عالم متهور.. شديد الخطورة

عالم متهور.. شديد الخطورة
TT

عالم متهور.. شديد الخطورة

عالم متهور.. شديد الخطورة

هل التفاهة هي جوهر الوجود كما يذهب ميلان كونديرا في روايته «مهرجان التفاهة»؟ يبدو أن الأمر كذلك، في الأقل في مرحلتنا هذه. والتفاهة هذه تتخذ هذه المرة لبوسا يبدو خارج أي نسق فكري وحتى منطقي. فمهما حاول المرء أن يخضع ما يجري للتحليل العقلي يجد نفسه عاجزا عن الاستيعاب. لم يعد الأمر كما كان في زمن الأفكار والآيديولوجيات التي سادت في فترات تاريخية مختلفة، ووصل ممثلوها إلى السلطة باسمها، يمينيين ويساريين، ليبراليين وعلمانيين ودينيين. كانت الأمور على قدر كبير من الوضوح.. أفكار مقابل أفكار، آيديولوجيات مقابل آيديولوجيات، اتجاهات مقابل اتجاهات، بغض النظر عن القامع والمقموع، والرابح والخاسر. لم يعد الأمر كذلك. نحن أمام ظاهرة جديدة تبدو كاسحة في المرحلة الحالية من التاريخ الأوروبي والأميركي بشكل خاص، قد نطلق عليه مصطلح الشعبوية، التي هي بالطبع ليست ظاهرة جديدة في التاريخ الإنساني، لكن شكلها اختلف الآن. لقد تجسدت الشعبوية أكثر ما تجسدت في صعود الفاشية والنازية ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، لكنها لم تتحول قط إلى اتجاه شعبي حتى مع صعود هتلر إلى السلطة في ألمانيا. قد يكون حصل ذلك بعد القفز في غفلة من التاريخ إلى السلطة، فصارت تيارا شعبيا ليس فقط بسبب القمع، وإنما أيضا بسبب الحجم الهائل من الأكاذيب والتزويق والتضليل، المدعوم بالماكينة الإعلامية والدعائية التي ملكتها ووظفتها بأقصى ما تستطيع السلطة الصاعدة آنذاك.. ولكن إلى حين.
ما نشاهده الآن قد يكون معكوسا تماما إلى حد كبير. هناك صعود من الأسفل إلى الأعلى، ومن القاعدة إلى القمة في بلدان متطورة كانت تبدو لوقت قريب جدا صلدة أمام هذه الظاهرة بحكم بنائها الاقتصادي المتين وهيمنة فكر الطبقة السائدة، البرجوازية الكبيرة والوسطى، الذي راكمته على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية. يبدو أن هذا الفكر في طريقه للانحسار من بريطانيا إلى أميركا، وانتظروا قريبا فرنسا. إنه ليس صعود اليمين المتطرف فقط، ولكن صعود فئات وطبقات من المفروض أنها متناحرة ومتناقضة طبقيا واجتماعيا وثقافيا، مشكلة كتلة هلامية غير واضحة الملامح بعد، وخارج كل التصنيفات المعروفة. أصحاب رساميل ضخمة، وعمال، وحرفيون، وفلاحين، وناس مهشمون طبقيا واجتماعيا، مما اعتاد المنظرون الاقتصاديون على تسميتهم بحثالة البروليتاريا.. بدأوا تحالفا غير مكتوب بلا برامج أو مواثيق لكنه قد يعيد تشكيل المجتمعات الغربية من جديد بشكل غير مألوف من قبل.
لا يكفي أن نقول إن جاذبية الخطاب الشعبوي، المليء بالتضليل والتزويق، ودغدغة المشاعر بالأحلام الوردية، واللعب على وتر الوطنية المزعومة، التي ليست سوى شوفينية معاصرة، تكفي لتفسير هذه الظاهرة، رغم أهميتها البالغة في توليدها وتشكيلها، كما أن الآراء التي تعزو ذلك إلى ضعف الاتجاهات الليبرالية واليسارية لا تفسر الأمر كله. هناك شيء أعمق من ذلك يجري تحت السطح متعلق بتركيبة المجتمعات الرأسمالية نفسها، وبكلمة أخرى بفشل اليمين نفسه، الذي حكم هذه المجتمعات في أغلب المراحل منذ الحرب العالمية الثانية. يبدو هذا اليمين الآن مختنقا ذاتيا، ومهددا في جوهر فكره السياسي والاقتصادي، وبالتالي جر المجتمعات التي ساهم في صياغتها إلى الخراب الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي.
هل نلقي نظرة ساخرة على ما حولنا، ونضحك على عصرنا في عالم يقوم أساسا على الدعاية والتهريج، كما يدعونا كونديرا؟ هل صارت التفاهة خيارا وحيدا في عالم متهور، وبالتالي هو شديد الخطورة؟



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.