قراءة في دور البعد الآيديولوجي بإعادة تدوير موجات الإرهاب المتتالية

أمام خلفية نشاط «القاعدة» و«داعش» في العراق وسوريا

فكر الإرهاب الداعشي انتشر بين الشباب الصغير في السن مثل النار في الهشيم («الشرق الأوسط»)
فكر الإرهاب الداعشي انتشر بين الشباب الصغير في السن مثل النار في الهشيم («الشرق الأوسط»)
TT

قراءة في دور البعد الآيديولوجي بإعادة تدوير موجات الإرهاب المتتالية

فكر الإرهاب الداعشي انتشر بين الشباب الصغير في السن مثل النار في الهشيم («الشرق الأوسط»)
فكر الإرهاب الداعشي انتشر بين الشباب الصغير في السن مثل النار في الهشيم («الشرق الأوسط»)

يمثل التطرف الفكري الديني ظاهرة معقّدة من حيث عوامل إنتاجه، الشيء الذي انعكس على مختلف أوجه الدراسة الفردية أو تلك التي تمارسها مراكز البحث المتخصصة في هذه الظاهرة. ورغم الإقرار العلمي بهذا الوضع، فإن التركيز البحثي على الجانب الآيديولوجي للمنظمات الإرهابية التي ترفع شعارات دينية يمنح المتتبع صورة تفسيرية عميقة، تكشف الأصول الفكرية والسلوكية للتطرف الديني وقدرته على التحول إلى منظمات وميليشيات مسلحة تمارس الحرب والقتال المتوحّش بمبرّرات دينية.
أدى ظهور تنظيم داعش المتطرف، خلال عام 2012م، إلى إثارة شكوك حقيقية حول جدلية بعض العوامل وفعاليتها وقدرتها على تطوير البعد الآيديولوجي للتطرف والإرهاب المنظم. ولئن كانت بعض الدراسات الجادة اعتبرت التنظيم الذي يتزعّمه «أبو بكر البغدادي» استمرارًا لفلسفة العنف السياسي لتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، فإن أبحاثا لا تقل جدية اعتبرت «داعش» موجة جديدة، أكثر توحشًا من حيث استعمال النص الديني والعنف المادي القتالي. وفي الوقت نفسه نظرت الأبحاث هذه إلى تنظيم «البغدادي» الإرهابي، باعتباره حداثيًا من حيث هيكلة الممارسة القتالية والمالية والإدارية. وخلصت هذه المدرسة البحثية من خلال دراساتها إلى نتيجة تؤكد أنه من الصعب، بل يكاد يكون مستحيلا القضاء على تنظيم كـ«داعش» بشكل نهائي، على الرغم من تعدد الوسائل المستخدمة في مواجهته وتطوّرها.
وتبرّر مجمل الدراسات هذه الخلاصة، بالتأكيد، أن القوة العسكرية التي خصّتها دول التحالف ضد الإرهاب - وغيرها من الدول - بأهمية بالغة، بقصد هزم التنظيم والحد من تدفق الموارد المالية والبشرية إليه لا يمكنها تحقيق غرض القضاء النهائي على التنظيم الإرهابي. والسبب هو أن قوته الصلبة تكمن في آيديولوجيته الفكرية الدينية التي تزعم الاعتماد على «تطبيق شرع الله» و«الجهاد ضد أهل الكفر». وهذا البعد الآيديولوجي للثقافة الدينية، كما أثبت التجربة من 2001 إلى اليوم، من الصعب استئصاله بقوة السلاح، حتى لو تيسّر إلحاق الهزيمة بـ«القاعدة» أو «داعش» ماليًا وعسكريًا.

«الروح المنقذة»
وعليه، أصبح من المؤكد بحثيًا، ومن خلال مسار الصراع بين الإرهاب والدول، أن البعد الآيديولوجي هو «الروح المنقذة» اليوم بالنسبة لتنظيمات كـ«قاعدة» أيمن الظواهري (الذي خلف بن لادن في موقع القيادة) و«داعش» البغدادي من محاولات التصفية المتعددة التي تعرض لها التنظيمان الإرهابيان في الشرق الأوسط وأفريقيا. ذلك أن هذه الروح «الشريرة»، أكانت منذ ثمانينات القرن العشرين آيديولوجية عالمية، مبثوثة في ذهنية جيل جديد من الشباب المسلم في الغرب وعلى طول الجغرافيا العربية وفي منطقة آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء. وهذا التمدد سرعان ما استثمرته بعض التنظيمات المتطرفة لتحوله لوقود مهدد للسلم الدولي، يعمل عبر نسيج شبكي، ينتج بدوره مسلكيات إرهابية فرعية أطلق عليها «الذئاب المنفردة».
وسواءً كان التطرف منظّمًا وفق المعيار الوطني القُطري أو عابرًا للقارات، فإن رؤيته الدينية المؤدلجة الخاصة بحاكمية الشريعة وسيادتها من جهة، واعتبار «الولاء والبراء» قاعدة عقدية من جهة ثانية، تستوجب - وفق هذه الآيديولوجية - على التنظيم المواجهة مع «عالم الكفر» الداخلي والخارجي لتحقيق عودة الخلافة الإسلامية، المُفضية بدورها لتطبيق الشريعة.
هذا الثابت الفكري المؤدلج، هو ما جعل من تنظيم «جبهة النصرة» مجرّد تطور مرحلي، يرجع من حيث النسب إلى «القاعدة»، من دون أن يتمسك بكل مذهبيتها الآيديولوجية القتالية العالمية. ويجعل من «جبهة فتح الشام» مجرد حركية في مسار نوعي للتنظيم الأم رسمه بسبب ظروف ذاتية ودولية. ولذلك جاء انفصال «أبو محمد الجولاني» عن «القاعدة» محكومًا بجدلية الاستمرارية لا القطيعة المذهبية والتصوّرية، وفي الوقت ذاته، ثمة إحداث تجديد نوعي من الناحية الفكرية، بالتخلي عن «الجهاد العالمي» و«عالمية الخلافة الإسلامية».
لقد عبّر «الجولاني» على ثنائية الاستمرار والقطيعة، من خلال تحديده ركائز تنظيمه، ولخصها في العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه وتحقيق العدل بين كل الناس، وهذا مشترك أصيل مع «قاعدة» الظواهري. لكنه سرعان ما يكشف عن تطوّر نوعي آيديولوجي، لا يخرج عن مبدأ تجدد «القاعدة»، والخاص بعدم تكفير المجتمع المسلم ومحاربته. ويبدو أن تنظيرات وممارسة «أبو مصعب الزرقاوي» قد لعبت دورًا كبيرًا في هذا الشأن، ذلك أنه استطاع خلق ممارسة تمنح لما هو محلي أولوية على البعد العالمي الذي بناه بن لادن. فـ«الزرقاوي» كيّف تنظيراته فيما يخص التكفير مع الوضع السنّي العراقي، أساسًا، في محاولة منه لتوسيع حاضنته الاجتماعية لمواجهة الشيعة وإيران. وعندما أسس الزرقاوي «التوحيد والجهاد»، وضمها إلى «القاعدة» عام 2004 تحت اسم «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين» فإنه فرض على التنظيم المركزي مراعاة الظروف المحلية لما أسماه «الحالة الجهادية في العراق».
وفي سياق هذا التحول يمكن فهم ما عبر عنه «أبو محمد الجولاني» من تجديد منهجي، بالتأكيد على أن «جبهة فتح الشام» ستسعى لخدمة المسلمين والوقوف على شؤونهم وتخفيف معاناتهم اليومية. بل جعل من أهداف «الجبهة» - حسب قوله - «تحقيق الاستقرار والأمن والأمان والحياة الكريمة لعامة الناس». وفيما يخص «الحرب الأهلية» السورية، أكد على حماية جهاد أهل الشام واعتماد كل الوسائل الشرعية المعينة على ذلك، بما فيها التوحد مع الفصائل المجاهدة التي لم يسبق أن كانت لها صلة عقدية بـ«القاعدة»، مادام ذلك يحقق القضاء على النظام السوري وأعوانه.

«إدارة التوحّش»
في هذا الإطار كذلك يمكن فهم الاختلاف الآيديولوجي بين «القاعدة» و«داعش»، فيما يخص ذهنية التكفير وممارسة التوحش. فخطاب كل من بن لادن والظواهري ظل يتسم بنوع من الحذر تجاه تعميم التكفير على أهل السنّة، من جهة. وكان من جهة أخرى، يحاول الابتعاد عن تكفير عموم الشيعة. في حين انتقل «داعش»، بحكم الظروف المحلية، للتركيز على الجانب الهوياتي المذهبي، والتأصيل له آيديولوجيًا. وبالتالي، اعتبار المواجهة مع الشيعة في العراق وسوريا «حربًا مقدسة» وواجبًا دينيًا لا يختلف عن مواجهة «أمّة الكفر الصليبية» الغربية.
وبما أن «خلافة البغدادي»، حالة «حرب مقدّسة» على الجميع فإن «أبو بكر ناجي»، صاحب كتاب «إدارة التوحش» وأهم منظري «داعش»، يرى أن «إدارة التوحش هي المرحلة القادمة التي ستمر بها الأمة، وتُعد أخطر مرحلة، فإذا نجحنا في إدارة هذا التوحش ستكون تلك المرحلة بإذن الله هي المعبر لدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة. وإذا أخفقنا أعاذنا الله من ذلك - لا يعني ذلك انتهاء الأمر، ولكن هذا الإخفاق سيؤدي لمزيد من التوحش!. ولا يعني هذا المزيد من التوحش الذي قد ينتج عن الإخفاق أنه أسوأ مما هو عليه الوضع الآن أو من قبل في العقد السابق (التسعينات) وما قبله من العقود بل إنَّ أفحش درجات التوحُّش هي أخفُّ من الاستقرار تحت نظام الكفر بدرجات».
من جهته، يمثل «أبو عبد الله المهاجر» المعروف بـ«فقيه داعش»، المنظر الأكثر تعبيرًا عن آيديولوجية إدارة التوحّش. حيث يُشرعِن لممارسات إجرامية غير إنسانية، ويمنحها الجواز الدين الإسلامي، فيذهب في كتابه «مسائل من فقه الجهاد ص 163»، إلى أنه «يشرع لعباد الله المجاهدين في سبيله إعلاء لكلمته: رمي الكفار الحربيين، وقتلهم، وقتالهم بكل وسيلة تخطف نفوسهم، وتنزع أرواحهم من أجسادهم تطهيرًا للأرض من رجسهم، ورفعًا لفتنتهم عن العباد أيًا كانت هذه الوسيلة». ويضيف في الموضوع ذاته (ص 278) «لم يختلف أحد من فقهاء الإسلام في مشروعية قطع رؤوس الكفرة المحاربين، وحزّها سواءً كانوا أحياءً أو أمواتًا، بل ذلك عندهم من البديهيات المسلّمات لتواتر المسلمين عليه في جهادهم لأعداء الله جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل من عهد النبوة وإلى يوم الناس هذا».
وعمومًا، يمكن القول إن تطوّر الذهنية الآيديولوجية للتطرف، وارتباط ذلك بالممارسة الإرهابية تتداخل فيه عوامل سياسية وسوسيولوجية عدة ومعقدة، في طليعتها البعد الآيديولوجي العقدي الثقافي. وهذا ما يطرح بشكل جدي سؤالاً جوهريًا يتعلق بصلابة الاستراتيجية الدولية لمحاربة الإرهاب من حيث منطلقاتها أو وسائلها وأهدافها النهائية.
بالنسبة إلى مايكل كوبلو، الباحث في الظاهرة الإرهابية، فإن «للآيديولوجية والفكر (الداعشي) روحًا قابلة للعودة إلى الحياة، حتى بعد القضاء عليه». فتنظيم «البغدادي» يتصف بالمرونة، و«ستبقى (آيديولوجية داعش) متربصة في مكان ما حتى تتبناها مجموعة أخرى وتبعثها من جديد.. ولقد يكون ممكنًا إبعاد (داعش) عن المشهد، لكن لا يمكن التخلص من الإطار الأوسع للمشكلة من خلال الضربات الجوية ولا حتى إنزال قوات على الأرض».

المعالجة السياسية ضرورية
المواجهة وجب أن تعود لنزع فتيل الأزمة المستحكمة في الجغرافية المنتجة للإرهاب. ومن ثم فإن الحلول السياسية ستبقى أكثر جدوى من المواجهة المسلحة وحدها. وكل من سوريا والعراق بحاجة لنظام سياسي وطني، ومساعدة أممية تحقق مصالحة وعدالة انتقالية حقيقية، وبناء مؤسسات ديمقراطية. ويتم من خلالها حماية حقوق الإنسان، والتعدد الديني والطائفي والمذهبي انسجامًا مع الجغرافية البشرية للمنطقة.
ويبدو أن مسارات وملابسات المعركة العسكرية ضد الإرهاب في العراق والأراضي السورية، وتباينات المصالح الاستراتيجية الإقليمية والدولية، تثبت مرة أخرى، أنه من الصعب القضاء على الآيديولوجية الإرهابية بالقوة العسكرية وحدها. وهذا، خاصة، مع تناقضات الجهات المتحالفة القائدة لعملية مواجهة الإرهاب، من جهة؛ وفي ظل غياب استراتيجية أممية إزاء بناء دولة تجمع جميع الأطراف المجتمعية وتضمن حقوقها السياسية، من جهة ثانية. ومهما تعاظمت القوة الحربية للتحالف الدولي المستوردة خارجيًا، فإنها ستعجز عن تصفية «متوالية التطرف» العقدي، القادر على الانتعاش المتجدّد في ظل الأزمات المحلية المعقدة لمنطقة عاجزة عن تقرير مصيرها، ومصير جماعاتها الاجتماعية.
وهذه الحقيقة الواقعة اليوم في الشرق الأوسط، كافية لبعث «الروح الجهادية» من تحت رماد الصراعات، وتجنيد جيل جديد من المتطرفين المقاتلين المحليين والعالميين ليبصموا على ميلاد موجة جديدة من «إدارة التوحش» المتجاوز لـ«داعش» و«أبو بكر ناجي» و«حسين بن محمود» و«عطية الله» و«عبد الرحمن الفقير»... وغيرهم من المنظرين الإلكترونيين الجدد للتطرف، والإرهابيين المحلي والعالمي.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس - الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟