من التاريخ: شجرة الدر ومعركة المنصورة

من التاريخ: شجرة الدر ومعركة المنصورة
TT

من التاريخ: شجرة الدر ومعركة المنصورة

من التاريخ: شجرة الدر ومعركة المنصورة

إذا كان المسلمون قد ابتلاهم الله بالحملات الصليبية على مدى قرن ونصف القرن من الزمان، إلا أنه لم يدر بخلد أحدهم أن الطامة الكبرى كانت آتية، فلقد وقع العالم الإسلامي، خاصة مصر والشام، في مأزق عظيم، فلقد أتى المغول من الشرق يدمرون كل شيء بينما الصليبيون يأتون من الشمال بهدف القضاء على الدولة الإسلامية، والأسوأ من ذلك هو أن تحالفا بدأ يلوح في الأفق بين الطرفين، كل لأهدافه، والعالم الإسلامي هو الفريسة المنتظرة، خاصة أن الدولة الأيوبية لم تكن في أحسن أحوالها، فلقد سلم الكامل القدس للصليبيين لأسباب غير مفهومة، أغلب الظن أنها تتصل باسترخائه وعدم رغبته في استمرار المقاومة أكثر من خيانته، بينما أصبحت مصر تترنح تحت حكم من أتى بعده من أولاده، إلى أن دانت البلاد للصالح نجم الدين أيوب الذي ملك البلاد، ولكن الأنباء جاءت له بغير ما كان يأمل أو يتوقع، فلقد استعدت حملة صليبية جديدة للسيطرة على مصر في الوقت الذي وقعت فيه شرق دولته فريسة للغزو المغولي التدريجي بعدما وقعت بغداد واستباح المغول المشرق تماما.
على نفس غرار الحملات السابقة، فلقد تدخل البابا «أينوشنتي الرابع» في هذا الشأن بالاتفاق مع الملك لويس التاسع ملك فرنسا لتسيير حملة إلى مصر يكون الهدف منها هو تحقيق ما فشلت فيه الحملة السابقة بعد هزيمة دمياط، وكانت الأهداف واحدة، ملك متسرع يهدف إلى الفوز بالدعم الإلهي والشهرة في أوروبا وتثبيت أركان حكمه بذلك المجد الجديد، وبابا متعطش لفرض السيطرة على مدينة بيت المقدس التي كانت قد سقطت لصالح البيت الخوارزمي في عام 1245، فضلا عن ضمان التحالف القائم بين بعض الممالك الأوروبية والبابوية، وهكذا انطلقت الحملة بعد تجهيز دام قرابة أربعة أعوام أمضى بعضها الملك في قبرص يعد العدة للنزول لمصر في ميناء دمياط، وقد اختار الرجل صيف عام 1249 لبدء الحملة الصليبية السابعة على مصر أملا في إخراج مصر من معادلة القوة الإسلامية ليستولي بعدها على الشام وتقسيم الممالك الإسلامية مع المغول، ولكن مصر كانت لها رؤيتها الأخرى والمختلفة.
وصل الملك لويس لدمياط وقد استسلمت المدينة له دون إراقة أي دماء على الإطلاق في تخاذل ملحوظ لا يليق بمن حاربوا قبلها بثلاثين عاما معركة شرسة هزمت الحملة الصليبية السابقة، وقد جعل لويس من دمياط رأس الجسر الذي من خلاله بدأ يجهز للقضاء على القوة الأيوبية المتبقية في مصر، وعلى الفور بدأ السلطان نجم الدين في تجهيز جيشه من المماليك، وهم مجموعة من العبيد الذين استجلبهم البيت الأيوبي كنوع من الحرس أو الميليشيات الخاصة على مدار السنوات الماضية وفق ما كانت العادة في ذلك الوقت، وقد بدأ يحصن مدينة المنصورة من أجل التجهيز للمعركة الفاصلة فيها، ولكن القدر لم يمهله، فلقد وافته المنية بعدما أصيب بمرض صدري، وقد أنقذ القدر مصر مرة أخرى، ولكن في هذه المرة على أيدي امرأة عرفت في التاريخ المصري بـ«شجر الدر» أو «شجرة الدر»، وهي جارية أرمينية كانت متزوجة من السلطان، فأخفت خبر وفاته عن الجميع واستدعت ابنه «توران شاه» من العراق، حيث سلمته مقاليد الأمور في البلاد، ورغم أن السلطان الجديد لم يكن على شاكلة أبيه، فإن وجوده كان مهما للغاية لتوحيد الدولة في هذا الوقت الدقيق والحساس، وقد اندلعت المعركة بالقرب من قرية فارسكور، حيث أبلى المماليك، خاصة «بيبرس البندقداري»، بلاء حسنا ووحشية ملحوظة للقضاء على الجيش الصليبي، وبالفعل هزمت الحملة الصليبية هزيمة نكراء، وقد اضطر لويس التاسع لخوض مناوشات متجددة مع المماليك في مدينة المنصورة أسفرت عن أسره واحتجازه أسيرا في دار ابن لقمان، وبأسره وتشتيت جيشه لم يكن هناك بد من التوقيع على اتفاق تم بمقتضاه إجلاء الحملة الصليبية عن مصر ودفع فدية باهظة نظير إطلاق سراح الملك، وقد أنشد أحد الشعراء قصيدة للملك لويس التاسع جاء فيها:
خمسون ألفا لا يرى منهمو
إلا قتيل أو أسير جريح
وفقك الله لأمثالها
لعل عيسى منكمو يستريح
إن كنت عولت على عودة
لأخذ ثأر أو لنقد صحيح
دار ابن لقمان على حالها
والقيد باق والطواشي صبيح
لقد كانت معركة المنصورة بحق بداية النهاية الحقيقية للحملات الصليبية، فلقد كانت آخر حملة منظمة وممنهجة، فلم تستطع أوروبا أن تجمع حملة أخرى مثلها لتحقيق الحلم الذي داعب أوروبا منذ عام 1095، فقد انهار الحلم بعدما فشلت الجهود العسكرية للقضاء على قاعدة المقاومة الإسلامية ممثلة في مصر، وهو ما اضطرها إلى الاكتفاء بالممالك التي كانت لا تزال تتمركز حول الساحل الشامي، وعلى رأسها مدينة عكا ذات الأسوار المنيعة، وعدد من المدن الساحلية الأخرى، منها مدينة طرابلس وبيروت، فضلا عن إمارة أنطاكية التي كان لها موقع خاص في قلوب الصليبيين باعتبارها ثاني إمارة تتكون كما تابعنا، وكانت هذه الممالك أو المستعمرات مبعثرة دون قيادة صليبية موحدة، مما جعلها قابلة للاحتواء والتصفية.
على كل حال فإن الأحوال في مصر سرعان ما اضطربت بعدما قتل السلطان توران شاه بسبب سوء إدارته للبلاد وعدم قدرته على التعامل مع المماليك الذين يرجع لهم الفضل في القضاء على الحملة الصليبية، فكانت النتيجة قتل السلطان على أيدي بيبرس البندقداري، وتم إسناد حكم مصر لأول مرة منذ الفتح الإسلامي لامرأة هي «شجر الدر» التي اختارت الأمير «أيبك»، أحد كبار المماليك زوجا لها، وقد استمر حكمها المشترك مع السلطان أيبك لمدة سبع سنوات انتهى بمقتلهما، ويقال لأسباب تتعلق بالغيرة الزوجية بسبب جارية، وأيا كانت الأسباب فلقد استولى المماليك على الحكم في البلاد مباشرة بعدما كان الخطر المغولي محدقا بالبلاد، وتم اختيار المظفر قطز لتولي الجيش المصري الذي هزم المماليك في معركة عين جالوت الشهيرة، ولم يهنأ الرجل بنصره إذ سرعان ما قتله الظاهر بيبرس الذي تم تنصيبه سلطانا على البلاد فدانت له مصر بالكامل والممالك التابعة لها بلا أي خلافات.
كان لهزيمة المغول وانحسار مدهم السياسي أثره المباشر على أحوال المستعمرات الصليبية المتبقية، فلقد تفرغ الظاهر بيبرس لمواجهة هذه البؤر الواحدة تلو الأخرى رغم بعض المناوشات المغولية، وهكذا استطاع هذا العسكري الفذ الذي لا تعرف الرحمة مكانا في قلبه القضاء على بعض الممالك المتبقية، وعلى رأسها بيروت واللاذقية وغيرهما، ولكن النصر الحقيقي كان بسقوط إمارة أنطاكية التي كانت من أهم الإمارات الصليبية على الإطلاق ومصدر قلق مستمر، ومع ذلك فالرجل لم يكتب له أن يشهد حقيقة حلمه بالقضاء على الصليبيين بالكامل، فهذه اللحظة منحها المولى عز وجل السلطان الأشرف قلاوون الذي استطاع فتح عكا في 1291 بعد صمودها لبعض الوقت، مزيلا بذلك بلاء شرسا وقع على بلاد المسلمين لمدة قرنين من الزمان أزهقت فيها الأرواح وهتكت فيها الأعراض وسلبت الأموال وذبحت الأطفال وأحرقت الجوامع والكنائس والمدن على حد سواء.
حصاد مر لحلم مرير تحت ستار الدين.
وللحديث بقية.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.