متى يتفاوض الأصوليون؟

من احتفالات إيران.. إلى حرب الحوثي

مسلحون حوثيون تقلهم مركبة عسكرية متجهين إلى مناطق قبلية قرب العاصمة صنعاء (رويترز)
مسلحون حوثيون تقلهم مركبة عسكرية متجهين إلى مناطق قبلية قرب العاصمة صنعاء (رويترز)
TT

متى يتفاوض الأصوليون؟

مسلحون حوثيون تقلهم مركبة عسكرية متجهين إلى مناطق قبلية قرب العاصمة صنعاء (رويترز)
مسلحون حوثيون تقلهم مركبة عسكرية متجهين إلى مناطق قبلية قرب العاصمة صنعاء (رويترز)

تصر الأصوليات المنغلقة على أهدافها ولا تفاوض عليها، هي تفاوض على واقعها متى احتاجت ذلك، ولكن شريطة ألا تخسر أهدافها الرئيسة وشعاراتها ومبادئها الصلبة التي تمثل شرايين الدماء التي تهبها الحياة لدى قواعدها وحلفائها. هذه الفرضية يمكن أن تكون قاعدة تفسر مشاهد وحوادث كثيرة، تربط بين مختلف الأصوليات وحركات التطرف التي تؤمن بعقيدة العداء والبراء، وتنطلق من مرجعية الصراع الأبدي بين ما تراه حقا وما تصمه باطلا. لذا تبدو قيم التفاوض والسلام والتعايش قيمًا ثانوية عند العقل الأصولي، بينما تكون الأولوية فقط للأهداف الآيديولوجية والعقائدية الكبرى التي يؤمن بها، ولا يعني الاتفاق عنده إلا حلاً مرحليا، ولا القبول به إلا مراوغة للحفاظ على التنظيم الذي يحمي الفكرة ويولد منها، لكن الفكرة وغاياتها لا تقبل التنازل ولا التراجع ولا المرونة أو التكيف.
لا مساومة لدى الأصوليات، بمختلف أنواعها، على الأساس الآيديولوجي الذي يمثل أهدافها الكبرى، وفي هذه الحالة يبدو التراجع خروجًا، والتفاوض والحوار مرحلة وليست مبدأ ملزما، بل يكون الاعتدال عيبا يخرج من دائرة التنظيم نفسه ودائرة ولائه إلى أطراف عدائه. وسندلل على ما سبق بمشهدين راهنين هما في اليمن الموقف الحوثي الخارق دائمًا للهدن وللالتزامات مع الشعب والشرعية اليمنية، وفي إيران موقف ملالي طهران وعودته في احتفالات ذكرى ثورة الخميني لنفس شعاراته السابقة ضد الولايات المتحدة والغرب.
اثنتان وسبعون ساعة فقط، استغرقتها الهدنة الخامسة في اليمن، التي دعت إليها الأمم المتحدة والتي بدأت صباح يوم الخميس 20 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وانتهت بنهاية يوم الأحد 23 من الشهر نفسه، لتلحق بسابقاتها. وفشلت معها أهدافها التي حددها إعلان الأمم المتحدة لها يوم الثلاثاء 18 أكتوبر، وكذلك السماح بحركة المساعدات الإنسانية والموظفين الإنسانيين بحرية ودون أية عوائق إلى كل أنحاء اليمن، بالإضافة إلى «التوقف الكامل والشامل لكل العمليات العسكرية» خاصة مع الوضع المأساوي في اليمن، الذي وصفه منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ستيفن أوبرايان في مداخلة أمام مجلس الأمن يوم الاثنين 31 أكتوبر الماضي إن «اليمن على شفا مجاعة». وحث على «وقف هذه الحرب وهذه المعاناة». كذلك أشار المسؤول الأممي إلى أن الصراع في اليمن تسبب في «كارثة» جعلت أكثر من 21 مليون شخص - أي 80 في المائة من اليمنيين - في حاجة إلى المساعدات الإنسانية، ومن هؤلاء أكثر من مليوني شخص يعانون سوء التغذية.
لكن كل هذه المآسي الإنسانية للحرب الحوثية السابعة ضد اليمن، لا تشغل العقل الحوثي الأصولي الذي يصرّ على تحقيق أهدافه، وعلى إنتاج نموذج لدولة «الولي الفقيه» في اليمن من جديد. ولأجل هذا خاض حروبه منذ عام 2003 وحتى الآن، ستة منها ضد عدوها السابق وحليفه الحالي علي عبد الله صالح، وسابعها ضد الثورة اليمنية وخارطة طريقتها وما تمخضت عنه من شرعية لم تقص الحوثيين. بل إن الحوثيين شاركوا في مختلف مراحلها من قاعدتها، أي «المبادرة الخليجية»، إلى مناقشات «الحوار الوطني»، وخروج مسودته التي كانت أكثر تبشيرا من سواها من الانتفاضات العربية التي نجحت عام 2011 إلى لجنة الدستور ومسودته، إلى القرارات الأخرى التي صدرت حلا للمشكلات العتيقة ووفقا لدوافع الصراع. ولكن الحوثي كما انتقد الهدنة لخامس مرة، سبق له نقض التزاماته دائما قبل اندلاع «عاصفة الحزم» كما سنوضح.
* حرب مستمرة
سبقت الهدنة اليمنية الأخيرة التي خرقها سريعا الحوثيون الانقلابيون بعد 72 من إعلانها، هدن أربع سابقة، لم يلتزموا بها كذلك، كان أولها في مايو (أيار) 2015، ولقد انطلقت قبلها بشهر «عملية إعادة الأمل» لإنقاذ وإعادة إعمار اليمن في 21 أبريل (نيسان) 2015. إلا أنها انهارت كذلك بعد فترة قليلة من الوقت لتستعر الحرب وتنشأ هدنة جديدة في يوليو (تموز) 2015 بعد انطلاق «عملية السهم الذهبي» وتحرير عدن بقليل، وانطلاق حوار أممي حول الحل الذي كانت الحكومة الشرعية ودول الحزم العربي رحّبت به الحكومة الشرعية وقوى التحالف العربي. ولكن بعد أن استرد الانقلابيون بعض قوتهم عادوا لسابق عهدهم، واشتعلت الحرب من جديد، واستهدفوا خلالها مسجدًا للمصلّين في تعز، لتنشأ هدنة جديدة في ديسمبر (كانون الأول) 2015. ثم خلال محادثات الكويت في أبريل 2016، وكذلك ما كانت تتم المفاوضات بقبول من الحكومة الشرعية ودول التحالف العربي الداعمة لها، وعبر وساطات عربية أو دولية، أو سعي من مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة ولد الشيخ.
وظف الحوثيون الهُدَن دائما للاستفادة من الدعم الإيراني المستمر عسكريًا، منذ فترة طويلة، ومؤخرًا في 27 أكتوبر الماضي أكدت مصادر أميركية أنه «تم ضبط 5 شحنات للأسلحة محملة بالسفن مبحرة من إيران إلى اليمن»، وهو ما مثل وقودا مستمرا لمواصلة الحرب الحوثية السابعة المشتعلة ضد اليمن شعبًا وشرعية وثورة منذ يونيو (حزيران) 2014 في عمران ودماج، ثم احتلال صنعاء في 22 سبتمبر (أيلول) من نفس العام، قبل إلقاء التهم على شماعة الآخرين. فحرب الحوثيين بدأت مع اليمن ولكنها لا تنتهي عنده، خاصة مع عجز الشرعية الدولية عن معاقبة الانقلابيين رغم نص كثير من قراراته على ذلك، وذكر الحوثي وصالح تحديدًا فيه، ونص أحدها على تطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة عليهما.
* تاريخ من رفض الالتزام
وهنا نذكر من تاريخ رفض الالتزام الحوثي بالاتفاقات والتفاوضات النماذج والأحداث التالية:
1- رفض الالتزام بالمبادرة الخليجية التي وقع عليها صالح والقوى السياسية في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011.
2- رفض الالتزام بمخرجات «الحوار الوطني اليمني» الذي استمر بين 18 مارس (آذار) 2013 لمدة عشرة شهور وانتهى في 25 يناير (كانون الثاني) 2014، وانعقد تحت شعار «بالحوار نبني المستقبل» كانت قضيتهم محورا من محاوره الأحد عشر، وضم 10 عناصر منهم.
3- قرار تقسيم الأقاليم الذي صدر في 9 فبراير (شباط) 2014 الذي نص على تسمية أقاليم ستة في إطار الدولة الاتحادية التي جرى الاتفاق عليها في «الحوار الوطني»، ولقد ضم الإقليم الخامس منها صعدة وصنعاء وذمار وعمران وسُمّى إقليم آزال، ولكن تمدداتهم منذ أغسطس (آب) وسبتمبر 2014 ثم في فبراير إلى عدن ضربت كل هذه التوافقات عرض الحائط.
4- اتفاق الشراكة والسلم وقع في 21 سبتمبر 2014، ووقع بروتوكوله الأمني بعده بأسبوع على الأقل، ولم يلتزموا خاصة بمسألة نزع السلاح.
5- التملص من مرجعية القرارات الدولية مثل القرار 2216 ومحاولة تجاوزه بتصوير انقلابهم صراعًا وصدًا لعدوان، رغم أن عدوانهم صنف جرائم حرب في عمران ودماج وصنعاء قبل «عاصفة الحزم» بسبعة شهور على الأقل. ونرى أن الإصرار على الحسم وعلى مرجعية هذه القرارات الدولية كأرضية لأي حل تفاوضي أساس لا بد منه، لكن لا بد من ملاحظة أن التفاوض والسلام والوطن قيم مزاحة وثانوية في العقل الحوثي المصرّ في وثيقته وأدبياته وخطب زعيمه على النموذج السلالي والإمامي المتمثل لـ«الولي الفقيه» الإيراني.
* شعارات إيران وتناقضاتها
لم تختلف احتفالات النظام الإيراني بذكرى انطلاق الثورة الخمينية واقتحام السفارة الأميركية، في الثالث من نوفمبر هذا العام، عن سوابقه، فاليوم ما زال يعرف بيوم «مقاومة الاستكبار العالمي»، وهو ما يتناقض كليًا مع ما كان متوقعًا بعد الاتفاق النووي الذي أبرمه مع «الشيطان الأكبر» الذي كان نظام الملالي يهتف بعدائه في يوليو 2015، وبعد رفع العقوبات الاقتصادية عنه.
كذلك، فهو يتناقض مع ما سبق هذا الاتفاق وتزامن معه من توقيف وتخفيف لغة العداء لأميركا، وقد تم رفع لافتات مناهضتها وعداوتها من مساجد وشوارع طهران، وفق موقع «الحرس الثوري» التابع للمرشد علي خامنئي نفسه في 30 أغسطس 2015. كذلك، صرح الرئيس الإيراني حسن روحاني في سبتمبر من العام ذاته بأن شعار «الموت لأميركا» مجرد شعار يرفعونه، مما يوحي بإمكانية تجميده حينها، لكن رئيس مجلس الخبراء حينها المحافظ صرح ردا عليه بأنه لا تنازل عن هذا الشعار.
كان الواقع يتكيّف مع قوانينه وممكناته، ولكن الأهداف الآيديولوجية هي التي تقوده ولا يمكن التنازل عنها. ففي 2 نوفمبر 2015، وقبل الذكرى السنوية الماضية بيوم واحد، نشرت وكالة الأنباء الإيرانية بيانًا وقع عليه 192 نائبا من أصل 290 ينص على أن «إيران أمة الشهداء ليست مستعدة إطلاقا للتخلي عن شعار (الموت لأميركا) بحجة إبرام الاتفاق النووي». وأن «هذا العداء وإعلان الموت لأميركا أصبحا رمز الجمهورية الإسلامية، وجميع الأمم المناضلة تعتبر جمهورية إيران الإسلامية نموذجا لها في هذا النضال».
لكن هذه المرة كانت هناك تصريحات للمرشد نفسه ولعدد من القادة الدينيين والعسكريين ولحلفاء إيران في كل مكان من جديد، وهو ما يناقض التقاربات الأميركي - الإيراني في كثير من الملفات الشائكة في المنطقة، أو تساهل التدخلية والتوسعية مع سياستها إيران التدخلية بشكل واضح. ولقد عادت إيران من جديد لسابق عهدها، قبل الاتفاق، ولم يفلح الرهان على الانفتاح المجتمعي من ورائه، بل زادت صلابة الآيديولوجية التي لا تعرف التراجع ولا تؤمن بالتفاوض، مردّدة في تظاهراتها الضخمة الخميس الماضي عقيدة «العداء» وتأبيد مبدأ «الصراع»، فالآيديولوجية الأصولية لا يمكن أن تعيش أو تزدهر دون عداء ودون صراع مستمر.
لقد حرص مرشد النظام «الولي الفقيه» علي خامنئي، كما حرص حسين سلامي نائب القائد العام للحرس الثوري، على وصف السفارة التي جرى اقتحامها قبل 37 سنة بـ«وكر التجسس» خلال احتفالات الخميس الماضي. واستقبل خامنئي - حسب صحيفة «كيهان» - آلاف الشبان وطلاب الجامعات منكرا لهم أي قيمة «للتفاوض»، وأنه «لا يمكن أن يكون حلا لأي مشكلة»، مع التأكيد على أن «الحل هو الروح والفكر الثوريان»، مكررا نفس قاموسه القديم من العداء والاتهام المستمر بـ«أن الإدارة الأميركية لم تتوان عن القيام بأي جهد وإجراء رسمي أو غير رسمي ضد الشعب الإيراني لإفشال ثورته الإسلامية».
إنه النظام الأصولي الذي لا يفقد أهدافه بل يصر على تحقيقها. وتبدو السياسة وقيم الحوار والتفاوض والاتفاق عنده، وما يعلنه من قبولها أحيانا، مجرد مرحلة مؤقتة يراوغ بها لكسب المزيد أو تخفيف ضغط أو إنقاذ حليف، ولكن حتى تحين الفرصة لإعلان رفضها من جديد.
هكذا فعل الحوثي مع مختلف ما التزم به. وهكذا قد تصنع إيران متى استطاعت أن تعلن رفضها لما سبق أن التزمت به، وظل كلاهما دون رادع دولي يعطي للالتزام الدولي أو الوطني قيمته الأخلاقية والقانونية والتنفيذية.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.