من التاريخ: أزمة السيادة البحرية العثمانية

خير الدين بربروسا
خير الدين بربروسا
TT

من التاريخ: أزمة السيادة البحرية العثمانية

خير الدين بربروسا
خير الدين بربروسا

ما زلت متأثرًا تأثرًا شديدًا بكتاب ألفريد ثاير ماهان «تأثير القوة البحرية على التاريخ» The influence of sea power upon history الذي كتبه في عام 1890، وأكد من خلاله أن القوة البحرية هي العنصر الحاسم للهيمنة السياسية عند أي دولة تأمل في لعب دور على المستوى الدولي. واستند في ذلك إلى دراسة متعمقة لدور البحرية في حركة التاريخ، إذ اعتبرها المفتاح الحقيقي لحسم الصراع على هيمنة أي قوة على النظام الإقليمي أو الدولي، ولعل مثال الدولة العثمانية في القرن السادس عشر يأتي تأكيدًا لأطروحة هذا الكتاب الاستراتيجي. ذلك أنه رغم كون الدولة العثمانية القوة البرّية الأولى في أوروبا قولاً واحدًا، فإنها لم تستطع أن تفرض هيمنتها على القارة الأوروبية، بل اكتفت بدورها الملحوظ في وسط أوروبا وجنوب شرقيها، وحول المدن الساحلية الجنوبية لأوروبا في أوقات متقطعة. والعنصر الأساسي في تقديري وراء خسوف القوة السياسية العثمانية، إلى جانب الخلفاء الضعفاء للسلطان سليمان «القانوني»، كان ضعف بحريتها، بينما كانت الأساطيل الأوروبية قد تطورت وتقدمت، بل وتفوقت. والحق أن الدولة العثمانية لم تشذ في ذلك عن التقليد الموروث للخلافات والدول الإسلامية المتعاقبة التي مثلت قوى قارية Continental كبرى، لكنها لم تتمتع أبدًا بالقوة البحرية الحاسمة والمهيمنة على المناطق المتاخمة للأراضي التي كانت تحت سيادتها. ولعل في هذا تبرير جزئي غير مانع للسبب وراء إخفاق أي دولة أو خلافة إسلامية في الهيمنة على النظام الدولي، إذ لم تشهد السياسة الدولية أحادية قطبية إسلامية عبر التاريخ لهذا السبب.
واقع الأمر أن كثيرين من السلاطين العثمانيين اهتموا اهتمامًا ملحوظًا بتطوير البحرية العثمانية، خصوصًا بعد عصر الاكتشافات الجغرافية، بل حتى من قبلها، لا سيما محمد «الفاتح». ولكن الدفعة التي ولدتها شخصية خير الدين بربروسا (أو بربروس)، قائد الأسطول العثماني، بالتعاون مع السلطان سليمان «القانوني»، في منتصف القرن السادس عشر، لم تدم أو تتكرر.
كان بربروسا - واسمه الأصلي خضر بن يعقوب، وأما لقب «بربروسا» فيعني بالإيطالية «اللحية الحمراء» - من رجال الإنكشارية، وقد استوطن الجزائر مع أخيه عروج، وظل يحارب الإسبان بحريًا، ويغير على شواطئهم وفي المتوسط، حتى فتح السلطان سليمان «القانوني» معه حوارًا لضمه إلى البحرية العثمانية، وهو ما قبله مع أخيه، إذ أصبح واليه على الجزائر. ومن ثم، عيّن «قبطان باشا»، أي قائد البحرية ومسؤولاً عن صناعة السفن والأساطيل، وكفل له كل التمويل والأيدي العاملة. وهذا ما منح الدولة العثمانية الفرصة كي تصبح القوة البحرية الأولى في المتوسط، مع منافسة دويلتي البندقية (فينتيزيا) وجنوى التجاريتين اللتين طورتا أسطوليهما لتأمين تجارتهما الدولية. ولقد لعبت سياسية توازن القوى دورها في البحر المتوسط، تمامًا كما فعلت في المسرح الأرضي في جنوب شرقي أوروبا، وكانت انعكاسًا للتطورات في هذا المسرح على النحو الذي تابعناه في الأسبوع الماضي.
وإبان فترة قيادته، استطاع بربروسا أن يستولى على تونس، ويضمها إلى الباب العالي، إلى جانب الجزائر التي كانت بحوزته. ولكن في عام 1535، جمع الإمبراطور الأوروبي، بالتحالف مع البابا وعدد من الدول الأوروبية (منها إسبانيا)، أسطولاً بحريًا كبيرًا استطاع أن يستعيد تونس، لكنه فشل في محاولة قتل بربروسا الذي كان قد وجه جزءًا لا بأس به من أسطوله إلى الجزائر متفاديًا هزيمة واضحة، ثم عاد من جديد لمزاولة نشاطه البحري، بالإغارة على الشواطئ الأوروبية. وبعد ذلك، رجع إلى إسطنبول للإشراف على بناء أسطول أقوى عام 1537، ولاحقًا استأنف فرض سطوته على المتوسط، إلى أن أقام الأوروبيون تحالفًا جديدًا، عرف باسم «عصبة فينتزيا»، وأعدوا أسطولاً قويًا تحت قيادة بحار محنّك من جنوى، هو آندريا دوريا.
وفي ضوء هذا التطور، صار وضع الأسطول العثماني حرجًا، رغم تحالف فرنسا معه، خصوصًا عندما سارت الأمور نحو معركة بحرية حاسمة، مثل معركة أكتيوم البحرية التي شهدها شرق المتوسط إبان الحرب الأهلية الرومانية في عام 31 ق.م، والتي كانت ستحسم السيادة على المتوسط مرة أخرى لصالح الغرب على حساب الشرق. لكن كفاءة بربروسا وتكتيكاته كانت مجددًا العنصر المرجح، إذ إنه تفادى الدخول في معركة مفتوحة مع أسطول أقوى من أسطوله، وظل يتبع سياسة الاستنزاف والكرّ والفرّ، مانحًا نفسه الوقت لتفتيت التحالف ضده بمرور الزمن، وهو ما نجح فيه في عام 1538. وهكذا، تركت حكمة بربروسا البحر المتوسط تحت السيادة النسبية للدولة العثمانية، بعد تفكك التحالف المنافس، واستطاع هذا الرجل الفذ أن يُغير على المدن الإيطالية والإسبانية، وإن كان لم يفلح بحسم السيادة على المتوسط قبل مماته في عام 1556.
حقيقة الأمر أن الدولة العثمانية كانت تعاني من مشكلة رئيسة، هي وجود جبهتين بحريتين مفتوحتين في آن واحد: الأولى في المتوسط، والثانية كثيرًا ما يتناساها المفكرون والمؤرخون، وهي مسرح الحروب في الخليج العربي والشاطئ الهندي. فمنذ هزيمة الأسطول المشترك للدولة العثمانية والمماليك أمام البرتغاليين في معركة ديو البحرية، أمام ساحل الهند عام 1509، استطاع الأوروبيون تحويل طرق التجارة عبر رأس الرجاء الصالح موجهين ضربة قاسية للدولتين الإسلاميتين. ولم ينس العثمانيون هذا المسرح الحربي، غير أن المتوسط ظل الأولوية خلال الحقب الأولى من القرن السادس عشر. كذلك فإن الظروف الحربية ووضعية البحرية لم تكن تسمح لهم بذلك إلا بعد مرور ثلاث حقب، حين حاول الأسطول المنقول للدولة العثمانية من المتوسط عبر السويس الاستيلاء على ميناء ديو مرة أخرى، بغية تحويل طرق التجارة الدولية عبر الأراضي العثمانية إلى الشرق. لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، ولم تسفر إلا عن الاستيلاء على اليمن. ثم كرّر العثمانيون المحاولة في عام 1551، تحت قيادة القائد العثماني بيري، عندما وجه سليمان «القانوني» جهده للاستيلاء على الخليج العربي ومضيق هرمز في مواجهة البرتغاليين. بيد أنه رغم استيلائه على عُمان ودخوله الخليج العربي، لم يتمكن من التغلب على الأسطول البرتغالي، ولقد فرّ القائد وهرب بثلاث سفن محملة بالأموال والجواهر، وعاد إلى القاهرة، لكن السلطان قطع رأسه ثمنًا لجبنه أو خيانته ليكون عبرة لمن يأت بعده. ومن ثم، جهز أسطولاً جديدًا خرج من البصرة لمساندة الأسطول العثماني في الخليج، ومع أن هذا الأخير نجح في كسر حصار البرتغاليين، فإنه لم ينج من الإعصار الذي ضرب الأسطول وفتك به. وهكذا، استسلم العثمانيون لسيادة البرتغاليين على الطرق التجارية، واكتفوا مرة أخرى بأن يكونوا القوة القارية البرية على الساحتين العربية والأوروبية.
أما في المتوسط، فقد انتقلت قيادة الأسطول العثماني تباعًا لمن لم يكن لهم حنكة العبقري بربروسا، وبالتالي بدأت الدول الأوروبية تستعيد نفوذها تدريجيًا. ورغم بعض الانتصارات المهمة، مثل استعادة طرابلس الغرب في العام التالي لموته، فشل العثمانيون عام 1558 في الاستيلاء على جزيرة مالطة، كما فعل السلطان سليمان في جزيرة رودس عام 1522 في مطلع حكمه، وهذا ما ترك جزءًا مهمًا من المتوسط في أيدي القوات المناوئة للدولة العثمانية. واستمر الصراع البحري حتى حسم في عام 1571 في معركة ليبانتو Lepanto البحرية الشهيرة التي وصف البعض نتائجها وآثارها على أنها تكرار لمعركة بلاط الشهداء (بواتييه) Poitier البرية في عام 732م التي أوقفت الزحف العربي على أوروبا الغربية.
حقيقة الأمر، ومن خلال متابعة المسرحين البحريين للدولة العثمانية، يتحتم علينا الوصول إلى نتيجة لا مفر منها، وهي أن الدولة العثمانية لو كانت قد استطاعت حسم المسرحين الحربيين في المتوسط والخليج، وإعادة التجارة الدولية عبر طرقها القديمة المارة بها، والسيطرة على حركة الاستكشافات الجغرافية في الشرق، فإن أحوال الدولة العثمانية كانت ستتحسن بكل تأكيد، ولأصبحت الفرصة مواتية لفرض الهيمنة العثمانية الجزئية على المنظومة السياسية الدولية والأوروبية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك هزيمة ليبانتو، فإن النتيجة الحتمية كانت بداية تحلل النفوذ السياسي والعسكري العثماني في المتوسط، ومن بعده العالم الخارجي. ذلك أن التفوق الأوروبي الذي استتبع ذلك، سواء لبريطانيا أو فرنسا أو روسيا، حسم الأمر لصالح تقليص دور الدولة العثمانية بحريًا بلا رجعة، خصوصًا مع ظهور البحرية الروسية التي أسّسها بطرس الكبير.
وفعلاً لعبت هذه البحرية دورًا حاسمًا في تفتت الجبهة الشرقية للدولة العثمانية، إلى أن اضطرت إسطنبول في مرحلة تاريخية محددة إلى الاستعانة بروسيا عام 1833 لحمايتها من القوات المصرية التي كانت تتأهب لوراثة الدولة العثمانية بقوتها البرية والبحرية الفتية. وهكذا، فإن أطروحة ثاير ماهان صدقت بشكل قاطع مع الدولة العثمانية، ورغم المقولة الشهيرة «إن المشاة هم سادة المسرح العسكري»، يمكن القول إن تسيد البحار هو المفتاح الهام للهيمنة السياسية والعسكرية على المحيط الدولي.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.