قراءة في دور البعد الآيديولوجي بإعادة تدوير موجات الإرهاب المتتالية

أمام خلفية نشاط «القاعدة» و«داعش» في العراق وسوريا

فكر الإرهاب الداعشي انتشر بين الشباب الصغير في السن مثل النار في الهشيم («الشرق الأوسط»)
فكر الإرهاب الداعشي انتشر بين الشباب الصغير في السن مثل النار في الهشيم («الشرق الأوسط»)
TT

قراءة في دور البعد الآيديولوجي بإعادة تدوير موجات الإرهاب المتتالية

فكر الإرهاب الداعشي انتشر بين الشباب الصغير في السن مثل النار في الهشيم («الشرق الأوسط»)
فكر الإرهاب الداعشي انتشر بين الشباب الصغير في السن مثل النار في الهشيم («الشرق الأوسط»)

يمثل التطرف الفكري الديني ظاهرة معقّدة من حيث عوامل إنتاجه، الشيء الذي انعكس على مختلف أوجه الدراسة الفردية أو تلك التي تمارسها مراكز البحث المتخصصة في هذه الظاهرة. ورغم الإقرار العلمي بهذا الوضع، فإن التركيز البحثي على الجانب الآيديولوجي للمنظمات الإرهابية التي ترفع شعارات دينية يمنح المتتبع صورة تفسيرية عميقة، تكشف الأصول الفكرية والسلوكية للتطرف الديني وقدرته على التحول إلى منظمات وميليشيات مسلحة تمارس الحرب والقتال المتوحّش بمبرّرات دينية.
أدى ظهور تنظيم داعش المتطرف، خلال عام 2012م، إلى إثارة شكوك حقيقية حول جدلية بعض العوامل وفعاليتها وقدرتها على تطوير البعد الآيديولوجي للتطرف والإرهاب المنظم. ولئن كانت بعض الدراسات الجادة اعتبرت التنظيم الذي يتزعّمه «أبو بكر البغدادي» استمرارًا لفلسفة العنف السياسي لتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، فإن أبحاثا لا تقل جدية اعتبرت «داعش» موجة جديدة، أكثر توحشًا من حيث استعمال النص الديني والعنف المادي القتالي. وفي الوقت نفسه نظرت الأبحاث هذه إلى تنظيم «البغدادي» الإرهابي، باعتباره حداثيًا من حيث هيكلة الممارسة القتالية والمالية والإدارية. وخلصت هذه المدرسة البحثية من خلال دراساتها إلى نتيجة تؤكد أنه من الصعب، بل يكاد يكون مستحيلا القضاء على تنظيم كـ«داعش» بشكل نهائي، على الرغم من تعدد الوسائل المستخدمة في مواجهته وتطوّرها.
وتبرّر مجمل الدراسات هذه الخلاصة، بالتأكيد، أن القوة العسكرية التي خصّتها دول التحالف ضد الإرهاب - وغيرها من الدول - بأهمية بالغة، بقصد هزم التنظيم والحد من تدفق الموارد المالية والبشرية إليه لا يمكنها تحقيق غرض القضاء النهائي على التنظيم الإرهابي. والسبب هو أن قوته الصلبة تكمن في آيديولوجيته الفكرية الدينية التي تزعم الاعتماد على «تطبيق شرع الله» و«الجهاد ضد أهل الكفر». وهذا البعد الآيديولوجي للثقافة الدينية، كما أثبت التجربة من 2001 إلى اليوم، من الصعب استئصاله بقوة السلاح، حتى لو تيسّر إلحاق الهزيمة بـ«القاعدة» أو «داعش» ماليًا وعسكريًا.

«الروح المنقذة»
وعليه، أصبح من المؤكد بحثيًا، ومن خلال مسار الصراع بين الإرهاب والدول، أن البعد الآيديولوجي هو «الروح المنقذة» اليوم بالنسبة لتنظيمات كـ«قاعدة» أيمن الظواهري (الذي خلف بن لادن في موقع القيادة) و«داعش» البغدادي من محاولات التصفية المتعددة التي تعرض لها التنظيمان الإرهابيان في الشرق الأوسط وأفريقيا. ذلك أن هذه الروح «الشريرة»، أكانت منذ ثمانينات القرن العشرين آيديولوجية عالمية، مبثوثة في ذهنية جيل جديد من الشباب المسلم في الغرب وعلى طول الجغرافيا العربية وفي منطقة آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء. وهذا التمدد سرعان ما استثمرته بعض التنظيمات المتطرفة لتحوله لوقود مهدد للسلم الدولي، يعمل عبر نسيج شبكي، ينتج بدوره مسلكيات إرهابية فرعية أطلق عليها «الذئاب المنفردة».
وسواءً كان التطرف منظّمًا وفق المعيار الوطني القُطري أو عابرًا للقارات، فإن رؤيته الدينية المؤدلجة الخاصة بحاكمية الشريعة وسيادتها من جهة، واعتبار «الولاء والبراء» قاعدة عقدية من جهة ثانية، تستوجب - وفق هذه الآيديولوجية - على التنظيم المواجهة مع «عالم الكفر» الداخلي والخارجي لتحقيق عودة الخلافة الإسلامية، المُفضية بدورها لتطبيق الشريعة.
هذا الثابت الفكري المؤدلج، هو ما جعل من تنظيم «جبهة النصرة» مجرّد تطور مرحلي، يرجع من حيث النسب إلى «القاعدة»، من دون أن يتمسك بكل مذهبيتها الآيديولوجية القتالية العالمية. ويجعل من «جبهة فتح الشام» مجرد حركية في مسار نوعي للتنظيم الأم رسمه بسبب ظروف ذاتية ودولية. ولذلك جاء انفصال «أبو محمد الجولاني» عن «القاعدة» محكومًا بجدلية الاستمرارية لا القطيعة المذهبية والتصوّرية، وفي الوقت ذاته، ثمة إحداث تجديد نوعي من الناحية الفكرية، بالتخلي عن «الجهاد العالمي» و«عالمية الخلافة الإسلامية».
لقد عبّر «الجولاني» على ثنائية الاستمرار والقطيعة، من خلال تحديده ركائز تنظيمه، ولخصها في العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه وتحقيق العدل بين كل الناس، وهذا مشترك أصيل مع «قاعدة» الظواهري. لكنه سرعان ما يكشف عن تطوّر نوعي آيديولوجي، لا يخرج عن مبدأ تجدد «القاعدة»، والخاص بعدم تكفير المجتمع المسلم ومحاربته. ويبدو أن تنظيرات وممارسة «أبو مصعب الزرقاوي» قد لعبت دورًا كبيرًا في هذا الشأن، ذلك أنه استطاع خلق ممارسة تمنح لما هو محلي أولوية على البعد العالمي الذي بناه بن لادن. فـ«الزرقاوي» كيّف تنظيراته فيما يخص التكفير مع الوضع السنّي العراقي، أساسًا، في محاولة منه لتوسيع حاضنته الاجتماعية لمواجهة الشيعة وإيران. وعندما أسس الزرقاوي «التوحيد والجهاد»، وضمها إلى «القاعدة» عام 2004 تحت اسم «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين» فإنه فرض على التنظيم المركزي مراعاة الظروف المحلية لما أسماه «الحالة الجهادية في العراق».
وفي سياق هذا التحول يمكن فهم ما عبر عنه «أبو محمد الجولاني» من تجديد منهجي، بالتأكيد على أن «جبهة فتح الشام» ستسعى لخدمة المسلمين والوقوف على شؤونهم وتخفيف معاناتهم اليومية. بل جعل من أهداف «الجبهة» - حسب قوله - «تحقيق الاستقرار والأمن والأمان والحياة الكريمة لعامة الناس». وفيما يخص «الحرب الأهلية» السورية، أكد على حماية جهاد أهل الشام واعتماد كل الوسائل الشرعية المعينة على ذلك، بما فيها التوحد مع الفصائل المجاهدة التي لم يسبق أن كانت لها صلة عقدية بـ«القاعدة»، مادام ذلك يحقق القضاء على النظام السوري وأعوانه.

«إدارة التوحّش»
في هذا الإطار كذلك يمكن فهم الاختلاف الآيديولوجي بين «القاعدة» و«داعش»، فيما يخص ذهنية التكفير وممارسة التوحش. فخطاب كل من بن لادن والظواهري ظل يتسم بنوع من الحذر تجاه تعميم التكفير على أهل السنّة، من جهة. وكان من جهة أخرى، يحاول الابتعاد عن تكفير عموم الشيعة. في حين انتقل «داعش»، بحكم الظروف المحلية، للتركيز على الجانب الهوياتي المذهبي، والتأصيل له آيديولوجيًا. وبالتالي، اعتبار المواجهة مع الشيعة في العراق وسوريا «حربًا مقدسة» وواجبًا دينيًا لا يختلف عن مواجهة «أمّة الكفر الصليبية» الغربية.
وبما أن «خلافة البغدادي»، حالة «حرب مقدّسة» على الجميع فإن «أبو بكر ناجي»، صاحب كتاب «إدارة التوحش» وأهم منظري «داعش»، يرى أن «إدارة التوحش هي المرحلة القادمة التي ستمر بها الأمة، وتُعد أخطر مرحلة، فإذا نجحنا في إدارة هذا التوحش ستكون تلك المرحلة بإذن الله هي المعبر لدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة. وإذا أخفقنا أعاذنا الله من ذلك - لا يعني ذلك انتهاء الأمر، ولكن هذا الإخفاق سيؤدي لمزيد من التوحش!. ولا يعني هذا المزيد من التوحش الذي قد ينتج عن الإخفاق أنه أسوأ مما هو عليه الوضع الآن أو من قبل في العقد السابق (التسعينات) وما قبله من العقود بل إنَّ أفحش درجات التوحُّش هي أخفُّ من الاستقرار تحت نظام الكفر بدرجات».
من جهته، يمثل «أبو عبد الله المهاجر» المعروف بـ«فقيه داعش»، المنظر الأكثر تعبيرًا عن آيديولوجية إدارة التوحّش. حيث يُشرعِن لممارسات إجرامية غير إنسانية، ويمنحها الجواز الدين الإسلامي، فيذهب في كتابه «مسائل من فقه الجهاد ص 163»، إلى أنه «يشرع لعباد الله المجاهدين في سبيله إعلاء لكلمته: رمي الكفار الحربيين، وقتلهم، وقتالهم بكل وسيلة تخطف نفوسهم، وتنزع أرواحهم من أجسادهم تطهيرًا للأرض من رجسهم، ورفعًا لفتنتهم عن العباد أيًا كانت هذه الوسيلة». ويضيف في الموضوع ذاته (ص 278) «لم يختلف أحد من فقهاء الإسلام في مشروعية قطع رؤوس الكفرة المحاربين، وحزّها سواءً كانوا أحياءً أو أمواتًا، بل ذلك عندهم من البديهيات المسلّمات لتواتر المسلمين عليه في جهادهم لأعداء الله جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل من عهد النبوة وإلى يوم الناس هذا».
وعمومًا، يمكن القول إن تطوّر الذهنية الآيديولوجية للتطرف، وارتباط ذلك بالممارسة الإرهابية تتداخل فيه عوامل سياسية وسوسيولوجية عدة ومعقدة، في طليعتها البعد الآيديولوجي العقدي الثقافي. وهذا ما يطرح بشكل جدي سؤالاً جوهريًا يتعلق بصلابة الاستراتيجية الدولية لمحاربة الإرهاب من حيث منطلقاتها أو وسائلها وأهدافها النهائية.
بالنسبة إلى مايكل كوبلو، الباحث في الظاهرة الإرهابية، فإن «للآيديولوجية والفكر (الداعشي) روحًا قابلة للعودة إلى الحياة، حتى بعد القضاء عليه». فتنظيم «البغدادي» يتصف بالمرونة، و«ستبقى (آيديولوجية داعش) متربصة في مكان ما حتى تتبناها مجموعة أخرى وتبعثها من جديد.. ولقد يكون ممكنًا إبعاد (داعش) عن المشهد، لكن لا يمكن التخلص من الإطار الأوسع للمشكلة من خلال الضربات الجوية ولا حتى إنزال قوات على الأرض».

المعالجة السياسية ضرورية
المواجهة وجب أن تعود لنزع فتيل الأزمة المستحكمة في الجغرافية المنتجة للإرهاب. ومن ثم فإن الحلول السياسية ستبقى أكثر جدوى من المواجهة المسلحة وحدها. وكل من سوريا والعراق بحاجة لنظام سياسي وطني، ومساعدة أممية تحقق مصالحة وعدالة انتقالية حقيقية، وبناء مؤسسات ديمقراطية. ويتم من خلالها حماية حقوق الإنسان، والتعدد الديني والطائفي والمذهبي انسجامًا مع الجغرافية البشرية للمنطقة.
ويبدو أن مسارات وملابسات المعركة العسكرية ضد الإرهاب في العراق والأراضي السورية، وتباينات المصالح الاستراتيجية الإقليمية والدولية، تثبت مرة أخرى، أنه من الصعب القضاء على الآيديولوجية الإرهابية بالقوة العسكرية وحدها. وهذا، خاصة، مع تناقضات الجهات المتحالفة القائدة لعملية مواجهة الإرهاب، من جهة؛ وفي ظل غياب استراتيجية أممية إزاء بناء دولة تجمع جميع الأطراف المجتمعية وتضمن حقوقها السياسية، من جهة ثانية. ومهما تعاظمت القوة الحربية للتحالف الدولي المستوردة خارجيًا، فإنها ستعجز عن تصفية «متوالية التطرف» العقدي، القادر على الانتعاش المتجدّد في ظل الأزمات المحلية المعقدة لمنطقة عاجزة عن تقرير مصيرها، ومصير جماعاتها الاجتماعية.
وهذه الحقيقة الواقعة اليوم في الشرق الأوسط، كافية لبعث «الروح الجهادية» من تحت رماد الصراعات، وتجنيد جيل جديد من المتطرفين المقاتلين المحليين والعالميين ليبصموا على ميلاد موجة جديدة من «إدارة التوحش» المتجاوز لـ«داعش» و«أبو بكر ناجي» و«حسين بن محمود» و«عطية الله» و«عبد الرحمن الفقير»... وغيرهم من المنظرين الإلكترونيين الجدد للتطرف، والإرهابيين المحلي والعالمي.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس - الرباط



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.