوجي للمنظمات الإرهابية التي ترفع شعارات دينية يمنح المتتبع صورة تفسيرية عميقة، تكشف الأصول الفكرية والسلوكية للتطرف الديني وقدرته على التحول إلى منظمات وميليشيات مسلحة تمارس الحرب والقتال المتوحّش بمبرّرات دينية.
أدى ظهور تنظيم داعش المتطرف، خلال عام 2012م، إلى إثارة شكوك حقيقية حول جدلية بعض العوامل وفعاليتها وقدرتها على تطوير البعد الآيديولوجي للتطرف والإرهاب المنظم. ولئن كانت بعض الدراسات الجادة اعتبرت التنظيم الذي يتزعّمه «أبو بكر البغدادي» استمرارًا لفلسفة العنف السياسي لتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، فإن أبحاثا لا تقل جدية اعتبرت «داعش» موجة جديدة، أكثر توحشًا من حيث استعمال النص الديني والعنف المادي القتالي. وفي الوقت نفسه نظرت الأبحاث هذه إلى تنظيم «البغدادي» الإرهابي، باعتباره حداثيًا من حيث هيكلة الممارسة القتالية والمالية والإدارية. وخلصت هذه المدرسة البحثية من خلال دراساتها إلى نتيجة تؤكد أنه من الصعب، بل يكاد يكون مستحيلا القضاء على تنظيم كـ«داعش» بشكل نهائي، على الرغم من تعدد الوسائل المستخدمة في مواجهته وتطوّرها.
وتبرّر مجمل الدراسات هذه الخلاصة، بالتأكيد، أن القوة العسكرية التي خصّتها دول التحالف ضد الإرهاب - وغيرها من الدول - بأهمية بالغة، بقصد هزم التنظيم والحد من تدفق الموارد المالية والبشرية إليه لا يمكنها تحقيق غرض القضاء النهائي على التنظيم الإرهابي. والسبب هو أن قوته الصلبة تكمن في آيديولوجيته الفكرية الدينية التي تزعم الاعتماد على «تطبيق شرع الله» و«الجهاد ضد أهل الكفر». وهذا البعد الآيديولوجي للثقافة الدينية، كما أثبت التجربة من 2001 إلى اليوم، من الصعب استئصاله بقوة السلاح، حتى لو تيسّر إلحاق الهزيمة بـ«القاعدة» أو «داعش» ماليًا وعسكريًا.

«الروح المنقذة»
وعليه، أصبح من المؤكد بحثيًا، ومن خلال مسار الصراع بين الإرهاب والدول، أن البعد الآيديولوجي هو «الروح المنقذة» اليوم بالنسبة لتنظيمات كـ«قاعدة» أيمن الظواهري (الذي خلف بن لادن في موقع القيادة) و«داعش» البغدادي من محاولات التصفية المتعددة التي تعرض لها التنظيمان الإرهابيان في الشرق الأوسط وأفريقيا. ذلك أن هذه الروح «الشريرة»، أكانت منذ ثمانينات القرن العشرين آيديولوجية عالمية، مبثوثة في ذهنية جيل جديد من الشباب المسلم في الغرب وعلى طول الجغرافيا العربية وفي منطقة آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء. وهذا التمدد سرعان ما استثمرته بعض التنظيمات المتطرفة لتحوله لوقود مهدد للسلم الدولي، يعمل عبر نسيج شبكي، ينتج بدوره مسلكيات إرهابية فرعية أطلق عليها «الذئاب المنفردة».
وسواءً كان التطرف منظّمًا وفق المعيار الوطني القُطري أو عابرًا للقارات، فإن رؤيته الدينية المؤدلجة الخاصة بحاكمية الشريعة وسيادتها من جهة، واعتبار «الولاء والبراء» قاعدة عقدية من جهة ثانية، تستوجب - وفق هذه الآيديولوجية - على التنظيم المواجهة مع «عالم الكفر» الداخلي والخارجي لتحقيق عودة الخلافة الإسلامية، المُفضية بدورها لتطبيق الشريعة.
هذا الثابت الفكري المؤدلج، هو ما جعل من تنظيم «جبهة النصرة» مجرّد تطور مرحلي، يرجع من حيث النسب إلى «القاعدة»، من دون أن يتمسك بكل مذهبيتها الآيديولوجية القتالية العالمية. ويجعل من «جبهة فتح الشام» مجرد حركية في مسار نوعي للتنظيم الأم رسمه بسبب ظروف ذاتية ودولية. ولذلك جاء انفصال «أبو محمد الجولاني» عن «القاعدة» محكومًا بجدلية الاستمرارية لا القطيعة المذهبية والتصوّرية، وفي الوقت ذاته، ثمة إحداث تجديد نوعي من الناحية الفكرية، بالتخلي عن «الجهاد العالمي» و«عالمية الخلافة الإسلامية».
لقد عبّر «الجولاني» على ثنائية الاستمرار والقطيعة، من خلال تحديده ركائز تنظيمه، ولخصها في العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه وتحقيق العدل بين كل الناس، وهذا مشترك أصيل مع «قاعدة» الظواهري. لكنه سرعان ما يكشف عن تطوّر نوعي آيديولوجي، لا يخرج عن مبدأ تجدد «القاعدة»، والخاص بعدم تكفير المجتمع المسلم ومحاربته. ويبدو أن تنظيرات وممارسة «أبو مصعب الزرقاوي» قد لعبت دورًا كبيرًا في هذا الشأن، ذلك أنه استطاع خلق ممارسة تمنح لما هو محلي أولوية على البعد العالمي الذي بناه بن لادن. فـ«الزرقاوي» كيّف تنظيراته فيما يخص التكفير مع الوضع السنّي العراقي، أساسًا، في محاولة منه لتوسيع حاضنته الاجتماعية لمواجهة الشيعة وإيران. وعندما أسس الزرقاوي «التوحيد والجهاد»، وضمها إلى «القاعدة» عام 2004 تحت اسم «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين» فإنه فرض على التنظيم المركزي مراعاة الظروف المحلية لما أسماه «الحالة الجهادية في العراق».
وفي سياق هذا التحول يمكن فهم ما عبر عنه «أبو محمد الجولاني» من تجديد منهجي، بالتأكيد على أن «جبهة فتح الشام» ستسعى لخدمة المسلمين والوقوف على شؤونهم وتخفيف معاناتهم اليومية. بل جعل من أهداف «الجبهة» - حسب قوله - «تحقيق الاستقرار والأمن والأمان والحياة الكريمة لعامة الناس». وفيما يخص «الحرب الأهلية» السورية، أكد على حماية جهاد أهل الشام واعتماد كل الوسائل الشرعية المعينة على ذلك، بما فيها التوحد مع الفصائل المجاهدة التي لم يسبق أن كانت لها صلة عقدية بـ«القاعدة»، مادام ذلك يحقق القضاء على النظام السوري وأعوانه.

«إدارة التوحّش»
في هذا الإطار كذلك يمكن فهم الاختلاف الآيديولوجي بين «القاعدة» و«داعش»، فيما يخص ذهنية التكفير وممارسة التوحش. فخطاب كل من بن لادن والظواهري ظل يتسم بنوع من الحذر تجاه تعميم التكفير على أهل السنّة، من جهة. وكان من جهة أخرى، يحاول الابتعاد عن تكفير عموم الشيعة. في حين انتقل «داعش»، بحكم الظروف المحلية، للتركيز على الجانب الهوياتي المذهبي، والتأصيل له آيديولوجيًا. وبالتالي، اعتبار المواجهة مع الشيعة في العراق وسوريا «حربًا مقدسة» وواجبًا دينيًا لا يختلف عن مواجهة «أمّة الكفر الصليبية» الغربية.
وبما أن «خلافة البغدادي»، حالة «حرب مقدّسة» على الجميع فإن «أبو بكر ناجي»، صاحب كتاب «إدارة التوحش» وأهم منظري «داعش»، يرى أن «إدارة التوحش هي المرحلة القادمة التي ستمر بها الأمة، وتُعد أخطر مرحلة، فإذا نجحنا في إدارة هذا التوحش ستكون تلك المرحلة بإذن الله هي المعبر لدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة. وإذا أخفقنا أعاذنا الله من ذلك - لا يعني ذلك انتهاء الأمر، ولكن هذا الإخفاق سيؤدي لمزيد من التوحش!. ولا يعني هذا المزيد من التوحش الذي قد ينتج عن الإخفاق أنه أسوأ مما هو عليه الوضع الآن أو من قبل في العقد السابق (التسعينات) وما قبله من العقود بل إنَّ أفحش درجات التوحُّش هي أخفُّ من الاستقرار تحت نظام الكفر بدرجات».
من جهته، يمثل «أبو عبد الله المهاجر» المعروف بـ«فقيه داعش»، المنظر الأكثر تعبيرًا عن آيديولوجية إدارة التوحّش. حيث يُشرعِن لممارسات إجرامية غير إنسانية، ويمنحها الجواز الدين الإسلامي، فيذهب في كتابه «مسائل من فقه الجهاد ص 163»، إلى أنه «يشرع لعباد الله المجاهدين في سبيله إعلاء لكلمته: رمي الكفار الحربيين، وقتلهم، وقتالهم بكل وسيلة تخطف نفوسهم، وتنزع أرواحهم من أجسادهم تطهيرًا للأرض من رجسهم، ورفعًا لفتنتهم عن العباد أيًا كانت هذه الوسيلة». ويضيف في الموضوع ذاته (ص 278) «لم يختلف أحد من فقهاء الإسلام في مشروعية قطع رؤوس الكفرة المحاربين، وحزّها سواءً كانوا أحياءً أو أمواتًا، بل ذلك عندهم من البديهيات المسلّمات لتواتر المسلمين عليه في جهادهم لأعداء الله جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل من عهد النبوة وإلى يوم الناس هذا».
وعمومًا، يمكن القول إن تطوّر الذهنية الآيديولوجية للتطرف، وارتباط ذلك بالممارسة الإرهابية تتداخل فيه عوامل سياسية وسوسيولوجية عدة ومعقدة، في طليعتها البعد الآيديولوجي العقدي الثقافي. وهذا ما يطرح بشكل جدي سؤالاً جوهريًا يتعلق بصلابة الاستراتيجية الدولية لمحاربة الإرهاب من حيث منطلقاتها أو وسائلها وأهدافها النهائية.
بالنسبة إلى مايكل كوبلو، الباحث في الظاهرة الإرهابية، فإن «للآيديولوجية والفكر (الداعشي) روحًا قابلة للعودة إلى الحياة، حتى بعد القضاء عليه». فتنظيم «البغدادي» يتصف بالمرونة، و«ستبقى (آيديولوجية داعش) متربصة في مكان ما حتى تتبناها مجموعة أخرى وتبعثها من جديد.. ولقد يكون ممكنًا إبعاد (داعش) عن المشهد، لكن لا يمكن التخلص من الإطار الأوسع للمشكلة من خلال الضربات الجوية ولا حتى إنزال قوات على الأرض».

المعالجة السياسية ضرورية
المواجهة وجب أن تعود لنزع فتيل الأزمة المستحكمة في الجغرافية المنتجة للإرهاب. ومن ثم فإن الحلول السياسية ستبقى أكثر جدوى من المواجهة المسلحة وحدها. وكل من سوريا والعراق بحاجة لنظام سياسي وطني، ومساعدة أممية تحقق مصالحة وعدالة انتقالية حقيقية، وبناء مؤسسات ديمقراطية. ويتم من خلالها حماية حقوق الإنسان، والتعدد الديني والطائفي والمذهبي انسجامًا مع الجغرافية البشرية للمنطقة.
ويبدو أن مسارات وملابسات المعركة العسكرية ضد الإرهاب في العراق والأراضي السورية، وتباينات المصالح الاستراتيجية الإقليمية والدولية، تثبت مرة أخرى، أنه من الصعب القضاء على الآيديولوجية الإرهابية بالقوة العسكرية وحدها. وهذا، خاصة، مع تناقضات الجهات المتحالفة القائدة لعملية مواجهة الإرهاب، من جهة؛ وفي ظل غياب استراتيجية أممية إزاء بناء دولة تجمع جميع الأطراف المجتمعية وتضمن حقوقها السياسية، من جهة ثانية. ومهما تعاظمت القوة الحربية للتحالف الدولي المستوردة خارجيًا، فإنها ستعجز عن تصفية «متوالية التطرف» العقدي، القادر على الانتعاش المتجدّد في ظل الأزمات المحلية المعقدة لمنطقة عاجزة عن تقرير مصيرها، ومصير جماعاتها الاجتماعية.
وهذه الحقيقة الواقعة اليوم في الشرق الأوسط، كافية لبعث «الروح الجهادية» من تحت رماد الصراعات، وتجنيد جيل جديد من المتطرفين المقاتلين المحليين والعالميين ليبصموا على ميلاد موجة جديدة من «إدارة التوحش» المتجاوز لـ«داعش» و«أبو بكر ناجي» و«حسين بن محمود» و«عطية الله» و«عبد الرحمن الفقير»... وغيرهم من المنظرين الإلكترونيين الجدد للتطرف، والإرهابيين المحلي والعالمي.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس - الرباط



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.