طه عبد الرحمن: سوأة العالم الكبرى هي الشهوة وسفك الدم

انتقد الحضارة الغربية الغارقة في الاستهلاك

طه عبد الرحمن
طه عبد الرحمن
TT

طه عبد الرحمن: سوأة العالم الكبرى هي الشهوة وسفك الدم

طه عبد الرحمن
طه عبد الرحمن

يعتبر الفيلسوف طه عبد الرحمن، أن الحضارة الغربية بمنظومتها الحداثية، مريضة بشكل جد مستفحل، بداء قديم أصاب البشرية منذ بداياتها الأولى، هو حب التملك. كما يرى أن شفاء الإنسانية من هذا الداء، لن يتأتي إلا بطلب الألبسة التي تواري سوأة هذا التملك المتجذر في الإنسان، والتعاطي، للأسباب، التي يسميها طه عبد الرحمن، بالائتمانية الكفيلة بإخراجه من هذا الداء.
يحصر طه عبد الرحمن حب التملك في شيئين هما: اتباع الشهوة وسفك الدم، وهما يشكلان سوأة العالم الكبرى. وتفشي حب التملك هذا، كان نتاجًا لنزع لباس النور ولباس الجسم. فماذا يقصد طه عبد الرحمن بذلك؟
ينطلق طه عبد الرحمن، كعادته، من المرجعية القرآنية لبناء نظريته. فمنها يستمد عدته ومرتكزاته، ومنها يستقي مفاهيمه التي يفجر منها دلالات جديدة مسعفة للتفسير، أو لحل معضلات معينة. لهذا نجده وهو يعالج مشكلة التملك الإنساني الذي يراه سببًا أساسيًا في سوأة العالم، يبدأ من قصتين أصليتين، هما «قصة آدم وحواء»، و«قصة ابني آدم قابيل وهابيل»، وهما القصتان المتعارف عليهما عالميًا. فهو يعوّل عليهما في فهم مأساة الإنسان وضياعه، وكذلك من أجل استيعاب مروقه وشروده. بل إن هاتين القصتين، ستسعفان فيلسوفنا في الإقرار بأن قدر البشرية أن لا تتفق وأن لا تتحد.
إن آدم قد تورط في اشتهاء ما نهي عنه، وأكل من الشجرة. فكان بفعلته هذه، قد نزع عنه لباسه الأول. أما قايبل، ابن دم، فقد سفك دم أخيه الشقيق هابيل، ما أدى إلى نزع اللباس الثاني. على أساس أن اللباس الأول هو لباس النور، أما اللباس الثاني، فهو لباس الجسم. فـ«اتباع الشهوة» و«سفك الدم»، جعلا وحدة البشرية من المحال لأنهما نزعا عن الإنسان أغطيته الحمائية والوقائية.
إن هذين الفعلين الأصليين، اللذين افتتحت بهما البشرية مسيرتها، يتكرران على الدوام في تاريخ البشرية، ولو بتفاوت من حيث الحدة والمدة. فهما عملان ملازمان للإنسان في كل أطواره، ويشكلان قدر البشرية الذي لا يدفع، على الرغم من محاولات الرسل المبعوثة، إعادة لباسها المكشوف إلى الإنسانية، دون جدوى، لأن الإنسان كان دائم الإصرار على التمادي في كشف اللباس، عوضا عن ستر نفسه، يعاند في عدم الإنصات للنداء الروحي الداعي إلى تذكيره بالنواهي الأولى للبشرية، التي عليها قوام الأخلاق القويمة الموارية لسوأته.
يذكرنا طه عبد الرحمن، بأن التاريخ قد علمنا أن هناك تلازمًا بين اتباع الشهوات وسفك الدم، والعكس صحيح، إذ لا زمن كان خلا من ذلك، منبهًا إلى أن الشهوة كانت هي السبب في إزالة ألبسة الإنسان المعنوية، ليصبح عاريا وعالمه مظلما. أما سفك الدماء فقد زج بالإنسان إلى غياهب الظلم. وهنا يدعونا طه عبد الرحمن للتأمل في مسألة الظلام والظلم، الناجمين عن الشهوة وسفك الدم، في كونهما يعودان إلى جذر واحد هو حب التملك.
حب التملك: الشهوة وسفك الدم
تجعل الشهوة الشخص في اهتياج لا يخمد. ولا يهدأ له بال حتى ينال ما يشتهي. ونيله ذلك، يعني مباشرة، امتلاكه إياه، وحينما يقضي وطره منه، سيجره ذلك إلى طلب ملكية جديدة، أي شهوة جديدة أخرى، أي باختصار، سيدخل الإنسان في استهلاك دائم، وهو ما جعل طه عبد الرحمن، يؤكد على أن الملكية والاستهلاك وجهان لعملة واحدة.
إن الشهوة بما هي امتلاك واستهلاك، تحدث -بحسب طه عبد الرحمن- نقطة سوداء في القلب، تنزع عنه لباسه ليستبدل بظلمة تكون على قدر الاستهلاك. أما سفك الدم، فهو أيضا، لا يخرج عن التملك، لأنه باختصار، سعي لإتلاف الأجسام بإزهاق أرواحها، ولن يتحقق إتلاف الجسم إلا بوجود القدرة على قهره وغصبه، والهيمنة عليه بالقوة. وهذا ما هو إلا تسلط وتغلب وامتلاك. فحين يقتل الإنسان أخاه الإنسان، يكون قد نزع منه ملكية جسمه. لهذا اشتد التحريم وبقوة حول القتل، وجرى اعتبار قتل فرد واحد كقتل الجميع، لأن الأمر يتسبب في ظلم كبير، ولا ينزع عن القاتل لباسه وحده، بل ينزعه عن البشرية بأكملها.
يريد طه عبد الرحمن، أن يظهر لنا من خلال ما سبق، أن حب الشهوات من حب التملك، والوغل في الدماء من حب التسلط، وحب التسلط من حب التملك، والفساد الذي يسري في العالم، هو نتيجة هذا الحب الدفين في النفس الإنسانية. فالتملك هو سبب الويلات الطارئة في العالم منذ البداية، فبه تنزع الألبسة الساترة للظلمات والمظالم معا. فهو من دفع آدم إلى الأكل من الشجرة المحظورة، متوهما أنه سوف يدرك ملكًا لا يبلى وحياة لا تفنى. وهو السبب الذي جعل قابيل يتجرأ على قتل هابيل متوهمًا أنه سيحظى بالمتاع لوحده دون مزاحمة.
يهدف طه عبد الرحمن من وراء تشخيصه للداء الإنساني المتمثل في حب التملك، إلى نقد الحضارة الغربية المنغمسة في الاستهلاك بشكل جنوني، والذي انتشر كالعدوى ليصيب بقية العالم. وقد بدا أثرها على كل فرد بعينه، برضاه أو رغما عنه. فإذا كان التملك قضية قديمة ملازمة للبشرية، فهو قد استفحل ووصل مداه الأقصى في زماننا، إلى درجة التكشف السافر للإنسانية، وبطريقة منظمة ومعقلنة إعلاميا وسياسيا واقتصاديا وقانونيا وأمنيا وعلميا ومعاملة وسيرة. وإذا تمكن الإنسان من معرفة أسباب معضلته، فهذا سبيل نحو تحرره. فالداء لا يعالج إلا بعد إيجاد علله الصانعة له. ومادام أن الداء الكبير للبشرية، الذي يكشف سوأة العالم الكبرى، هو التملك، الذي يظهر بوجهين، هما اتباع الشهوة وسفك الدم، فإن العلاج سيكون برد الأغطية إلى مكانها، وعدم المساس بها أو انتهاكها. ويتم ذلك، كما يقول طه عبد الرحمن، من طريق التعاطي للأسباب الائتمانية التي تخلصنا من معضلتنا القديمة.
إن الفلسفة الائتمانية، التي يقترحها علينا طه عبد الرحمن، الداعية إلى تجديد العهد مع الشاهد أي الله، والمطالبة بعدم ترك الإنسان يشرع ويحكم بمفرده، إلى درجة الغرق بالبشرية إلى ما لا يحمد عقباه، هو المشروع الذي يناضل من أجل إبرازه، وهو الآن قيد الإنجاز. فطه عبد الرحمن، يعدنا في خاتمة كتابه «شرود ما بعد الدهرانية»، بإصدار قريب سيكون جوابا على سؤال يقول عنه إنه أرقه طوال حياته، وكان أكبر همه وهو: كيف نواري سوأة العالم الكبرى؟
على الرغم من المجهود الهائل الذي يبذله المفكر طه عبد الرحمن، لجعل التفكير الإسلامي متميزًا ومتفردًا، وبه عناصر إجابة لمعضلات زماننا، وعلى الرغم من مغامرته الكبرى، التي تحسب له، في خوض نقاش محتدم وقوي مع رموز كبرى من التفكير الغربي، فإنني ألاحظ عنده دائمًا تغييبًا للسياق الذي أنجب لنا الحضارة الغربية، إذ تبدو للقارئ وكأنها اختيار، ونحن نعلم جيدًا أن في الفكر يغيب الاختيار، فهناك سياقات هي التي تفرض أنماط نماذج التفكير.
تبقى قيمة طه عبد الرحمن الكبرى، في أنه يحاول أن يقدم نظرية تحل مآزق، ولا يهم أن تكون صوابًا أو خطأ، فالمهم أن تحرك التفكير الإسلامي وتجعله يستيقظ بعد طول سبات. فوجود نظرية ولو خاطئة، خير من غيابها.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.