يمثل التطرف الفكري الديني ظاهرة معقّدة من حيث عوامل إنتاجه، الشيء الذي انعكس على مختلف أوجه الدراسة الفردية أو تلك التي تمارسها مراكز البحث المتخصصة في هذه الظاهرة. ورغم الإقرار العلمي بهذا الوضع، فإن التركيز البحثي على الجانب الآيديولوجي للمنظمات الإرهابية التي ترفع شعارات دينية يمنح المتتبع صورة تفسيرية عميقة، تكشف الأصول الفكرية والسلوكية للتطرف الديني وقدرته على التحول إلى منظمات وميليشيات مسلحة تمارس الحرب والقتال المتوحّش بمبرّرات دينية.
أدى ظهور تنظيم داعش المتطرف، خلال عام 2012م، إلى إثارة شكوك حقيقية حول جدلية بعض العوامل وفعاليتها وقدرتها على تطوير البعد الآيديولوجي للتطرف والإرهاب المنظم. ولئن كانت بعض الدراسات الجادة اعتبرت التنظيم الذي يتزعّمه «أبو بكر البغدادي» استمرارًا لفلسفة العنف السياسي لتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، فإن أبحاثا لا تقل جدية اعتبرت «داعش» موجة جديدة، أكثر توحشًا من حيث استعمال النص الديني والعنف المادي القتالي. وفي الوقت نفسه نظرت الأبحاث هذه إلى تنظيم «البغدادي» الإرهابي، باعتباره حداثيًا من حيث هيكلة الممارسة القتالية والمالية والإدارية. وخلصت هذه المدرسة البحثية من خلال دراساتها إلى نتيجة تؤكد أنه من الصعب، بل يكاد يكون مستحيلا القضاء على تنظيم كـ«داعش» بشكل نهائي، على الرغم من تعدد الوسائل المستخدمة في مواجهته وتطوّرها.
وتبرّر مجمل الدراسات هذه الخلاصة، بالتأكيد، أن القوة العسكرية التي خصّتها دول التحالف ضد الإرهاب - وغيرها من الدول - بأهمية بالغة، بقصد هزم التنظيم والحد من تدفق الموارد المالية والبشرية إليه لا يمكنها تحقيق غرض القضاء النهائي على التنظيم الإرهابي. والسبب هو أن قوته الصلبة تكمن في آيديولوجيته الفكرية الدينية التي تزعم الاعتماد على «تطبيق شرع الله» و«الجهاد ضد أهل الكفر». وهذا البعد الآيديولوجي للثقافة الدينية، كما أثبت التجربة من 2001 إلى اليوم، من الصعب استئصاله بقوة السلاح، حتى لو تيسّر إلحاق الهزيمة بـ«القاعدة» أو «داعش» ماليًا وعسكريًا.
«الروح المنقذة»
وعليه، أصبح من المؤكد بحثيًا، ومن خلال مسار الصراع بين الإرهاب والدول، أن البعد الآيديولوجي هو «الروح المنقذة» اليوم بالنسبة لتنظيمات كـ«قاعدة» أيمن الظواهري (الذي خلف بن لادن في موقع القيادة) و«داعش» البغدادي من محاولات التصفية المتعددة التي تعرض لها التنظيمان الإرهابيان في الشرق الأوسط وأفريقيا. ذلك أن هذه الروح «الشريرة»، أكانت منذ ثمانينات القرن العشرين آيديولوجية عالمية، مبثوثة في ذهنية جيل جديد من الشباب المسلم في الغرب وعلى طول الجغرافيا العربية وفي منطقة آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء. وهذا التمدد سرعان ما استثمرته بعض التنظيمات المتطرفة لتحوله لوقود مهدد للسلم الدولي، يعمل عبر نسيج شبكي، ينتج بدوره مسلكيات إرهابية فرعية أطلق عليها «الذئاب المنفردة».
وسواءً كان التطرف منظّمًا وفق المعيار الوطني القُطري أو عابرًا للقارات، فإن رؤيته الدينية المؤدلجة الخاصة بحاكمية الشريعة وسيادتها من جهة، واعتبار «الولاء والبراء» قاعدة عقدية من جهة ثانية، تستوجب - وفق هذه الآيديولوجية - على التنظيم المواجهة مع «عالم الكفر» الداخلي والخارجي لتحقيق عودة الخلافة الإسلامية، المُفضية بدورها لتطبيق الشريعة.
هذا الثابت الفكري المؤدلج، هو ما جعل من تنظيم «جبهة النصرة» مجرّد تطور مرحلي، يرجع من حيث النسب إلى «القاعدة»، من دون أن يتمسك بكل مذهبيتها الآيديولوجية القتالية العالمية. ويجعل من «جبهة فتح الشام» مجرد حركية في مسار نوعي للتنظيم الأم رسمه بسبب ظروف ذاتية ودولية. ولذلك جاء انفصال «أبو محمد الجولاني» عن «القاعدة» محكومًا بجدلية الاستمرارية لا القطيعة المذهبية والتصوّرية، وفي الوقت ذاته، ثمة إحداث تجديد نوعي من الناحية الفكرية، بالتخلي عن «الجهاد العالمي» و«عالمية الخلافة الإسلامية».
لقد عبّر «الجولاني» على ثنائية الاستمرار والقطيعة، من خلال تحديده ركائز تنظيمه، ولخصها في العمل على إقامة دين الله وتحكيم شرعه وتحقيق العدل بين كل الناس، وهذا مشترك أصيل مع «قاعدة» الظواهري. لكنه سرعان ما يكشف عن تطوّر نوعي آيديولوجي، لا يخرج عن مبدأ تجدد «القاعدة»، والخاص بعدم تكفير المجتمع المسلم ومحاربته. ويبدو أن تنظيرات وممارسة «أبو مصعب الزرقاوي» قد لعبت دورًا كبيرًا في هذا الشأن، ذلك أنه استطاع خلق ممارسة تمنح لما هو محلي أولوية على البعد العالمي الذي بناه بن لادن. فـ«الزرقاوي» كيّف تنظيراته فيما يخص التكفير مع الوضع السنّي العراقي، أساسًا، في محاولة منه لتوسيع حاضنته الاجتماعية لمواجهة الشيعة وإيران. وعندما أسس الزرقاوي «التوحيد والجهاد»، وضمها إلى «القاعدة» عام 2004 تحت اسم «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين» فإنه فرض على التنظيم المركزي مراعاة الظروف المحلية لما أسماه «الحالة الجهادية في العراق».
وفي سياق هذا التحول يمكن فهم ما عبر عنه «أبو محمد الجولاني» من تجديد منهجي، بالتأكيد على أن «جبهة فتح الشام» ستسعى لخدمة المسلمين والوقوف على شؤونهم وتخفيف معاناتهم اليومية. بل جعل من أهداف «الجبهة» - حسب قوله - «تحقيق الاستقرار والأمن والأمان والحياة الكريمة لعامة الناس». وفيما يخص «الحرب الأهلية» السورية، أكد على حماية جهاد أهل الشام واعتماد كل الوسائل الشرعية المعينة على ذلك، بما فيها التوحد مع الفصائل المجاهدة التي لم يسبق أن كانت لها صلة عقدية بـ«القاعدة»، مادام ذلك يحقق القضاء على النظام السوري وأعوانه.
«إدارة التوحّش»
في هذا الإطار كذلك يمكن فهم الاختلاف الآيديولوجي بين «القاعدة» و«داعش»، فيما يخص ذهنية التكفير وممارسة التوحش. فخطاب كل من بن لادن والظواهري ظل يتسم بنوع من الحذر تجاه تعميم التكفير على أهل السنّة، من جهة. وكان من جهة أخرى، يحاول الابتعاد عن تكفير عموم الشيعة. في حين انتقل «داعش»، بحكم الظروف المحلية، للتركيز على الجانب الهوياتي المذهبي، والتأصيل له آيديولوجيًا. وبالتالي، اعتبار المواجهة مع الشيعة في العراق وسوريا «حربًا مقدسة» وواجبًا دينيًا لا يختلف عن مواجهة «أمّة الكفر الصليبية» الغربية.
وبما أن «خلافة البغدادي»، حالة «حرب مقدّسة» على الجميع فإن «أبو بكر ناجي»، صاحب كتاب «إدارة التوحش» وأهم منظري «داعش»، يرى أن «إدارة التوحش هي المرحلة القادمة التي ستمر بها الأمة، وتُعد أخطر مرحلة، فإذا نجحنا في إدارة هذا التوحش ستكون تلك المرحلة بإذن الله هي المعبر لدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة. وإذا أخفقنا أعاذنا الله من ذلك - لا يعني ذلك انتهاء الأمر، ولكن هذا الإخفاق سيؤدي لمزيد من التوحش!. ولا يعني هذا المزيد من التوحش الذي قد ينتج عن الإخفاق أنه أسوأ مما هو عليه الوضع الآن أو من قبل في العقد السابق (التسعينات) وما قبله من العقود بل إنَّ أفحش درجات التوحُّش هي أخفُّ من الاستقرار تحت نظام الكفر بدرجات».
من جهته، يمثل «أبو عبد الله المهاجر» المعروف بـ«فقيه داعش»، المنظر الأكثر تعبيرًا عن آيديولوجية إدارة التوحّش. حيث يُشرعِن لممارسات إجرامية غير إنسانية، ويمنحها الجواز الدين الإسلامي، فيذهب في كتابه «مسائل من فقه الجهاد ص 163»، إلى أنه «يشرع لعباد الله المجاهدين في سبيله إعلاء لكلمته: رمي الكفار الحربيين، وقتلهم، وقتالهم بكل وسيلة تخطف نفوسهم، وتنزع أرواحهم من أجسادهم تطهيرًا للأرض من رجسهم، ورفعًا لفتنتهم عن العباد أيًا كانت هذه الوسيلة». ويضيف في الموضوع ذاته (ص 278) «لم يختلف أحد من فقهاء الإسلام في مشروعية قطع رؤوس الكفرة المحاربين، وحزّها سواءً كانوا أحياءً أو أمواتًا، بل ذلك عندهم من البديهيات المسلّمات لتواتر المسلمين عليه في جهادهم لأعداء الله جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل من عهد النبوة وإلى يوم الناس هذا».
وعمومًا، يمكن القول إن تطوّر الذهنية الآيديولوجية للتطرف، وارتباط ذلك بالممارسة الإرهابية تتداخل فيه عوامل سياسية وسوسيولوجية عدة ومعقدة، في طليعتها البعد الآيديولوجي العقدي الثقافي. وهذا ما يطرح بشكل جدي سؤالاً جوهريًا يتعلق بصلابة الاستراتيجية الدولية لمحاربة الإرهاب من حيث منطلقاتها أو وسائلها وأهدافها النهائية.
بالنسبة إلى مايكل كوبلو، الباحث في الظاهرة الإرهابية، فإن «للآيديولوجية والفكر (الداعشي) روحًا قابلة للعودة إلى الحياة، حتى بعد القضاء عليه». فتنظيم «البغدادي» يتصف بالمرونة، و«ستبقى (آيديولوجية داعش) متربصة في مكان ما حتى تتبناها مجموعة أخرى وتبعثها من جديد.. ولقد يكون ممكنًا إبعاد (داعش) عن المشهد، لكن لا يمكن التخلص من الإطار الأوسع للمشكلة من خلال الضربات الجوية ولا حتى إنزال قوات على الأرض».
المعالجة السياسية ضرورية
المواجهة وجب أن تعود لنزع فتيل الأزمة المستحكمة في الجغرافية المنتجة للإرهاب. ومن ثم فإن الحلول السياسية ستبقى أكثر جدوى من المواجهة المسلحة وحدها. وكل من سوريا والعراق بحاجة لنظام سياسي وطني، ومساعدة أممية تحقق مصالحة وعدالة انتقالية حقيقية، وبناء مؤسسات ديمقراطية. ويتم من خلالها حماية حقوق الإنسان، والتعدد الديني والطائفي والمذهبي انسجامًا مع الجغرافية البشرية للمنطقة.
ويبدو أن مسارات وملابسات المعركة العسكرية ضد الإرهاب في العراق والأراضي السورية، وتباينات المصالح الاستراتيجية الإقليمية والدولية، تثبت مرة أخرى، أنه من الصعب القضاء على الآيديولوجية الإرهابية بالقوة العسكرية وحدها. وهذا، خاصة، مع تناقضات الجهات المتحالفة القائدة لعملية مواجهة الإرهاب، من جهة؛ وفي ظل غياب استراتيجية أممية إزاء بناء دولة تجمع جميع الأطراف المجتمعية وتضمن حقوقها السياسية، من جهة ثانية. ومهما تعاظمت القوة الحربية للتحالف الدولي المستوردة خارجيًا، فإنها ستعجز عن تصفية «متوالية التطرف» العقدي، القادر على الانتعاش المتجدّد في ظل الأزمات المحلية المعقدة لمنطقة عاجزة عن تقرير مصيرها، ومصير جماعاتها الاجتماعية.
وهذه الحقيقة الواقعة اليوم في الشرق الأوسط، كافية لبعث «الروح الجهادية» من تحت رماد الصراعات، وتجنيد جيل جديد من المتطرفين المقاتلين المحليين والعالميين ليبصموا على ميلاد موجة جديدة من «إدارة التوحش» المتجاوز لـ«داعش» و«أبو بكر ناجي» و«حسين بن محمود» و«عطية الله» و«عبد الرحمن الفقير»... وغيرهم من المنظرين الإلكترونيين الجدد للتطرف، والإرهابيين المحلي والعالمي.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس - الرباط