من التاريخ : المشاكل السياسية وانتخاب أول رئيس أميركي

جورج واشنطن
جورج واشنطن
TT

من التاريخ : المشاكل السياسية وانتخاب أول رئيس أميركي

جورج واشنطن
جورج واشنطن

ما زلنا حتى الساعة نراقب تبعات الانتخابات الأميركية التي أجريت في وقت سابق من الأسبوع، ومعظمنا يوجه أنظاره نحو مستقبل السياسة الدولية، بينما البعض الآخر يتأمل طريقة الانتخابات ذاتها خاصة فكرة «المجمع الانتخابي» ما بين مؤيد ومعارض لها. وفي حين يتابع كثيرون المظاهرات التي اندلعت في بعض الولايات رفضًا لنتائج الانتخابات يعبّر فريق آخر عبر وسائل التواصل الإعلامي عن رفضه سياسات شخص الرئيس المنتخب أو تأييده له.
اليوم اخترت العودة إلى الوراء متابعًا نتائج هذه الانتخابات لعام 1787، بالتحديد عند اجتماع «لجنة إعداد الدستور الأميركي» في محاولة لتأمل العملية الانتخابية برؤية تاريخية. من أين بدأت؟ وإلى أين توجهت المسيرة الديمقراطية الأميركية؟ بينما ترن في إذني الجُمل الشهيرة خلال مداولات لجنة كتابة الدستور وعلى رأسها كلمات ألكسندر هيلتون، مؤسس تكتل «الفيدراليين» وقائده، ومنها وصفه العامة - ويقصد هنا المواطنين البسطاء - بأنهم «الدابة الكبرى»، وفي المقابل، بينما حذّر إلبريدج جيري، وهو أيضًا من المساهمين بوضع الدستور «من مخاطر الديمقراطية المفرطة». وهذا، في حين تعالت أصوات رافضة لفلسفة وظيفة رئيس الجمهورية من الأساس إذ رأوا فيها «جنين الملكية الفاسدة» خلال هذه الأيام الحاسمة من تاريخ الولايات المتحدة بعد استقلالها بسنوات قليلة.
الحقيقة أن الولايات المتحدة تتمتع بميزتين أساسيتين تفرقانها عن الأغلبية العظمى من الدول: الأولى هي أنها الدولة الوحيدة التي ولدت «ديمقراطية أو شبه ديمقراطية» منذ إعلان استقلال الولايات الثلاث عشرة عن الحكم البريطاني بعد الحرب التي اندلعت عام 1776، والثانية هي كونها الدولة الوحيدة التي ولدت من رحم برلمان معروف باسم «الكونغرس» - أو «المؤتمر» - . ذلك أن معظم الدول تبنى في الأساس على قوة شخص أو شخصيات توحّدها، بعد ذلك تأتي سلطة البرلمان تدريجيًا كحال غالبية الدول، وهي السلطة التي كانت دائمًا غير مطلقة باستثناءات قليلة وقصيرة في التاريخ، لعل أبرزها فترة ما بعد الثورة الإنجليزية قبيل حكم أوليفر كرومويل مباشرة. فلقد أسس «الكونغرس»، أو «المؤتمر القارّي» المكون من ممثلي الولايات الـ13 الأساسية الدولة الأميركية الوليدة، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى التركيبة التاريخية الأميركية آنذاك.
في كل الأحوال انتصر الجيش القارّي الأميركي على القوات البريطانية، وبدأ «الكونغرس» يحكم البلاد على المستوى الجماعي بينما ظلت الولايات الثلاث عشرة تتمتع بقدر كبير من الحكم الذاتي داخل ما يشبه «الكونفدرالية» أكثر منه للنظام «الفيدرالي» أو الاتحادي، وذلك على أساس «مواد الكونفدرالية Articles of the Confederation» والتي نظمت السلطة الجماعية للولايات. وحقًا الترجمة الدقيقة في العربية لكلمة State في الإنجليزية هي «دولة» وليس «ولاية»، وعليه، فالاسم الأقرب للصواب للكيان الجديد هو «الدول المتحدة الأميركية».
وبمرور الوقت، صار واضحًا، كما حدث مع ثورة كرومويل على الملك تشارلز الأول، أن البرلمانات وحدها لا تستطيع إدارة الدولة بمفردها. إذ إن الدول والشعوب وطبيعة الحكم غير مؤهلة لذلك، خاصة عندما بدأت تندلع المشاكل الخاصة بترسيم الحدود الأنهار والتجارة البينية بين الولايات وعلاقاتها الخارجية، وهو ما دفع «الكونغرس» الأميركي لإصدار قرار لمراجعة «مواد الكونفدرالية» في عام 1787، وهو ما تقبلته بعض الولايات، خاصة الصغرى، بالشك والريبة، خشية تسلط الولايات الكبيرة على الكيان «الكونفدرالي» الفضفاض وتحويله إلى كيان «فيدرالي» أشد تماسكًا. ومن ثم، عارضت هذه الولايات الصغيرة هذا التوجه تمامًا، قبل مداولات متطاولة أفلحت أخيرًا بتبديد الخوف من تحوّل «الولايات المتحدة» إلى حكم أوتوقراطي بعد التغلب على ذلك من خلال فكرة توافقية صاغها بعض العباقرة وعلى رأسهم المفكر المنعزل والمثقف جيمس ماديسون - أحد واضعي الدستور ورئيس الجمهورية لاحقًا - بعد موائمات نتجت عنها فكرة «الموازنة بين السلطات»، أو «الحدود والتوازنات» المعروفة بالـChecks and Balances في السياسة الأميركية. ذلك أنه ثبت للمشاركين أنه لا يمكن إدارة دولة إلا بوجود سلطة تنفيذية يعتليها شخص مُنتخب، وتتعايش مع سلطتين مستقلتين: برلمانية (ممثلة بـ«الكونغرس») وأخرى قضائية (ممثلة بالمحكمة العليا). إلا أن حدود صلاحيات كل سلطة كانت محل بحث وتمحيص وموائمات لا حصر لها، خاصة فكرة «الرئيس» الذي وجب وضع قيود على سلطاته من قبل «الكونغرس» والعكس صحيح. ومن ثم، تقرر أن يكون لـ«الرئيس» صلاحيات تنفيذية واسعة ولكن من دون الحق في إعلان الحرب أو عقد اتفاق السلام. ومنح «الكونغرس» حق نقض قراراته، بل أيضًا حق العزل في حالة ثبوت اتهامه. أيضًا منح الدستور «الرئيس» حق النقض للقوانين الصادرة عن «الكونغرس»، ولكن للأخير بغالبية ثلثي الأعضاء له الحق في مراجعة نقض «الرئيس».
مع هذا، يرى كثيرون أن «عبقرية» الدستور الأميركي تكمن في سبل معالجته مخاوف الولايات الصغيرة أمام تغوّل سلطات الولايات الأكبر من حيث عدد السكان. وكان أهم عنصرين في هذه المشكلة هو كيفية احتساب تعداد السكان والوزن النسبي لمشاركة الولايات في انتخاب «الرئيس» والتمثيل في «الكونغرس»، وهي مشكلة ممتدة ومعقدة لا تزال تلقي ببعض ظلالها حتى اليوم. إذ استقر الرأي على جعل «الكونغرس» مؤسسة تشريعية من مجلسين هما «مجلس الشيوخ» Senate The و«مجلس النواب» The House of Representatives، يكون الأول على أساس متساوٍ بين الولايات بشيخين لكل منهما ويكون المجلس الأكثر صلاحية، بينما الثاني على أساس نسبي لتعداد سكان كل ولاية وسلطاته أقل بصفة عامة. ومن هنا نشأت فكرة ما عرف فيما بعد بـ«المجمع الانتخابي» Electoral college في انتخابات الرئاسة، وهو ما حسم في بعض الانتخابات النتيجة على أساس الأصوات الانتخابية كل ولاية على حدة وليس مجموع الأصوات الشعبية كما حدث في انتخابات عام 2000، وأيضًا، الانتخابات الأخيرة قبل أيام.
واقع الأمر أن بعض القادة كان يأمل في أن تكون انتخابات الرئاسة مبنية على انتخابات ديمقراطية مفتوحة لكل مواطن صوت واحد يُنتخب بعدها «الرئيس» بالأغلبية المطلقة، إلا أن مداولات «لجنة إعداد الدستور» وُجدت مشاكل كثيرة مرتبطة بهذه الفكرة على رأسها صعوبة السيطرة على العملية الانتخابية، لا سيما، في ظل بدائية الوسائل التي كانت متاحة في ذلك الوقت، إضافة إلى ارتباط مشكلة تعداد الولايات بوجود طبقة العبيد الذين لا يحقّ لهم الانتخاب بطبيعة الحال. لكن الولايات الجنوبية كانت تريد استغلال هذا الأمر لتوسيع قاعدة تمثيلها، ومن ثم تم الاتفاق على أن يُحتسب تعداد العبيد بثلاثة أخماس فقط، وعلى هذه الأسس تقرر انتخاب «المجمع الانتخابي» المكون من مُنتخبين Electors عن كل ولاية وفقًا لتعدادها على أساس حجم تمثيلها في مجلسي «الكونغرس» وتكون مسؤوليتهم أن يعكسوا الهوى الانتخابي للدوائر التي يمثلونها، على ألا يكون هؤلاء المُنتخبون من حملة الوظائف العامة، ويكون لهذه الجماعة حق انتخاب أول رئيس للجمهورية.
عُقد «المجمع الانتخابي» جلسته في مارس (آذار) 1789 لانتخاب أول رئيس للجمهورية الأميركية ونائبه على أساس أن يحصل صاحب أكبر الأصوات من المرشحين على منصب الرئيس بينما الحاصل على ثاني أكبر عدد من الأصوات يؤول له منصب نائب الرئيس، وهو ما يختلف عن مسيرة الانتخابات الحالية التي يدخل فيها الرئيس ونائبه سباق الرئاسة في قائمة واحدة. وجاءت نتائج انتخابات «المجمع الانتخابي» لصالح جورج واشنطن (من ولاية فيرجينيا في الجنوب)، قائد الجيش القارّي الأميركي إبان حرب الاستقلال، حاصلاً على 99 صوتًا - أي بإجماع «المجمع» - فبات أول رئيسًا للولايات المتحدة، كما بات كان أول وآخر رئيس يصار إلى انتخابه بالإجماع في تاريخ الولايات المتحدة. ويومذاك احتل أحد كتبة الدستور المحامي جون آدامز (من ولاية ماساتشوستس في شمال البلاد) في المركز الثاني بـ34 صوتًا، فأعلن أول نائب لرئيس الجمهورية. وأقسم الرئيس واشنطن اليمين الدستورية على نفس النحو الذي يقسمه الرؤساء الأميركيون اليوم وتولى المسؤولية على رأس فريق ضم وزير خارجية ووزير مالية ومحاميا عاما، وهو ما اعتبره البعض أول «مجلس وزراء»، إذ ما كانت قد استحدثت بعد الوزارات والمؤسّسات الأخرى التي نعرف اليوم مثل مجلس الأمن القومي أو وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها.
وفيما بعد، جرى إدخال الكثير من التعديلات على الدستور والعملية الانتخابية لعل أهمها كما هو إلغاء الدور العملي للمُنتخبين Electors في «المجمع الانتخابي» لمعظم الولايات وإبدال الغالبية البسيطة لكل ولاية به تترجم إلى نقاط يحصل عليها المرشح الفائز وفقًا لتعداد كل الولاية كما هو ممثل في الكونغرس، والملاحظ أن أول تعديل لقواعد الانتخابات جاء في انتخابات عام 1800 عندما ترشّح توماس جيفرسون، وزير الخارجية في فريق واشنطن وأحد ألمع واضعي الدستور، للمنصب مع آرون بُر كنائب للرئيس، فحصل الاثنان على 73 صوتًا لكليهما مقابل 65 لنائب الرئيس جون آدامز، وهو ما اضطر الكونغرس للتصويت 35 مرة في أسبوع حتى تم انتخاب جيفرسون في أعقاب بعد تدخل مباشر من ألكسندر هاملتون، وزير المالية الذي انشق عن معسكر آدامز، لصالح جيفرسون. ولاحقًا اشتدت العداوة بينه بين بُر (الذي انتخب نائبا للرئيس)، انتهت بمبارزة قُتل فيها هاملتون بيد بُر، ومن بعدها أضطر الكونغرس لتغيير أساليب الاقتراع على نائب الرئيس فكانت هذه بداية لسلسلة من التعديلات إلى وصلت العملية الانتخابية إلى ما وصلت إليه اليوم، غير أن الأساس ظل في مجمله على ما صيغ منذ قرنين ونصف القرن من الزمان.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.