«زها حديد» بعد زها حديد

المشاريع توالت من العملاء العرب للتعبير عن التزامهم ورغبتهم في الإبقاء على إرثها حيًا

TT

«زها حديد» بعد زها حديد

في العاشر من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وفي كاتدرائية «سان بول» بلندن، تم حفل تأبين المعمارية العراقية العالمية زها حديد، التي توفيت في الـ31 من شهر مارس (آذار) عن عمر يناهز 65 عامًا.
ليس من المبالغة القول إنه كان الأضخم لغاية الآن، إذ حضره أكثر من 2000 مدعو من كل أنحاء العالم، من بينهم معماريون ورؤساء تنفيذيون في مجالات عدة. أحيا التأبين الموسيقار العراقي إلهام المدفعي، بالإضافة إلى تقديم بعض الأغنيات الأجنبية التي كانت تحبها زها حديد. الموسيقى ورهبة المكان تضافرا ليخلفا تأثيرًا لم يضاه قوته سوى حفل تأبين الأميرة الراحلة ديانا، الذي أقيم في نفس الكاتدرائية وغنى فيه التون جون أغنيته الشهيرة «candle in the wind».
لكن فيما عدا ذلك، كان هناك شعور بالتفاؤل بالمستقبل والأمل يسكن عيون كل العاملين في إمبراطورية «زها حديد أركيتيكتس». هذا الشعور يختلف تمامًا عن ذلك الذي كان يظهر على وجوههم يوم دفنها في بداية أبريل (نيسان) الماضي، والأسبوع الذي تلاه. صحيح أن موتها كان مفاجئًا ومُفجعًا للكل، لكن بالنسبة لـ400 موظف عملوا معها، كان هناك أيضًا خوف صامت من المستقبل. فبغض النظر عن مؤهلاتهم وكفاءاتهم، كان اسمها إلى حد وفاتها هو الذي يفتح الأبواب.
هذا الخوف كان يظهر واضحًا أكثر على شريكها باتريك شوماخر. كان حزينًا من هول الصدمة نظرًا لصداقتهما التي تمتد إلى 28 عامًا، كما كان قلقًا، لأن العراقية التي غيرت مفهوم الهندسة المعمارية وعبدت الطريق أمام المرأة لدخول هذا المجال، كانت نجمة بكل المقاييس، والتاريخ يؤكد أنه عندما يُغيب الموت معماريين كبارًا مثلها، فإن مؤسساتهم تموت معهم فيما تبقى أعمالهم هي الشاهد الوحيد عليهم، وليس أدل على ذلك من أوسكار نيماير ولو كوربيزييه وآخرون. من هذا المنطلق، كان من الطبيعي أن تدور تساؤلات كثيرة في أذهان كل العاملين معها، عن مصير «زها حديد» كمؤسسة قائمة بذاتها: هل يمكن أن يحافظ اسمها على بريقه؟ وهل سيُكتب لإرثها أن يستمر دون وجودها؟
الجواب على لسان طارق الخياط، المسؤول عن مكتبها الجديد في دبي: «نعم، بدليل أننا نفتتح هذا الشهر أول مكتب لنا في دبي لكي نتمكن من تلبية الطلبات والتفاعل مع العملاء». ويتابع: «الفضل يعود لشخصيتها وأسلوبها في العمل.. فقد نجحت في بناء مؤسسة بأساسات صلبة وراسخة، لأنها لم تكن معمارية عادية تهتم بالتفاصيل اليومية والصغيرة بقدر ما كانت قائدًا بكل معنى الكلمة. وهذا يعني أنها كونت فريق عمل، فتحت له الأبواب على مصراعيها ليعبر عن قدراته، وكل الفرص لاكتساب مزيد من الخبرات التي تخول لهم الاستمرار والإبقاء على إرثها حيًا دونها، بل وتوريثه لأجيال مقبلة. المدير القائد له هذه القدرة على تكوين من يعمل معه وإلهامهم، إضافة إلى غرس روح الاستقلالية والإبداع بداخلهم».
ما يقصده طارق الخياط الذي يعمل معها منذ عام 2005، أي بعد تخرجه مباشرة، أن طريقتها في العمل كانت تتمحور حول تشجيع تدفق الأفكار الجديدة ومناقشتها من كل الزوايا مع شريكها في العمل باتريك شوماخر ومعماريين آخرون من كل الأعمار، ثم تترك للمعماريين الشباب فيما بعد الفرصة للإدلاء بآرائهم وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه على أرض الواقع. لكن القرار النهائي كان دائمًا لها ولشريكها باتريك شوماخر.
هذا ما جعل الأجواء خلال حفل تأبينها مُفعمة بالتفاؤل، أو بالأحرى يتخلله نوع من السكينة. فقد اطمأن الجميع أن اسمها سيبقى حيًا. يقول طارق خياط إنه ما إن انتهت فترة الحداد، حتى وجدوا أنفسهم يعملون دون توقف لإنجاز مشاريع كانت زها حديد قد وقعت عليها قبل وفاتها، إضافة إلى مشاريع جديدة انهالت على المكتب الرئيسي بلندن من كل أنحاء العالم، بما فيها منطقة الشرق الأوسط. فكل العملاء كانوا مُلتزمين بإنهاء ما بدأته من باب الولاء والاحترام لها. والحقيقة أن عدد المشاريع المطلوبة في منطقة الشرق الأوسط وحدها تطلب افتتاح مكتب جديد في حي التصميم دي 3 بدبي، لينضم إلى مكاتب «زها حديد» في كل من نيويورك، وهونغ كونغ، وميكسيكو سيتي، لتلبية كل الطلبات والتعامل مع العملاء بشكل مباشر.
المنطقة العربية كانت مهمة بالنسبة لزها حديد، وكانت تراودها أحلام كثيرة أن تلعب دورًا أكبر فيها، إلى حد أنها كانت قلقة قبل وفاتها ألا يتم افتتاح مكتبها فيها. لحسن الحظ أن زبائن المنطقة كانوا أول من اتصلوا بالمكتب، مؤكدين تعاطفهم والتزامهم بالتعامل مع مكتبها حتى بعد مماتها، ربما امتنانًا لها عن الحب الذي صرحت به مرارًا تجاه المنطقة. فمما قالته عن دبي منذ سنوات عندما سئلت عن المنطقة، إنها متحمسة لما يجري فيها من تغييرات سريعة: «دبي مثلاً تبث كثيرًا من التفاؤل في النفس لما تتمتع به من رؤية مستقبلية طموحة. الجميل فيها أيضًا التزامها بتطبيق هذا الطموح على أرض الواقع مدفوعة باعتزاز قوي بهوية المنطقة ورغبة في بنائها، وهذا بحد ذاته أمر رائع». في اللقاء الصحافي نفسه أضافت: «ما من شك أنها أصبحت من أهم المراكز العالمية، حيث تجمع كثيرًا من الجنسيات تحت سمائها.. ما يثيرني فيها أنها لا ترحب بهم فحسب، بل تشجعهم على الإبداع وتتيح لهم الفرص.. إنها تذكرني ببيروت أيام زمان، حين كان بإمكانك أن تلتقي أشخاصًا من كل الجنسيات فيها».
من الواضح أن دبي، والمنطقة العربية ككل، بادلتها نفس الحب مع جرعة وفاء. فمكتبها لم يتوقف عن العمل لا في السعودية، ولا في قطر أو دبي والشارقة، فضلاً عن أماكن أخرى من العالم.
يُعلق طارق الخياط: «كل هذا أكد لنا أنها كما كانت عملاقة في حياتها، ظلت كذلك بعد مماتها، ونحن ندين بكثير من الامتنان لعملائنا العرب، الذين برهنوا على ولاء لا مثيل له. فقد تلقينا اتصالات من كل الجهات، إما تطمئننا أن المشاريع المُتفق عليها من قبل ستستمر، أو تطلب منا أعمالاً جديدة».
من هذه المشاريع المستمرة، المبادرة التي أطلقتها مجموعة أمنيات العقارية، التي تتخذ من دبي مقرًا لها، صندوق منح للدراسات العليا في جامعة هارفارد الأميركية الذي يحمل اسمها: «صندوق منح زها حديد وأمنيات». المبادرة جاءت من مهدي أمجد، الرئيس التنفيذي ومؤسس مجموعة «أمنيات»، الذي صرح حينها بأن الصندوق يهدف إلى دعم الطلبة العرب المتميزين، إضافة إلى تكريم اسم زها حديد وتذكير الأجيال المقبلة بإنجازاتها، وربما «اكتشاف زها حديد أخرى من منطقتنا»، حسب قوله.
وستكون المنحة من نصيب طلاب من العالم العربي، يرغبون في دراسة التصميم والهندسة المعمارية، على شرط أن تكون لهم كفاءات تؤهلهم للدراسة في واحدة من أهم الجامعات العالمية، على أن يتم تفعيل المبادرة ابتداءً من ربيع 2017.
أما الأعمال التي يعكف على إنجازها مكتب «زها حديد أركيتكتس» الجديد في دبي، فهي كثيرة، نذكر منها مقر شركة «بيئة» الجديد بالشارقة والمتوقع الانتهاء منه في النصف الثاني من عام 2018. وتجدر الإشارة إلى أن الشركة متخصصة في تقديم الحلول البيئية وسيحتل المبنى مساحة 8500 متر مربع ضمن أرض تبلغ مساحتها 90 ألف متر مربع. وسيستخدم طاقة متجددة بنسبة 100 في المائة مصدرها الطاقة الشمسية يتم توليدها من النفايات بتصميم ديناميكي يجمع أحدث الحلول البيئية المستدامة لمواجهة تحديات المجتمع.
ويتميز تصميم المبنى بانسجامه مع محيطه الصحراوي، إذ يتخذ شكل سلسلة من الكثبان المتقاطعة للاستفادة القصوى من الرياح الشمالية، إضافة إلى تميزه بفراغات داخلية تستغل ضوء النهار، فيما جاءت التشطيبات الخارجية للمبنى بشكل يعكس أشعة الشمس لخفض استهلاك الطاقة. هناك أيضًا برج أوبوس المستقبلي العائم بدبي، الذي يمكن اعتباره أكثر مشاريعها طموحًا حتى الآن. وقد صمم ليُبنى على جزيرة وعلى شكل ثلاثة أبراج متداخلة باستثناء الوسط، حيث يوجد فراغ يجعله فريدًا في شكله من الناحيتين الفنية والهندسية على حد سواء.
في السعودية هناك مشاريع كثيرة، نذكر منها مركز التراث العمراني، بمحافظة الدرعية. ويأتي ضمن الجهود للمحافظة على حي الطريف، أحد المواقع المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لمنظمة «اليونيسكو». هناك أيضًا مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية، وهو مركز للأبحاث وتحليل كل ما يرتبط بالطاقة والبيئة، إضافة إلى إعداد الحلول التي ستساهم في تشكيل مستقبل الطاقة المستدامة. هناك مجموعة أخرى لا تزال طور البناء والتنفيذ من المشرق إلى المغرب، معظمها سيتبلور شكله أكثر، أو يكتمل، في عام 2018.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)