بنغازي تصارع الإرهاب 2 من 5: متطرفو بنغازي محاصرون في غرب المدينة ويتلقون المدد من البحر

على مساحة طولها نحو 10 آلاف متر على شواطئ بنغازي وعرضها، نحو 1.5 ألف متر في عمق المدينة الغربي، يتمركز بين جدران المباني عدة مئات من خليط من المقاتلين المتطرفين الذين ينتمون لتنظيم داعش وتنظيمات متشددة أخرى. يدير اثنان من شبان ضاحية قنفودة هنا آلية ذات إطارين منصوب عليها مدفع عيار 23 ملليمتر، ويرددان نشيدًا حماسيًا وهما في حالة تحدٍ لطائرات الجيش التي ستحلق في السماء لقصف مواقعهم ومواقع زملائهم.
ومن على بعد عدة أمتار، تقدمت سيارة دفع رباعي، وبدأت عملية سريعة لجر المدفع عبر شارع يغطيه ركام المباني المهدمة، واختفى الشابان للتمركز في زاوية أخرى من الضاحية المشوهة، وابتعد صوت النشيد: «يا خوتي جتكم طيارة.. يا خوتي ردوا هالغارة». هذان اثنان من شبان ضاحية قنفودة الذين التحقوا بالجماعات المتطرفة تحت اسم «مجلس شورى ثوار بنغازي»، المعادي للجيش والبرلمان.
حتى صيف العام الماضي، كان الألوف من المتطرفين يسيطرون على بنغازي بالكامل. أرادوا حكم المدينة بالتعاون مع عناصر متشددة وفدت إلى هنا من تونس ومصر والجزائر والنيجر وغيرها. شبان ليست لديهم خبرة في الإدارة. بدأ الأمر بنصب ما يسميه أهالي بنغازي «بوابات الاستيقاف»؛ كل بوابة منصوبة في مدخل ضاحية وفي زاوية شارع، يقف عليها من ثلاثة إلى خمسة شبان مدججين بالأسلحة والغضب. وقد أذاقت عناصر الاستيقاف هذه أهالي بنغازي الأمرين. يقول محمود ابن قبيلة العواقير، وصاحب محل الجواهر في ضاحية الليثي: كانوا يفتشون المارة؛ من يجدون أن له علاقة بالجيش أو بالشرطة يقتلونه على الفور، ومن يشكون في أنه يرفض سلطتهم، ينزعون قميصه ويجلدونه أمام أسرته في الطريق، باعتباره مخالفًا للشريعة.
وقد قتل المتطرفون خلال أكثر من 18 شهرًا من السيطرة على بنغازي ما لا يقل عن ألفي ليبي، من بينهم نحو 700 من رجال الجيش والشرطة؛ استولوا على مبان حكومية، وناموا على أسرة بيوت الناس، ونهبوا فنادق ومخازن للسلع ومستشفيات. هاجموا معسكرات الجيش في المدينة، وأشهرها معسكر الصاعقة الذي دارت حوله معارك شرسة عدة مرات.
تقول الدكتورة أم العز الفارسي، أستاذة العلوم السياسية في جامعة قار يونس، أكبر جامعات المدينة: إن الحياة كانت شبه مستحيلة في بنغازي خلال تلك الفترة. ويضيف النائب عن المدينة في البرلمان الليبي إبراهيم عميش: كنت أرى مدينتي العزيزة على قلبي وهي تنهار أمامي، لكن كان لدي أمل في تغيير كل هذه الفوضى في المستقبل، وهذا ما يحدث الآن؛ نحن لا نحارب متطرفين محليين.. نحن نحارب إرهابًا دوليًا.
وفي هذه الأثناء.. أي مع حلول صيف العام الماضي، كان المشير خليفة حفتر قد انتهى تقريبًا من رص صفوف أبناء القوات المسلحة في المنطقة الشرقية من البلاد. بدأ الأمر باستعادة نحو 30 ألف جندي وضابط وصف ضابط؛ هؤلاء كانوا في السابق في الجيش الليبي، لكنهم كانوا قد تركوا الخدمة بعد سقوط نظام معمر القذافي. كما أن جانبًا منهم كان قد انشق عن الجيش في أثناء الحرب بين قوات المتمردين ونظام القذافي في 2011، واستمرت إعادة هيكلة الجيش وتنظيمه على يد حفتر عدة شهور، بدأت منذ منتصف عام 2014، وشملت ضم عناصر عسكرية أخرى من مناطق مختلفة من ليبيا، أي من الجنوب ومن الغرب.
حفتر في نظر كثير من القيادات السياسية والميليشياوية التي تسيطر على طرابلس ومصراتة ومدن أخرى في غرب البلاد، يعد عسكريًا يدير انقلابًا على السلطة، رغم أن السلطة التي انتخبها الليبيون في صيف سنة 2014، كانت هي البرلمان. وهذا البرلمان عيَّن حفتر قائدًا للجيش، وكلفه بمحاربة الإرهابيين. بيد أن القيادات في غرب البلاد لا تريد الاعتراف بالبرلمان، وبالتالي تنفي شرعية حفتر وشرعية الجيش الوطني الليبي الذي يقوده. وحين ظهرت صفوف الجنود في مراكز التدريب داخل معسكرات الجيش الوليد في شرق بنغازي، زادت وتيرة دعم طرابلس ومصراتة للمتطرفين في بنغازي عبر البحر والبر؛ شحنات من صواريخ غراد، ودبابات ومدرعات وسيارات دفع رباعي، وألغام وأحزمة ناسفة، ومقاتلين محليين وأجانب، ومنظومات للمراقبة والتجسس، وغيرها.
بنغازي هي مدينة الثورات ومدينة الحراك السياسي. هي مقياس الحرارة.. منها تعرف توجهات الريح، وتعرف أين سيكون المستقبل. ألقى الملك السنوسي بيان الاستقلال وجلاء الاحتلال في مطلع خمسينات القرن الماضي من شرفة قصر الحكم القريب من بحر بنغازي القديمة. وأعلن القذافي من مبنى إذاعتها المشرف على الشاطئ أول بيان له. وتقول الدكتورة الفارسي: مدينتا ليست كأي مدينة. كنا نشعر بالأسى حين كانت ترزح تحت سلطة المتشددين.
ومثل كل شيء غريب وغير معتاد في ليبيا، تكونت سلطة المتطرفين في المدينة، تحت اسم «مجلس شورى ثوار بنغازي»، من خليط غريب من الجماعات المتشددة. ظهر على رأس هذه الجماعات تنظيم «أنصار الشريعة» الذي كان يقوده عازف الإيقاع السابق في فرقة درنة الموسيقية، محمد الزهاوي. والتحقت به مجاميع قتالية تابعة لجماعة الإخوان المسلمين الليبية، وأخرى تابعة للجماعة الليبية المقاتلة المنتمية لتنظيم القاعدة. ومع السيطرة شبه التامة على المدينة، التحقت بالسلطة الجديدة للمتطرفين أفواج من مشارب وجنسيات مختلفة، أغلبهم من التونسيين الذين يجدون سهولة في التسلل عبر الحدود مع ليبيا، والقدوم إلى بنغازي. وزادت وتيرة استهداف رجال الجيش والشرطة والمعارضين.
ومع بداية عام 2015، أعلن تنظيم «أنصار الشريعة» موالاته لتنظيم داعش. ولم يؤثر هذا التحول على بنية «مجلس شورى ثوار بنغازي»، ولم تقف ضده باقي الجماعات المختلفة عنه فكريًا، كما حدث في العراق وسوريا. وظل العمل بين هذه الفرق يسير في تناغم وسلاسة، رغم أن القوات المتطرفة التي كانت تسيطر على بوابات بنغازي الجنوبية الشرقية، بقيادة زياد بلعم، آمر كتيبة عمر المختار، كانت تقول إنها ليست منضوية في «مجلس شورى ثوار بنغازي»، لكنها تقاتل معه.
ويقول المثل الليبي إن من يسيطر على بنغازي يسهل عليه السيطرة على كل ليبيا. ولهذا كانت الأنظار تتجه إلى ما يمكن أن يفعله الجيش وهو يستعد لخوض حرب صعبة مع المتطرفين في المدينة. بدأت العملية أولاً بقصف مكثف بطائرات السوخوي ضد مواقع المتطرفين في المدينة من أجل تحقيق عدة أهداف، من بينها تقليص الدعم الذي يصل لـ«مجلس شورى الثوار» من طرابلس ومصراتة. ثم تحركت طلائع الجيش على الأرض لأول مرة تحت لهيب حرارة صيف العام الماضي، في أكبر عملية في شمال أفريقيا لطرد ألوف المقاتلين من هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها أكثر من مليون نسمة. كان هذا يجري في طريق، بينما الأمم المتحدة تسير في طريق آخر.
أدارت الأمم المتحدة محاولات في بلدة الصخيرات المغربية لجمع بعض الأفرقاء الليبيين حول حكومة توافق، لكن في بنغازي كانت الحرب لاستعادة الدولة. الوضع العسكري كان كالآتي: قوات «مجلس شورى الثوار» تحكم بنغازي، وتنشر الرعب في ضواحيها، وترابط على الطرق الدائرية وفوق الكباري، وتسعى - بقيادة الزهاوي - للدخول إلى قلب مطار بنينا الدولي، في جنوب شرقي المدينة. ومن الجانب الآخر، كان الجيش بقيادة حفتر يستعد للحرب، انطلاقا من تجمعات قواته البرية وقوات الصاعقة وقوات مكافحة الإرهاب، من ناحية مدينة المرج الصحراوية الواقعة على بعد نحو 60 كيلومترا شرق بنغازي، ومن ناحية منطقة الرجمة العسكرية على بعد نحو 25 كيلومترا جنوب شرقي المدينة. كان المطار هو النقطة التي سيتحدد فيها من هو الغالب ومن هو المغلوب لسنوات طويلة مقبلة.
تقدم الجيش.. وجد أمامه «بوابة مالك»، وهي أول خط للمواجهة. وتفصل البوابة بين ضاحية «سيدي فرج» الكبيرة التي تنتشر فيها الأسوار والمزارع ومخازن البضائع التابعة لرجال الأعمال والشركات العامة، والطرق المؤدية إلى الرجمة وإلى مطار بنينا. تسيطر على البوابة كتيبة عمر المختار بقيادة بلعم، وهو شاب في أواخر الثلاثينات من العمر، له شعر طويل ينسدل على كتفيه ويضع عليه قبعة، ولحية تغطي صدره.
وبدأت قذائف المدفعية تنهمر على المتقاتلين في الجانبين. وبدأت معها تحركات باقي المقاتلين تأتي من وسط المدينة ومن المحاور المجاورة، لدعم بلعم. استمرت المعركة عدة أيام، لكن قوات بلعم ومن معه من جيش المتطرفين انهارت وتقهقرت نحو سبعة كيومترات إلى الخلف. وشهد شارع المطار الذي يبلغ طوله نحو 15 كيلومترًا، من وسط المدينة حتى بننيا، حربًا مستعرة لعدة شهور. وتمكن الجيش رغم إمكاناته الضعيفة، ورغم الحظر الدولي على تسليحه، من إزاحة المتطرفين وهو يتقدم بخطوات حثيثة حتى بسط سلطته على غالبية بنغازي. وقتل في الحرب المئات من «مجلس شورى ثوار بنغازي»، من بينهم الزهاوي نفسه، وفر بلعم بقواته إلى غرب البلاد.
وغير الجيش اسم «بوابة مالك» إلى «بوابة سيدي فرج»، على اسم المنطقة التي تطل عليها. ويقف فيها اليوم جنود متأهبون وهم يلوحون للمارة بعلامات النصر، لكنهم يحرصون على تفتيش السيارات والتدقيق في أوراق الهوية. وانتهى العمال من إعادة ترميم مطار بنينا، وتنظيف الشارع الطويل الواصل للمطار من آثار القذائف والخراب. وانتشرت في باقي المدينة قوات الجيش والشرطة العسكرية وشرطة المرور. وبدأت الأسواق تفتح أبوابها والمنتديات تستضيف الشعراء من باقي المدن الليبية. وتقول الدكتورة الفارسي: نحن أبناء بنغازي نحب سهرات نهاية الأسبوع، لقد افتقدنا هذا الأمر مدة طويلة، لم نكن نستطيع التأخر خارج بيوتنا حتى المساء، لكن اليوم في مقدورك السهر حتى الصباح دون خوف.
واجتاح الجيش باقي مواقع المتطرفين في المدينة، ونصب بواباته وأعلن عن وجوده بقوة، وانخرط آلاف الشبان الجدد في صفوف الجيش، وظهرت كتيبة «أولياء الدم» التي تسعى لتقديم المتطرفين الذين أعدموا أبناء عمومتهم في المدينة للعدالة والمحاسبة. وبدأ شبان متطوعون في تنظيف الشوارع، وطلاء واجهات المباني، لكن مشكلة بنغازي لم تنته بعد. فقد تحصن في ضواحي غرب المدينة، «الصابري» و«سوق الحوت» و«قنفودة» و«القوارشة»، المئات من فلول المتطرفين المنهزمين، ويوجد بعض السكان أصبحوا رهائن لدى المقاتلين المتشددين في المنطقة، ويوجد لديهم أسرى بعضهم من أنصار النظام السابق. وهناك مرافق حيوية ومكتبات ومصارف وأرشيف يعود تاريخه لأكثر من مائتي سنة.. كل هذه المؤسسات وما تحويه من وثائق أصبح مصيرها مجهولاً.
ومنذ أشهر، يفرض الجيش حصارًا على هذه الضواحي، في محاولة منه على ما يبدو لإرهاق من تبقى من عناصر «مجلس شورى ثوار بنغازي». ويحاول الجيش، وفقًا للقيادات العسكرية هنا، الحفاظ على أرواح الأبرياء والرهائن. ووجه الجيش نداءات أكثر من مرة لكي يسلم المحاصرون أنفسهم وعتادهم للسلطات، لكن دون جدوى. ويقول ضابط برتبة مقدم في الاستخبارات العسكرية: نستطيع الدخول والانتهاء من هذا الصداع، لكن الخسائر ستكون كبيرة.. لقد لغموا الطرق الداخلية والمباني بألوف الألغام، هذا يتطلب عسكريين مختصين في نزع الألغام وأجهزة متقدمة، وهي ليست موجودة لدينا في الوقت الراهن. إمكانياتنا ضعيفة، لكننا مصممون على إتمام العملية بأقل خسائر حتى لو استغرقت وقتًا أطول.
وفي المقابل، تضغط جهات دولية، منها الأمم المتحدة ومنظمة «هيومن رايتس ووتش»، من أجل فتح ممر آمن لخروج المدنيين من الضواحي المحاصرة، خصوصًا ضاحية قنفودة، قائلة إنهم يدفعون ثمن الحرب بين الجيش والمتطرفين. وجرى إرسال فريق دولي لبحث هذا الأمر مع قادة في الجيش بعيدًا عن أضواء التصوير. وانعقد اجتماع شارك فيه عدد من العسكريين، وثلاثة من قيادات البرلمان. ووفقًا لنائب حضر الاجتماع، فقد حدد الجيش شروطه لفتح ممر آمن، وعلى رأسها مراجعة أسماء من سيخرجون من المنطقة، وتسجيلها في «كشوف تسليم وتسلم» مع الجهات الدولية المعنية. وقال النائب: «الجيش لديه معلومات عن وجود سبعة ضباط على الأقل يتبعون دولا أجنبية وسط المتطرفين في ضاحية قنفودة، ويريد أن يعرف من هم، وماذا كانوا يفعلون هنا.. ويوثق ذلك بشكل رسمي».
ورغم تأخر الحسم النهائي في بنغازي، فإن أهالي المدينة الذين بدأوا في العودة إليها، أصبح لديهم معنويات مرتفعة، خصوصًا بعد أن انتزع الجيش منطقة الموانئ النفطية من أيدي الميليشيات المتطرفة، غربي المدينة. ويصر أهالي بنغازي على الاستمرار في الحياة وهم ينتظرون ساعة انتهاء الحرب التي طالت في مدينتهم. هم يشعرون مع ذلك بالرضا.. المقاهي تفتح أبوباها والمحال التجارية تعرض بضاعتها، والجمعيات الأهلية تنظم سهرات للشعر والأدب. وتقول الدكتور الفارسي بعد أن عادت من إحدى هذه الأمسيات في ضاحية الحدائق: نعيش تحت القصف، وكل يوم نقول أفضل من اليوم الذي سبقه، والحمد لله.
ويطلق أهالي بنغازي على فلول قوات المتطرفين في بنغازي اسم «الدواعش» واسم «الأنصار» نسبة إلى تنظيم أنصار الشريعة الموالي لـ«داعش». ويشعر سكان المدينة التي انطلقت فيها شرارة الانتفاضة المسلحة ضد القذافي في 2011 بالمرارة من موقف قادة في طرابلس ومصراتة، بسبب الدعم الذي يقدمونه لخصوم الجيش، سواء للمحاصرين في قنفودة وسوق الحوت والصابري والقواشة، داخل غرب بنغازي، أو لقوات الميليشيات المتطرفة التي يجري تجميعها في منطقة الجفرة الصحراوية للهجوم على الموانئ النفطية التي أصبحت تحت سلطة الجيش. وتقع الجفرة على بعد نحو 300 كيلومتر إلى الجنوب من منطقة الموانئ النفطية. ومن بين القيادات الميليشياوية الموجودة هناك، بلعم وكتيبته «عمر المختار» التي طردها الجيش ضمن كتائب أخرى من بنغازي.
ووفقًا للمصادر العسكرية في الجيش الليبي، فقد حاول قادة المتطرفين الذين يهيمنون على الحكم في طرابلس ومصراتة الإبقاء على المدينة تحت سلطة «مجلس شورى ثوار بنغازي» بكل الطرق، من الدعم المالي الذي بلغ مئات الملايين من الدولارات، إلى إرسال المقاتلين، مرورا بالحملة الإعلامية الممنهجة لتشويه صورة الجيش والمشير حفتر.
وتعكس كل زاوية من زوايا بنغازي شراسة المعركة التي دارت هنا طيلة شهور، وقتل فيها المئات من المتطرفين، وأصيب عدة آلاف؛ شبان فقدوا أطرافهم ويسيرون على مقاعد متحركة أو على عكازات. الحواجز الحديدية الموجودة في الجزيرة الوسطى من شارع المطار بطول نحو 15 كيلومترًا، التوت وتشوهت من شدة القصف، ومن حركة الدبابات والآليات الثقيلة وهي تهاجم وتنسحب. واجهات مباني وإدارات حكومية مهشمة، ومبنى مديرية الأمن اختفى، ومبنى مصنع الأسمنت الضخم مثقوب من كل جانب. سلسلة مخازن البضائع في «سيدي فرج» يغطيها سخام الحرائق. صفوف من الدكاكين والبيوت في كثير من ضواحي المدينة تحولت إلى أكوام من التراب وأسياخ الحديد.
ويقول أحد القادة العسكريين إن الدواعش (يقصد بهم كل جماعات المتطرفين في غرب المدينة)» ما زالوا موجودين في بنغازي في مناطق الصابري وسوق الحوت وقنفودة، مع وجود خلايا نائمة وسط المدينة، عددهم لا يزيد عن بضعة مئات من اليائسين، وغالبيتهم من الليبيين، ومعهم تونسيون وسودانيون ونيجيريون وعدد أقل من المصريين. واكتشفنا أخيرا أن بينهم نحو سبعة ضباط أجانب.. المشكلة أن معظم من تبقى من هؤلاء المقاتلين قناصون محترفون ومتفوقون في زرع الألغام والمفخخات، ويصل إليهم الدعم من طريق البحر، خصوصًا أن ميناء بنغازي البحري ما زال يقع تحت سيطرتهم.
ويضيف أن المنطقة التي يتحصن فيها المتطرفون يوجد فيها أسواق ومخازن للمواد الغذائية وغيرها.. ويوجد فيها مخزون من الطاقة داخل محطات الوقود. ويأتي الدعم بحرًا عن طريق الميناء عبر زوارق صغيرة. وحصار الجيش ومراقبته جعلت دخول المراكب الكبيرة أمرًا مستحيلاً الآن، ولذلك يعتمدون في جلب الأسلحة على زوارق يغطونها بأكياس بلاستيكية ذات لون أزرق حتى يصعب كشفها في البحر من جانب الجيش. كما أن دخول مقاتلين جدد إلى هذه الضواحي أصبح أقل من السابق.
ويفرض الجيش نظامًا صارمًا في المدينة. فقد وضع كتلاً ضخمة من الخرسانة المسلحة للفصل بين مناطق وجود المتطرفين وباقي الضواحي، وتسبب هذا في تعديل سير السيارات عبر محاور مختلفة. ضاحية الهواري التي يوجد فيها عدة مصانع ومستشفى وطريق رئيسي، أصبحت مزدحمة بعد أن جرى إغلاق طريق ضاحية القوارشة التي يوجد فيها فلول للمتطرفين لديهم مهارة في القنص عن بعد. وهناك شوارع أخرى مغلقة خوفًا مما زرعه المتطرفون من ألغام فيها قبل هروبهم. ويسعى الجيش للتعاقد على كاشفات ألغام لهذا الغرض، رغم أن المصدر العسكري يقول إنه حتى بالنسبة لكاشفات الألغام محظور شراؤها رسميا بسبب الحظر الدولي على تسليح الجيش. وأضاف ساخرا: «يعتبرونها أسلحة»!
كان المدد بالسلاح والمقاتلين يصل للمتطرفين في بنغازي إما من الطريق البري من ناحية الجنوب الغربي، أو من طريق المراكب التي يطلق عليها الليبيون «جرافات». وبينما أغلق الجيش طريق الإمداد البري، أصبح المنفذ الوحيد حتى الآن هو البحر، لكن ليس كالسابق. ويقول قائد في الاستخبارات العسكرية إن البحر هو المشكلة؛ «الشواطئ التي تقع تحت أيدي المتطرفين طويلة، ويصعب السيطرة عليها بالإمكانيات المحدودة التي لدى الجيش.. منعنا دخول المراكب الكبيرة، وقصفنا الجرافات، لكن المتطرفين أخذوا في الاستعانة بالزوارق المغطاة بالأكياس الزرقاء في نقل الأسلحة، واستخدام الدراجات النارية المخصصة للبحر في جلب المقاتلين.. الدراجة الواحدة تقل اثنين أو ثلاثة، ولهذا هم يأتون من مناطق قريبة، إما من ناحية سواحل إجدابيا (غرب بنغازي)، أو من مراكب كبيرة تقف في عمق البحر.
وبين يوم وآخر، ينفذ الجيش غارات بالطائرات الحربية على تمركزات المتطرفين داخل المنطقة المحاصرة. وكان عدد سكان هذه المنطقة يزيد على مائة ألف. معظم هؤلاء تركوا منازلهم لأن بعضهم لديه بيوت أخرى في المدينة، وهناك من خرج خارج بنغازي، ومنهم من قام بتأجير منازل في بنغازي على أمل أن تنتهي الحرب سريعا، لكنها لم تنته بعد.
وقد طالبت منظمة «هيومن رايتس ووتش» الجيش الوطني الليبي بالسماح لأي مدني يريد ترك منطقة المعركة بالمغادرة، أيا كان عمره أو جنسه، وهي تقول إن هناك 120 أسرة على الأقل تعيش في قنفودة، لديها مئات الأطفال، وإن هذه الأسر تعيش في ظروف شاقة للغاية، وتحدثت أيضًا عن إعاقة الجماعات المسلحة مغادرة المدنيين لقنفودة، واستخدامهم دروعًا لمنع الجيش من التقدم في معقل المتشددين.
وتضم المنطقة المحاصرة التي يحتلها المتطرفون مبنى البنك المركزي وباقي إدارات الدولة، مثل مكتب البريد الرئيسي وإدارة الجوازات والجنسية والهجرة. وفيها المدينة الأثرية القديمة، ومنارة بنغازي التي تشرف على البحر، والتي يبلغ عمرها نحو مائتي سنة، وفيها أقدم سوق للسمك وسوق الجريد، إضافة إلى أربعة فنادق ومستشفى الجمهورية الذي يتجاوز عمره 120 سنة. وفي المنطقة أيضًا واحدة من أجمل الكنائس في شمال أفريقيا، وكانت مغلقة في عهد القذافي، ويعتقد أن المتطرفين فتحوها وعبثوا بمحتوياتها الثمينة.
أما البيوت والمنازل، فلم يعد يوجد فيها عدد يذكر من السكان.. جزء من العائلات المتبقية هم عائلات للمتطرفين أنفسهم من جنسيات مختلفة، وفقًا للمصدر العسكري. زوجات وأطفال، نساء ليبيات وغير ليبيات. ومع ذلك، لم تقطع الخدمات عن هذه المناطق.. توجد فيها كهرباء ومياه وإنترنت، ويضيف: «هذه الخدمات لم تتأثر بسبب مرورها في مناطق أخرى آهلة بالسكان، إذ إن قطع الخدمات عن المحاصرين يحتاج إلى عملية فنية معقدة حتى لا تتضرر باقي ضواحي المدينة. بنغازي ليست مقسمة وفقا لنظام المربعات، ولكنها مناطق متشابكة مع بعضها بعضا.. إذا أغلقت ماسورة المياه مثلا سوف يتضرر آخرون يسكنون في الجوار».
وينظر غالبية سكان بنغازي بعين الريبة للممارسات التي يقوم بها مسؤولون في العاصمة طرابلس وأطراف دولية ضد الجيش الذي تمكن من استعادة مظاهر الدولة إلى المدينة. ويقول محمود ابن قبيلة العواقير، أكبر قبائل بنغازي، وهو يشرف على رص بضاعته في سوق الليثي: قارن بين بنغازي وهي تعود إلى النظام والأمن، والفوضى التي تثيرها الميليشيات في طرابلس.. الجيش أعاد بنغازي للحياة، ونحن معه.