قضايا يفتقر إليها القارئ في زمن التكنولوجيا

سلطان العميمي يرسم بعض ملامح المجتمع الإماراتي في روايته «ص.ب: 1003»

قضايا يفتقر إليها القارئ في زمن التكنولوجيا
TT

قضايا يفتقر إليها القارئ في زمن التكنولوجيا

قضايا يفتقر إليها القارئ في زمن التكنولوجيا

من زوايا متعددة، بتعدد الرواة، يتكامل المشهد في «ص.ب: 1003»، الرواية الجديدة للكاتب الإماراتي سلطان العميمي، فتتحول الرواية إلى لوحة تشكيلية تتقاطع فيها الخطوط والألوان، لتتكامل معبرة عن تقاطع الرؤى وهي تنظر إلى ما تنظر إليه من زواياها الكثيرة.
على أن هذه الزوايا لا تحدد فقط مساحة الرؤية للشخصية، لكنها أيضا تحدد طابع كلامها. كلام ينقل، يصف، ويبتعد عن التأويل تاركا إياه للقارئ.
ولعل «ص.ب: 1003» هي من الروايات النادرة التي يسير فيها القارئ في خط سردي يتخطى حدود عالم الشخصية، فيشعر بتفوقه عليها؛ ففي حين كانت «عليا» تنتظر وصول رد من «عيسى» على رسالتها، وهما الاثنان من هواة المراسلة وجمع الطوابع، كان القارئ قد علم من خلال «حشيد» (والد عيسى) بوفاة ابنه في حادث سير مروع. تقول عليا: «إن الأمر الذي يشغلني حاليا هو عدم وصول رد منه على رسالتي الأخيرة. هل يمكن أن تكون رسالتي قد ضلت طريقها إليه؟ أو أن رده قد ضل طريقه إلي؟ أم أن بعض ردودي جعله يتمهل في كتابة رده أو يحجم عنه؟».
صور الكاتب حال عليا وهي تكذب سمعها، فتقول إن رسالته قد سقطت عند الباب دون صوت، فتذهب لتتأكد بعينيها، لتكتشف أن الذي سقط كان أملا زائفا تثيره أحيانا رسائل الخدمات السكنية لشقتها! عشرات الأسئلة تتنازعها، وكل الاحتمالات والظنون تتراقص في ذهنها، الجيد منها وغير الجيد، ظنون الخير وظنون السوء، وظن يقع في منطقة وسطى.
أما القارئ، فكان قد تخطى هذا الغموض، وبات منشغلا بمعرفة القرار الذي سيتخذه «يوسف». هل سينتحل شخصية «عيسى» المتوفى ويراسل عليا؟
تبدأ الرواية بتشويق القارئ لمعرفة حقيقة «عليا» عندما تقول في الصفحة الأولى: «هل عرف شيئا عني؟ عن حقيقتي؟».
إضافة إلى التشويق، يستمتع القارئ باستعادة زمن الرسائل واللقاءات في مكتب البريد، حيث شكلت هذه المكاتب ملتقى يوميا لأحاديث ممتعة لكبار السن. كانوا يستمتعون برواية مغامراتهم التي لا تنتهي.
قضية أخرى، أساسية، تطرحها الرواية، يفتقر إليها القارئ في زمن التكنولوجيا، وهي الخط. الخط الذي يمنح الإنسان هوية ومزايا خاصة. وكم من دراسات أجريت حول خط الإنسان للتعرف على شخصيته ودواخل نفسه. أما الآن بفضل الطباعة، فقد ضاعت الهوية وضاع معها التفرد. لذلك، عندما لجأ «يوسف» إلى التزوير، لجأ إلى استخدام الآلة الكاتبة. فضاعت هوية الكاتب «عيسى» صاحب الخط العادي، بلا ملامح مميزة. طريقة كتابته لبعض الحروف غريب أيضا، فحرف الصاد مثلا يكتبه كحرف الحاء، ونقاط الحروف في أحيان كثيرة لا تكون في محلها في الكلمات. على عكس خط عليا الجميل الأنيق، الذي يحمل لمسات أنثوية لم تخلُ من ثقة واضحة لدى صاحبته.
ترتسم على وجه القارئ ابتسامة ماكرة وهو يقرأ الخطاب على ألسنة أشياء جامدة، لم يكن يخطر بباله أن يدخل عالمها. أشياء تعبر عن نفسها وعن إحساسها، مثل مبنى البريد: «إن إحساسي بالبشر وحاجتي إليهم يفوقان كثيرا إحساسهم بي، وهم - في الغالب - لا يشعرون بأهمية الأماكن إلا بعد أن يغادروها أو تغادرهم بزوال معالمها أو تغيرها، وهذا ما يجعلني في أعينهم مجرد بناء إسمنتي يجمعهم لساعات معينة يوميا، ثم يغادرونني إلى أبنية إسمنتية أخرى يرتاحون فيها أو يمارسون حياتهم بين جدرانها». أما طابع البريد فيقول: «أنا من يعطي الظرف قيمة تسمح بنقله إلى الجهة التي يفترض أن يذهب إليها، لكني أفقد قيمتي بمجرد أن أختم بتلك الأداة. وقد يكتب لبعضنا قضاء عمره ملتصقا في طرف ظرف ما إلى وقت غير معلوم، أو قد ينتزع بعضنا من الظرف ليتم تبادلنا ومقايضتنا بطوابع أخرى، أو لنقبع في ألبوم خاص مدة من الزمن». وكذلك كيس الأسرار: «أحمل كل ما يمكنك وما لا يمكنك تخيله من أسرار بشرية من بقايا أرواح انسكبت على الورق، واختبأت في أظرف تطوف دول العالم، وانتقلت من يد إلى أخرى، لتصل في النهاية إلى يد متلهفة، وعيون تحتضن ما تناثر من مشاعر على صدر الورق».
ويعكس الكاتب، على لسان «كيس الأسرار»، بعضا من ملامح المجتمع الإماراتي: «أحمل رسائل لزوجات كبار السن في المنطقة ممن أتين من دولة عربية أو آسيوية برفقة زوج يريد إثبات قدرته على مقارعة الشباب في فحولتهم وقدرتهم على الإنجاب. رسائل أخرى لخادمات البيوت اللاتي أتى معظمهن من الهند وسري لانكا والفلبين. رسائل البائعين وبعض أصحاب المحلات من الهند وبنغلاديش، رسائل المعلمين من مختلف الدول العربية كمصر والأردن وسوريا والسودان... أنا كيس الأسرار الأكثر احتضانا لها في هذا العالم، والأكثر جهلا بها في الوقت ذاته». وكذلك تتحدث المكتبة عن الحياة بين رفوفها، و«معشر الأقلام»، والغرف الخالية.
نتعرف، من خلالهم، على منطقة «الذيد» وأبنائها «الطيبين». إنهم بدو بسطاء، لم تغيرهم النقلة الحضارية التي شهدتها الدولة منذ اتحاد إماراتها، وتطبَّع من جاء للعمل أو الاستقرار فيها بطابعهم. وتتجلى صورة المجتمع في قضايا عدة طرحها العميمي، سواء على لسان عليا، أو «يوسف» موظف البريد الذي اشترى صندوق «عيسى» البريدي، وانتحل شخصيته، أو على لسان الشيطان! فيظهر الاختلاف في التفكير بين عليا التي تتابع دراستها في بريطانيا، ويوسف المقيم في الإمارات. الاختلافات كثيرة، ترتبط ببعض العقليات في المجتمعات العربية، التي تمارس حريتها سرا في جوانب كثيرة. فتثار مسألة «علنية السلوك الخارجي». تكتب عليا من بريطانيا: «يجب أن نعترف بأننا لسنا مجتمعا ملائكيا، ولا توجد على وجه الأرض مدينة فاضلة تخلو من الشر أو الخطأ، والمجتمعات الأخرى ليست مجتمعات شيطانية أيضا وليست وكرا للرذيلة، لكن بعضهم يركز أحيانا على جانب سيئ في مجتمع ما، وينسى كل المظاهر الإيجابية الأخرى فيه. لكن ماذا أيضا عن السلوكيات الأخرى المتعلقة بالأخلاق؟ ماذا عن الإخلاص في العمل؟ والالتزام بالمواعيد؟ والأمانة؟ والحفاظ على الممتلكات العامة؟ واحترام قوانين السير؟ وعدم الغش صناعيا وتجاريا... إلخ؟ أليس هذا ما يدعو إليه ديننا؟ لماذا صارت الأخلاق في منظور بعضنا ترتبط بالشكل الخارجي في حكمنا على الآخرين؟».
أراد العميمي أن يطرح مسألة ضعف النفس البشرية وتخفيها وراء الشيطان المشهود له بأنه وراء كل شر، فأفرد له شخصية مستقلة ولسانا ينطق بأفعاله ويعظ بالبشر: «أغلب البشر يخشوننا في الظلام. كان من الأجدر أن يخافوا الظلام الذي يسكن في داخلهم. الإنسان ليس أفضل منا بشيء. ها هو (يوسف) يدخل عالم صديقه الميت ليكتشف أسراره، إنها خيانة قائمة على نوايا الخير. هكذا أقنع نفسه. وسلمى لا تختلف عن غيرها بشيء. لكنها تدعي المثالية لا أكثر، وأنا من سيهزم مثاليتها هذه... لا بد أن أستمر في العبث لنسف كل القيم التي تقوم عليها مبادئ البشر. سأثبت لكم أن المبادئ التي تتغنون بها ليل نهار قابلة للانهيار أمام مصالحكم الشخصية وأهوائكم».
انهزمت عليا وكذلك يوسف؛ فبعد أن كانت تتغنى الأولى بأهمية الفكر وتفضيله على الشكل، تقول بعد رؤيتها ليوسف على افتراض أنه عيسى: «ترى لو كان وجه عيسى وسيما، هل كنت سأتخذ الموقف نفسه؟».
أما يوسف فيكفي أنه خان صديقه ووظيفته في سبيل «معرفة الأنثى عن قرب» يقول بعد لقائه بها: «فتاة ضخمة الجسم جدا... وددت لو أتجه بعد خروجي من المطعم إلى المطار مباشرة، عائدا إلى (الذيد)».
سقط البطلان أمام حاجز الشكل. وجاءت النهاية، أو ربما «مشروع» نهاية، عندما قرر يوسف التوقف عن المراسلة، فاعترف لعليا، وأعاد رسائلها إليها بعد أن دمغ الظرف بختم مطبوع فيه جملة «Return to sender» من دون قراءتها. لكنه قرأ خبرا منشورا في مجلة عن صدور حكم بالسجن لمدة عشر سنوات على ساعي بريد في إحدى الدول الآسيوية، اعتاد لأشهر أن يخبئ في بيته الرسائل الواردة إلى مكتب بريد القرية الذي يعمل فيه، وكشفته شكوى أهالي القرية من عدم وصول أي رسائل إليهم منذ فترة طويلة. ربما تكون هذه هي نهاية يوسف! من يدري.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.