د. أحمد عبد الملك: الرواية مساحة نبيلة للتعبير ولا يجوز أن يلجها «غشماء السرد»!

القطريون بدأوا كتابة الرواية عام 1993 وأنتجوا 23 منها في ربع قرن

د. أحمد عبد الملك
د. أحمد عبد الملك
TT

د. أحمد عبد الملك: الرواية مساحة نبيلة للتعبير ولا يجوز أن يلجها «غشماء السرد»!

د. أحمد عبد الملك
د. أحمد عبد الملك

خلافًا لدول الخليج التي تتقاسم معها الطبيعة الاجتماعية والثقافية، لم تظهر الرواية في دولة قطر إلا متأخرة جدًا، وتحديدًا في عام 1993، على الرغم من أن الأدب القطري هو جزء من أدب الخليج والجزيرة العربية المنطقة، التي عرفت السرد منذ قرون، وظهرت فيها الرواية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وفي دراسة مهمة ومسحية، قام بها الناقد والروائي القطري الدكتور أحمد عبد الملك، تحمل عنوان «الرواية القطرية.. قراءة في الاتجاهات» التي صدرت في كتاب عام 2015 ترصد وتحلل الإنتاج الروائي القطري على مدى 22 عامًا منذ عام 1993 حين صدرت الرواية القطرية الأولى «العبور إلى الحقيقة» للكاتبة شعاع خليفة.
يتحدث الدكتور أحمد عبد الملك في الحوار التالي مع «الشرق الأوسط» الذي أجري معه في الدوحة، عن بدايات التجربة الروائية في قطر، وأسباب تأخرها، وعناصر التأثير فيها. وكذلك قلة المنتج الروائي القطري قياسًا بالفنون الإبداعية الأخرى، فالإنتاج الروائي القطري الذي يمتلك الشروط الفنية للرواية، لم يتعدَّ 23 رواية خلال نحو ربع قرن.
الدكتور أحمد عبد الملك، كاتب وناقد، وإعلامي، وله ست تجارب روائية، هي: «أحضان المنافي» (2005)، و«القنبلة» (2006)، و«فازع شهيد الإصلاح في الخليج» (2009)، و«الأقنعة» (2011).. ويصدر له هذا الأسبوع رواية «الموتى يرفضون القبور» (2016)، ورواية «شو» (تحت الطبع).. وكتب في النقد الأدبي، بينها الدراسة الأخيرة عن «الرواية القطرية».
* هل لك أن تحدثنا عن البدايات.. لماذا تأخر ظهور الرواية القطرية حتى عام 1993 تاريخ صدور الرواية القطرية الأولى «العبور إلى الحقيقة» للكاتبة شعاع خليفة؟
- بدايات الرواية القطرية كانت في عام 1993، عندما أصدرت الكاتبة شعاع خليفة أولى الروايات وهي «العبور إلى الحقيقة»، ثم أعقبتها برواية «أحلام البحر القديمة»، التي أشارت فيها إلى أنها كتبتها عام 1990. كما أصدرت أختها دلال خليفة روايتها الأولى «أسطورة الإنسان والبحيرة»، وبذلك تكون الأختان شعاع ودلال خليفة رائدتي العمل الروائي في قطر.
وتوالت روايات الأختين بعد ذلك، حيث أصدرت شعاع «في انتظار الصافرة» عام 1994، وأصدرت دلال «أشجار البراري البعيدة» عام 1994 ثم «من البحّار القديم إليك» عام 1995 ثم «دنيانا.. مهرجان الأيام والليالي» عام 2000. ومنذ عام 2005 أصدرتُ أنا رواية «أحضان المنافي»، ثم «القنبلة» عام 2006، ثم «فازع.. شهيد الإصلاح في الخليج» عام 2009، ثم «الأقنعة» عام 2011، ثم «الموتى يرفضون القبور» عام 2016، ورواية أخرى في المطبعة هذه الأيام هي «شو». وأصدرت الكاتبة مريم آل سعد رواية «تداعي الفصول» عام 2007، ثم أصدرت نورة آل سعد رواية «العريضة» عام 2010، وأصدر الكاتب عبد العزيز المحمود رواية «القرصان» عام 2011، ورواية «الشراع المقدس» عام 2014، وأصدر جمال فايز رواية «زبد الطين» عام 2013، كما أصدر عيسى عبد الله رواية «كنز سازيران» عام 2013، ورواية «بوابة كتارا وألغاز دلمون» عام 2014، ورواية «شوك الكوادي» عام 2015، وأصدرت شمة الكواري رواية «نوافير الغروب» عام 2014، وكذلك رواية «روضة أزهار الياسمين» عام 2014، و«هتون نور العيون» عام 2015. وأصدرت أمل السويدي رواية «الشقيقة» عام 2014.
أما سبب تأخر ظهور الرواية القطرية، فلا توجد أسباب محددة، حيث كان الكُتاب والكاتبات منهمكين في القصة القصيرة، ومعظم الذي كتبوا الرواية كانوا في الأساس من كتاب القصة القصيرة. وأعتقد أن اطلاع المبدعين القطريين على النماذج الحديثة في الرواية قد أسهم في ظهور الرواية القطرية.
* أيضًا كيف تفسّر قلة الأعمال الروائية في قطر، في كتابك «الرواية القطرية.. قراءة في الاتجاهات» أحصيت نحو 23 رواية قطرية تمتلك فعلاً شروط الرواية الفنية؟
- قلة الأعمال الروائية القطرية، راجع لطبيعة حجم سكان البلد، وبالتالي نسبة المبدعين فيه، ناهيك بأن العمل الإبداعي له اشتراطات، ولقد بينت أنا ذلك في كتاب (الرواية القطرية.. قراءة في الاتجاهات)، لأن كثيرًا من الكتاب والكاتبات قد مارسوا كتابة الرواية دون إلمام بالخصائص السردية التي تحكم الرواية، وللأسف، هناك كثير من المخالفات والمغالطات في تثبيت مدلول مفهوم الرواية، ولقد أصبح الجميع يكتب رواية، دون أن يكون قد قرأ رواية واحدة! وهذه إحدى إشكاليات الإنتاج الضعيف الذي نراه اليوم.
* أنت شخصيًا لديك أربع تجارب روائية: «أحضان المنافي»، و«القنبلة»، و«فازع شهيد الإصلاح في الخليج»، و«الأقنعة».. أين تضع هذه الأعمال في سياق التجربة الروائية في قطر..؟ لماذا لم تُضَمِّنْها في دراستك عن الرواية القطرية؟
- نعم، لدي أربع روايات، وسيكون الرقم ستة روايات عند نشر هذا الحديث، حيث وقَّعْت رواية «الموتى يرفضون القبور»، وهنالك رواية أخرى في المطبعة اسمها «شو». أما أين أضع أعمالي في سياق التجربة الروائية في قطر، فأنا تجاوزت الهم الاجتماعي أو استحضار الماضي في رواياتي، وقفزت إلى المستقبل كما هو الحال في رواية «فازع.. شهيد الإصلاح في الخليج» حيث تتحدث عن مملكة من ممالك الخليج بعد 50 عامًا من عام 2009، وأيضًا رواية «الأقنعة» التي حبكت حول جريمة تقع في فندق بلندن، وأيضًا رواية «الموتى يرفضون القبور» حيث فلسفة الموت والحياة، وأن الأحداث أغلبها تدور في المقبرة. أما لماذا لم أضمِّن أعمالي تلك الدراسة حول الرواية القطرية، فأعتقد أن هذا هو الأصول والأمانة الأدبية، فأنا لا أستطيع تقييم أعمالي، وأترك للآخرين ذلك. وهذا يزيد من مصداقية الدراسة التي قدمتها.
* ذكرت في كتابك أن بعض التجارب الروائية في قطر خلطت بين القصة القصيرة والرواية، أو بين الرواية والخواطر الذاتية والإنشاء.. أليست هذه أزمة الرواية العربية عمومًا وليست خاصة بقطر..؟
- نعم، هنالك التباس في المصطلح لدى كثيرين ممن يكتبون الرواية! وأنا تحدثت عن هذا كثيرًا، هنالك من كتب ما سماها رواية، دون أن يدرك الخصائص السردية التي تشّكل الرواية أو تكون إطارًا علميًا لها. كثيرون كتبوا خواطر أو ذكريات سفر، أو هواجس ليل، وسموها رواية! وهذا خلط غير حميد، أنا لم أكتب روايتي الأولى إلا بعد أن عكفت على قراءة أكثر من خمسين رواية متنوعة بين الأدب العربي واللاتيني والأوروبي والشرقي أيضًا. الرواية مساحة نبيلة للتعبير ولا يجوز أن يلجها من سماهم صديقي الدكتور عبد الله إبراهيم «غشماء السرد»! نعم، لا توجد جهة تحدد المسار، أو تفرز المفاهيم، والكل صار يعلّق آماله في الشهرة على الرواية، لا أختلف معك على أنها أزمة الرواية العربية، ولكن «الزبد» تذروهُ الرياح، وحتمًا سوف يأتي جيل يدرك المعاني النبيلة للرواية، حتى وإن تعلق «غشماء» السرد بالواقع الافتراضي لهم، وتفاخروا بالآلاف أو مئات الآلاف من المتابعين على الواقع الافتراضي. الكتابة النبيلة يجب أن تحترم اللغة، وتقدم للقارئ بديع اللغة، وحرفنة الوصل والتواصل بين الشخصيات وتطوراتها، وكثيرًا من الأعمال سادتها أخطاء نحوية وعدم اهتمام بتطور الشخصيات أو الاهتمام بالزمكانية أو تطور الحدث.
* هل تراجعت الرواية لوحدها من بين الأجناس الأدبية والفنون الأخرى، لوحدها في قطر..؟ بمعنى هل هناك اتجاه نحو أجناس إبداعية أخرى..؟
- كلا، الرواية تسير في سرعة مذهلة نحو التطور، ولم تتراجع، وهي أداة ناجعة للتعبير عن المجتمعات، حيث تغني عن المقالة أو المسرح أو الأغنية، التي تحاصرها الرقابة في بعض الدول. لقد تراجع المسرح نظرًا للظروف السياسية التي ألمت بالعالم العربي، بل وتراجع الشعر العربي، مع التقدير لدور الشعر الشعبي! لم ألحظ أجناسًا أخرى في الإبداع، لكن القصة والرواية في تقدم، والدليل أن جيل الشباب بدأ يقرأ القصة والرواية، وبعضهم يكتبها، وله محاولات جيدة تستحق التشجيع.

البيئة والتراث

* كيف تقّيم تجربة عبد العزيز المحمود، الذي أصدر روايتين: «القرصان» و«الشراع المقدس»..؟
- تجربة الأخ عبد العزيز المحمود تجربة فريدة، فأنا لم أعرفه قاصًا ولا روائيًا من قبل، قدر ما كان صحافيًا مقتدرًا. أنا قرأت رواية «القرصان» بشغف، ولن أناقشها من حيث اقترابها من صدقية التاريخ، كلا، أنا قرأتها قراءة فنية، ورأيت فيها لوحة تاريخية معبّرة عن مأساة «ارحمة بن جابر» المقلب بالقرصان، وأعجبني فيها تقسيم فصول الرواية على الأمكنة، وهذا اتجاه جميل، يزيد في التشويق، والانتقال من بيئة إلى أخرى، بكل ما فيها من مناظر وملامح الحياة، من دارين، إلى الزبارة، إلى الشواطئ الإيرانية إلى خورفكان إلى مسقط إلى بومبي إلى «الرس» وغيرها، وهذا ما أضفى على الرواية بعدًا تشويقيًا رائعًا، وإن كنت أتمنى زيادة استخدام البديع والبيان في السرد. رواية «الشراع المقدس» لم أُكملها، ولكنها أيضًا تصبّ في اهتمامات الأخ عبد العزيز المحمود في قراءة التاريخ، وهي ترصد حقبة مهمة من الحقب التي مرت بها منطقة الخليج.
* دراستك ركزت على أثر البيئة في اتجاهات الرواية القطرية.. كيف تصفه؟
- البيئة مهمة في العمل الروائي، لأن الرواية تخدم المجتمع، ولا بد للروائي من تقديم البيئة تقديمًا جيدًا، حتى وإن كانت الرواية متخيلة، أنا تحدثت عن البيئة في كتاب «الرواية القطرية.. قراءة في الاتجاهات»، لأن أولى التجارب الروائية قد صورت البيئة تصويرًا جيدًا، نقل الصورة عن المجتمع القطري للقارئ العربي، وهذا من أهداف الرواية. إن روايات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم قد نقلت البيئة نقلاً تصويريًا جميلاً عن المجتمع الذي تحدث فيه الرواية، لذا، أقول هنا: لا بد من تمثيل البيئة في العمل الروائي، ولا نخلق له «واقعًا افتراضيًا» يخصنا لوحدنا، أما كيف أصف ذلك، فإن الأعمال الروائية القطرية قد التصقت بعملية التحول من القرية إلى المدينة، ومن العمل البسيط في التجارة إلى العمل في النفط، ونشوء الشركات، وتطور الإدارة، وأثر التعليم في حياة المجتمع، لذا أستطيع القول إن الرواية القطرية قد صوّرت البيئة القطرية خير تصوير، ووجدت ذلك في أعمال شعاع خليفة ودلال خليفة ومريم آل سعد، وأيضًا في روايتي «أحضان المنافي» و«الموتى يرفضون القبور».
* هناك تحولات ثرية شهدها المجتمع الخليجي والقطري لماذا لم يتحول التاريخ والتراث والأساطير والأحداث التي شهدها الخليج إلى ملهم في كتابة الرواية بشكل أكبر..؟
- استلهام التراث والأساطير من الموضوعات المهمة في إثراء الرواية الخليجية عمومًا. لقد حاول بعض الروائيين استلهام التراث والأساطير في الرواية، كما فعل صديقنا الدكتور سعيد السيابي من عمان في رواية «جبرين وشاء الهوى»، وكذلك فعل صديقنا الروائي القطري عيسى عبد الله في «كنز سازيران» وما بعدها، وأيضًا أعجبت بما قام به الروائي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل في رواية «الظهور الثاني لابن لعبون»، التاريخ فيه مشاهد كثيرة يمكن استلهامها وتصويرها من جديد برؤية حديثة، ولكن لا أريد أن تتحول الرواية إلى ما تحول إليه المسرح، من حيث الإغراق في «الثيمة» البحرية، والمتمثلة في عشق البحار لابنة «النوخذا»، ومهرها «الدانة» فلقد صار إغراق كبير في هذا الشأن.
* هل تعتقد أن مجتمعا صغيرًا ثريًا وناشئًا على ضفاف البحر، ليست لديه حكاية يرويها..؟
- أن يكون هنالك مجتمع صغير وثري على ضفاف الخليج، ليس لديه حكاية يرويها! بالطبع لا. لأن التراث الخليجي ثري بالحكايا والصور والمواقف، ولكن نحن نعاني من «انفصام» و«تنكّر» لكل ما هو ماضي، أو تراثي. أنا لا أريد أن أوغل في التمسك بالتراث، ولكن أسعى لترسيخ القيم، وآباؤنا قالوا: «الأولون ما تركوا للآخرين شيئًا». طبعًا أنا لا أعتبر هذه قاعدة، ولكن فعلاً المعرفة والثقافة في انحدار، وثقافة الإلهاء والتسطيح في تصاعد، وأنا أخشى من هذا الوضع المخيف. مجتمع الخليج لديه حكاية، يمكن أن يستخدمها في القص والرواية، ولكن نحتاج إلى الرؤية المتعمقة في دراسة أحوالنا السياسية والاجتماعية، وأن تكون الرواية مسبارًا حقيقيًا للتغير في حياة المجتمعات، لا أن تكون « ترفًا» فكريًا يضخم « الأنا» لدى البعض.
* هناك مهرجان «كتارا» للرواية العربية.. كيف لهذه الجائزة ولعموم فعاليات الحي الثقافي الكثيرة أن تثمر في المشهد الثقافي القطري..؟
- سؤالك عن جائزة «كتارا» للرواية العربية ذو شجون، أنا مع كل جائزة جديدة تدعم الإبداع العربي، وأنا شاركت في الدورتين السابقتين للجائزة ولم أفز.. ولم أزعل. ولكن تفتحت أسئلة في الدورة الثانية للجائزة، ومنها: هل من المعقول أن تنافس 100 رواية خليجية لست دول، مع 750 رواية من مصر والسودان؟ هذا سؤال مشروع! ثم إن الأسماء العربية في عالم الرواية، لا يمكن أن تنافسها الأسماء الخليجية.. وتلك إشكالية أخرى في تنظيم الجائزة. أنا أرى أن يتم التوصل إلى صيغة لا تحرم الفضاء الخليجي من الفوز بالجائزة، وهذا حق، لأن مصدر الجائزة خليجي وقطري. ثم إنني أريد أن أوضح أن هنالك إشكالية كبرى في تشكيل لجان التحكيم في الجوائز العربية؟ وكان لدي رأي في تشكيل لجنة الحكماء في الدورة الأولى، أنا أرى أنها كانت بحاجة إلى مراجعة.
أعتقد أننا بحاجة إلى البحث عن أهداف الجوائز العربية، وهذا حديث كثير من الأدباء والمبدعين العرب، لقد قرأت رواية فازت بجائزة عربية محددة، ورواية أخرى فازت بجائزة أخرى، وكان مستوى الروايتين متواضعًا، ولربما صُنفت الجائزة طبقًا لتوزيعات جغرافية. أنا فعلاً أستغرب من اتجاهات لجان التحكيم في جوائز مسابقات الرواية العربية، وهذا يفقدها المصداقية!



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي