من التاريخ: سياسة سليمان «القانوني» الأوروبية

من التاريخ: سياسة سليمان «القانوني» الأوروبية
TT

من التاريخ: سياسة سليمان «القانوني» الأوروبية

من التاريخ: سياسة سليمان «القانوني» الأوروبية

لقد أرسي السلطان العثماني سليمان «القانوني» الأرضية الثقافية والفكرية والإدارية والقانونية للدولة العثمانية الجديدة، كما تابعنا في الأسبوع الماضي. وقد اهتم أيضًا بالرونق غير العسكري لدولته، فانتشرت في عهده العمارة الحديثة والمجيدة التي نرى آثارها اليوم في إسطنبول وغيرها من المدن التركية. ثم إنه اهتم بنهضة التعليم، كما انتشرت في الأوساط العثمانية حركة الفكر والشعر. وكانت بين المنجزات العميقة الأثر صياغة «مدوّنة القوانين» التي جمعت القوانين المتناثرة، وأبرمت قوانينً جديدة حددت الحقوق والواجبات، وكفلت بشكل بدائي مفهوم «المواطَنة» داخل الدولة العثمانية، خصوصا بالنسبة لغير المسلمين، وهو الأمر الذي جعل الدولة العثمانية في الحقيقة ملاذًا لكثيرين من المضطهدين في أوروبا، وعلى رأسهم اليهود الذين عانوا من الطرد من إسبانيا في 1492 مع المسلمين، وقونن كذلك أوضاع الأقنان (العبيد)، فجعل من الدولة العثمانية وسيلة جذب لهذه الطبقة من الأوروبيين الذين حصلوا على حقوق لم يعرفوها في بلادهم قط.
مع ذلك، شهد عصر سليمان «القانوني» أيضًا، وبالقوة نفسها، حركة توسّع وحملات عسكرية كثيرة، فهو الذي أسس للدور الرئيس للدولة العثمانية في السياسة الأوروبية. وعلى الرغم من ظهور هذا الدور منذ وضع العثمانيون لأنفسهم موطئ قدم في القارة الأوروبية، فإن إسطنبول لم تتبوأ المكانة المكتملة بوصفها دولة عضوًا ومؤثرة وفاعلة في النظام السياسي الأوروبي بشكل كامل وصريح إلا في عهد سليمان. ويرجع ذلك في التقدير ليس فقط إلى التوسع العسكري في شرق ووسط أوروبا والبلقان، ولكن أيضًا لممارسة دوره الدبلوماسي الفعال على الساحة الأوروبية، كما لو كانت الدولة العثمانية جزءًا من منظومة العلاقات الدولية وتوازنات القوى من ناحية أخرى. وهي المكانة التي حظيت بها الدولة العثمانية بشكل غريب، سواءً وهي في أوج قوتها أو إبّان احتضارها؛ وهذا من مفارقات التاريخ.
لقد ركّز سليمان في بداية حكمه على الإصلاحات الداخلية، وأخذ ينظر ويتابع الأوضاع في أوروبا عن كثب، منتظرًا الفرصة المواتية لتوسيع ممالكه الأوروبية بشكل كبير، وليحقق ما لم يحققه السلاطين من قبله. وحقًا كانت الساحة الأوروبية مواتية تمامًا مع بداية حكمه لهذا التوسع، إذ كانت أوروبا تمرّ بمرحلة متغيرات واسعة النطاق، حيث كانت مناطق وسط وشرق أوروبا التي تقع على التماس العثماني خاضعة لحكم أو هيمنة الإمبراطور شارل الخامس، أقوى حكام الإمبراطورية الرومانية المقدسة المتحالفة مع إسبانيا بعد توحّدها عام 1492 تحت الرباط الكاثوليكي والملكي، ومعهما البابا بطبيعة الحال. وكان هذا الإمبراطور الطموح يسعى لفرض الهيمنة على القارة الأوروبية بأكملها، بينما كانت فرنسا تحت حكم فرنسيس الأول هي العائق الأساسي له في هذا الحلم. ولقد شعر فرنسيس أنه يقع بين قطبين موحدين ضده، وبالتالي، سعى - تطبيقًا لمبدأ توازن القوى – إلى عقد تحالف مباشر مع سليمان «القانوني».
ومع أن سليمان رحّب بمسعى فرنسيس، فإنه كان مدركًا أن الملك الفرنسي في النهاية لن يكون حليفًا استراتيجيًا، حتى مع التوقيع على اتفاقية دفاع مشترك. وفي أي حال، كان هناك استغلال متبادل ما دامت الجبهة مفتوحة مع العدو المشترك، شارل الخامس. وبالفعل، استفاد سليمان من هذا الوضع، فوجه قواته نحو البلقان مباشرة، وتوغل في صربيا حتى فرض الحصار على حاضرتها بلغراد التي دانت للدولة العثمانية، بعدما ترك سليمان مهمة فتحها إلى جيشه، وعاد إلى إسطنبول لمتابعة الأوضاع في الدولة، والتجهيز لبداية تطهير شرق المتوسط المتاخم له من المناوئين لدولته.
بعدها، توجه سليمان بقوة بحرية قوية نحو جزيرة رودوس عام 1522، وكانت هذه الجزيرة معقلاً للقراصنة الذين طالما هددوا التجارة العثمانية، وكانوا شوكة خطيرة للغاية في خاصرته السياسية، لا سيما أنها كانت تحت سيطرة «فرسان القديس يوحنا» الأشداء المتعصبين دينيًا. وقد أنزل الأسطول العثماني جيشه، وفرض سليمان الحصار على مدينة رودوس، عاصمة الجزيرة الصغيرة، التي استعصت عليه مؤقتًا لاستبسال المدافعين عنها لبعض الوقت، إذ فشلت محاولات سليمان اختراق أسوارها الشاهقة، كما فشلت معظم محاولات تلغيم تلك الأسوار، لكن المدافعين اضطروا في نهاية المطاف للاستسلام، وتوقيع صلح صيغ بشكل متسامح لتحفيز سكان المدينة والجزيرة للاستسلام. وبعد تأمين الجزيرة، عاد سليمان مرة أخرى ليجهز غزواته التالية، بعدما أمن شرق البحر المتوسط.
وفي تحركه العسكري التالي، عاد سليمان مرة أخرى لفتح الجبهة الأوروبية، وجرّها إلى صراع مفتوح مع الإمبراطور شارل الخامس، للتخفيف عن الضغط المفروض على حليفه الفرنسي. وكانت المجر هي ساحة الاقتتال، حيث استغل سليمان وجود خلافات داخلية في الإمبراطورية، وقرّر السيطرة على المجر، فعبر بقواته في 1525 نهر الدانوب، وقرّر حرق الجسور التي عبر منها الجيش، أسوة بما فعله طارق بن زياد عند فتح الأندلس، وتوغل للداخل حتى واجه القوات المجرية في معركة موهاتش الشهيرة التي انتهت بهزيمة ثقيلة للغاية للمجريين خلال أقل من ساعتين، واستولى على المجر.
غير أنه بمجرد انسحابه عائدًا إلى إسطنبول، عاد ملك المجر فرديناند مرة أخرى للمناوشة، لاستعادة عرشه بدعم من الإمبراطور، فاضطر سليمان لتجريد حملة جديدة أسفرت عن تنصيب الملك زيبوليا على عرش البلاد في مواجهة فرديناند الذي كان يدعمه الإمبراطور. ثم تحرك سليمان في العام نفسه لمحاصرة العاصمة الإمبراطورية فيينا، لتكون بوابته للدخول في غرب أوروبا. وفعلاً، حاصر الجيش العثماني فيينا، إلا أنه عجز عن فتحها لاستبسال حاميتها المكونة من عشرين ألف مقاتل ودخول الشتاء، ولذا اضطر لرفع الحصار. وكانت هذه الخطوة إيذانًا بفتح حوار مع الإمبراطور، لتوقيع اتفاق للسلام تم بمقتضاه تقسيم المجر بين حليفي الدولتين، وعودة سليمان مرة أخرى إلى إسطنبول. وثمة من يقول إنه لو فتح السلطان العثماني فيينا، فإن الخارطة السياسية الأوروبية كانت تغيّرت حتمًا، ولكان التاريخ قد اتخذ منعطفًا مختلفًا.
أما على جبهات الشرق، فكانت الخطوة التالية توجيه سليمان «القانوني» جيوشه في عام 1534 نحو الشرق لمواجهة الدولة الفارسية، وقد استطاع أن يستولى على شمال العراق، ثم فتح بغداد، وتوغل بعد ذلك شرقًا في إيران، واستطاع أن يحتل مدينة تبريز، لكنه اكتفى بذلك، وعاد بجيشه إلى إسطنبول حماية لخطوط اتصالاته التي كانت قد توسعت وطالت أكثر من اللزوم. لكنه قبل ذلك، تخلص من رئيس وزرائه وصديق عمره إبراهيم باشا الذي منحه الألقاب والأموال الطائلة، مع أن الرجل كان يرجوه ألا يفرط برفع مكانته، وذلك لأنه كان يخشى الوشايات وسوء المصير. بيد أن ثقة السلطان كانت عظيمة، قبل أن يجهز على رفيق عمره، بعدما اتخذ الرجل إثر فتحه تبريز لقب «السلطان»، وهو أمر كان متعارفًا عليه في بلاد فارس، باعتبار أنه حكم المدينة واحتلها. وفي هذا، ما كان إبراهيم يدري أنه تمادى، وعبر «الخطوط الحمراء». وبالطبع، كان لمنافسي إبراهيم دورهم في الوشاية به.
ولم يتأخر سليمان مجددًا في العودة إلى الساحة الأوروبية؛ هذه المرة بعد وفاة حليفه الملك زيبوليا، فدخل المجر، وأعاد العرش إلى ابنه الرضيع، ووضع المجر تحت السيطرة العثمانية المباشرة منعًا لأي مشكلات مستقبلية. ولقد آثر الإمبراطور ألا يطيل المواجهة مع العثمانيين، بعدما تفشت مشكلات الثورة البروتستانتية في أراضي الإمبراطورية، وكان في حاجة لمساحة ليوجه جيوشه لإخماد الثورة البروتستانتية. وبالفعل، تم توقيع اتفاقية عام 1547، وقع عليها الإمبراطور وملك فرنسا والبابا ودويلة البندقية (فينيتزيا)، وهو ما يعكس المكانة التي وصلت إليها الدولة العثمانية، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من السياسة الأوروبية.
ولقد استغل سليمان «القانوني» كل هذه الظروف استغلالاً جيدًا، ووجه جهده نحو تقوية وضع الدولة في الأراضي الأوروبية التي كانت تحت سيطرته الكاملة. غير أن الهدنة منحته أيضًا الفرصة للإجهاز على الدولة الصفوية في إيران، من خلال الحملة الثانية التي انتهت بالاستيلاء على بعض المدن، وتبع هذه الحملة فتح الجبهة المجرية مرة أخرى لفشل اتفاقية 1547 بعد سنوات قليلة، ولكن جهده العسكري لم يكن حاسمًا. وشن سليمان حملته الثالثة على الصفويين بعدما تجرأوا عليه، واستولوا على مدينة أرضروم، في شرق الأناضول، فرد عليهم وهزمهم في بعض المعارك، ولكنه لم يستطع الاستيلاء على كل أراضي الدولة الصفوية، فآثر الطرفان السلام مرة أخرى، بعدما حصل سليمان على بعض أراضي إيران، وعلى رأسها مدينة تبريز، وأمّن هذه الجبهة.
وكانت آخر حملات سليمان في المجر في عام 1566، ولكن القدر لم يمهله، إذ توفي قبيل المعركة الفاصلة التي انتصرت فيها جيوشه. وفي ذلك اليوم، أخفى رئيس وزرائه خبر وفاته لحين تثبيت ابنه سليم الثاني على السلطنة. وبعدها، أعلن خبر وفاة أعظم سلاطين الدولة العثمانية على الإطلاق. وحقيقة الأمر أن الدولة العثمانية بدأت بعده مرحلة التحلل السياسي الممتد تدريجيًا، ولكن ليس قبل أن تصبح جزءًا لا يتجزأ من المعادلة السياسية الأوروبية، بممتلكات في شرق ووسط أوروبا، وعلاقات ممتدة مع الدول المهمة في هذا المسرح.
ولئن كان سليمان القانوني قد ثبّت أقدام الدولة العثمانية أوروبيًا ضمن أمور أخرى، فإن كثرة من كتب التاريخ قد أغفلت حقيقة أساسية، وهي أن الدولة في عهده وصلت لمرحلة التشبع العسكري والسياسي، إذ لم تكن قادرة على استيعاب مزيد من التوسّع، خصوصًا في أوروبا.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.