لماذا يذهب الجامعيون إلى ساحات القتال تحت راية «داعش»؟

ارتباط التطرف بالجهل يسقط تحت أقدام مقاتليه

جامعيون من الأجانب  استهوتهم شعارات {داعش} فانضموا إليه ({الشرق الأوسط})
جامعيون من الأجانب استهوتهم شعارات {داعش} فانضموا إليه ({الشرق الأوسط})
TT

لماذا يذهب الجامعيون إلى ساحات القتال تحت راية «داعش»؟

جامعيون من الأجانب  استهوتهم شعارات {داعش} فانضموا إليه ({الشرق الأوسط})
جامعيون من الأجانب استهوتهم شعارات {داعش} فانضموا إليه ({الشرق الأوسط})

استندت دراسة البنك الدولي، المعدة أخيرًا، التي بينت أن الأجانب الذين يلتحقون بصفوف «داعش» على مستوى تعليمي أعلى من المتوقع، إلى بيانات داخلية للتنظيم المتطرف جرى تسريبها لـ3803 من عناصره.
ويشار إلى أن الدراسة التي أعدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البنك الدولي، تستند فيما خص الشق المتعلق بالمتطرفين الأجانب إلى استمارات انضمامهم إلى التنظيم المتطرف، التي تتضمن بيانات عن بلد الإقامة والجنسية والمستوى التعليمي والخبرات السابقة في العمل القتالي والإلمام بالشريعة.
ومن ناحية ثانية، تفيد دراسة البنك الدولي بأن «داعش» لم يجند مقاتليه الأجانب من الطبقات الفقيرة أو الأقل تعليمًا، بل على العكس هناك ما يشير إلى أن الافتقار إلى الإدماج الاقتصادي لهؤلاء الأشخاص في بلادهم يفسر تفاقم التشدد، وتحوله إلى تطرف عنيف.
كذلك فإن معدّي الدراسة وعنوانها «العدالة الاجتماعية والاقتصادية لمنع التطرف العنيف»، أكدوا أن «داعش» لم يأت بمجنديه الأجانب من بين الفقراء والأقل تعليمًا، بل العكس هو الصحيح. إذ بحسب الدراسة، فإن غالبية المنضمين إلى التنظيم خلال عامي 2013 و2014 «يؤكدون أن مستواهم التعليمي هو المرحلة الثانوية، وقسم كبير منهم تابعوا دراستهم حتى الجامعة». وأظهرت بيانات الدراسة أن الأجانب الذين انضموا لـ«داعش»، 43.3 منهم مستواهم التعليمي هو المرحلة الثانوية، و24.5 في المائة هو المرحلة الجامعية، في حين أن 13.5 في المائة فقط يقتصر مستواهم التعليمي على المرحلة الابتدائية، وبلغت نسبة الأميين في صفوف التنظيم 1.3 في المائة فقط.
من ناحية أخرى، فتح «داعش» في شهر فبراير (شباط) عام 2016 مدرستين في مدينة الرقة السورية لتعليم «الجهاد» والعلوم الشرعية لأبناء وبنات المقاتلين الأجانب في صفوفه، لكن باللغة الإنجليزية، تماشيًا مع خصوصيتهم، إحداهما للذكور وحملت اسم «أبو مصعب الزرقاوي»، والمدرسة الثانية للإناث سميت بـ«مدرسة عائشة». وقال «ديوان التعليم» لدى «داعش» إن «المدارس الجديدة لتدريس الأطفال من عمر السنة السادسة وحتى الرابعة عشرة من أبناء المهاجرين الأجانب باللغة الإنجليزية». وكان التنظيم قد أنشأ أيضًا معهدًا لتدريب الأطفال على القتال وفق عدة مستويات تحت اسم «معهد الفاروق» لتدريس الأطفال أحكام الجهاد والشريعة، وقدر عدد الأطفال المنتسبين إليه بمائة طفل.
ومما يذكر هنا أن «داعش» كان قد فرض في مارس (آذار) عام 2015 التعليم الإلزامي في الأراضى الواقعة تحت سيطرته في سوريا، وقام بتوزيع تعهدات على أهالي الطلبة، لضمان التزامهم بإرسال أطفالهم إلى المدارس التي يديرها، بحسب مصادر حقوقية سورية. ونشر نشطاء نسخة من أوراق تتضمن تسجيل التلاميذ في مدارس «داعش»، وتعهد من ولي أمر التلميذ بإرساله إلى هذه المدارس وإلزامه بالدوام ومتابعته، وجاء في نص التعهد: «أتعهد بإذن الله بإرسال ابني إلى المدرسة ومتابعة دوامه، وفي حال عدم تنفيذ هذا الأمر أتحمل المسؤولية الكاملة».

أهداف «داعش»
الدكتورة إلهام شاهين، أستاذ العقيدة والفلسفة في مصر، ترى أن «داعش» يلجأ للمتعلمين، لأنه يعتمد على الدراسات المسبقة، ووضع الخطط المنهجية في جذب العناصر التي تنضم إلى صفوفه، ويحدد ذلك أيضًا بناءً على أهداف يسعى إلى تحقيقها. وتلفت إلى أن التنظيم يسعى لتكوين دولة واسعة النطاق تعتمد على التكنولوجيا الحديثة في إدارتها، وبالتالي لن يتحقق ذلك إلا بالمستويات العلمية القوية، ومن ثم يدخل للسيطرة عليهم من النقص الذي يعانون منه والتفكك الأسري أو الرغبة في دور محوري في الحياة ودولة «الخلافة» (المزعومة)، أو الرغبة في التخلص من حياة سيئة واستبدال حياة أخرى بها في الدنيا أو الآخرة.. وكل هذا يلعب «داعش» على أوتاره بقوة.
ثم تقول شاهين: «لكن تنظيم داعش ليس وحده الذي لديه عوامل جذب، لأن على الجانب الآخر هناك عوامل دفع تدفع هؤلاء الشباب إلى الانضمام لـ(داعش)، ومنها الجهل الديني، وضعف انتشار التعليم الديني في الدول الغربية، ومحاربة التعليم الديني والحط من شأنه وقدر القائمين عليه في الدول الشرقية، فضلاً عن شبه انعدام تناول موضوعات دينية بعينها في التعليم الديني، وكذلك من خلال وسائل الإعلام، وتلك هي الموضوعات الأساسية التي يعتمد عليها التنظيم في بناء دولته المزعومة، مثل مواضيع (الخلافة والإمامة والجهاد والجزية ومعاملة أهل الذمة والجواري والعبيد)، رغم أن هذه المواضيع جرى حذفها حتى من المناهج الدينية في التعليم الديني، بحجة أننا لسنا بحاجة لها الآن، لكنها أساسية في المنهج الداعشي».
وتضيف شاهين: «إذا كان (داعش) يلجأ إلى الغرب اليوم، فإن شباب الشرق المتعلم هو الذي سيسعى إلى (داعش) اليوم وغدًا، إذا لم نغير سياستنا في التعليم والتعامل، فلا بد من اتباع سياسة الاحتواء والتمكين للشباب والاستماع لهم، والأهم من الاستماع، العمل بأفكارهم وإشراكهم في نهضة أوطانهم بدلاً من سياسة التهميش والتخويف والتخوين لكل ناقد». ثم تستطرد: «لا بأس في تدريس هذه المواضيع وإدراجها ضمن المناهج الدراسية الدينية في التعليم الديني والمدني وبيان وجه الحق فيها، ولكن شرط أن يقوم على تدريسها ذوو الكفاءة من المتخصصين. وإذا كان (داعش) نظامًا هشًا وضعيفًا، فإنه يقوي نفسه بالعلم والعلماء، ويجعل لهم دورًا محوريا في بناء (الدولة) المزعومة التي يسعى إلى تكوينها، وإن لم نحصن شبابنا ونعلمهم تعليمًا دينيًا قويًا فلن تسرنا النتائج التي سنجني ثمرتها».

مطالب نفسية ودينية
وحول لماذا يلجأ المتعلمون لـ«داعش»، أوضحت الأكاديمية المصرية أن التنظيم يلبي لهم مطالب نفسية وعلمية لديهم قصور فيها، فهؤلاء وإن كان لديهم علم دنيوي ولديهم وظائف هامة، فإنهم يعانون من الجهل بالعلوم الدينية، وهي المدخل الذي يستغله «داعش» في التأثير عليهم، وتمثل أهم عوامل الجذب للتنظيم، ومن خلال المعلومات الدينية المحرفة والموجهة لتحقيق مصالح وأهداف «داعش» يستطيعون أن يؤثروا على هؤلاء، وبالتالي يجدون ضالتهم المنشودة في العلم الديني والعمل به، حسب توجيهات معلميهم.

احتواء ديني واجتماعي واقتصادي
من جانبه، بقول الدكتور محمود الصاوي، وكيل كلية الدعوة بالعاصمة المصرية القاهرة، إن «ما جاء في تقرير البنك الدولي يقودنا لموضوع الاحتواء الذي أشار إليه التقرير بأنواعه الثلاثة؛ الديني والاقتصادي والاجتماعي، فقضية الاحتواء، بالغة الأهمية في كل الأحوال، سواء كان الاحتواء أسريًا، وهو أن تحيط الأسرة الأبناء بعنايتها واهتمامها، وأن تحافظ على عقولهم كما تحافظ على أبدانهم، وأن تنمي مختلف جوانب شخصياتهم لترتقي بهم نحو الكمال، ويقتصر البعض على الاحتواء المادي فقط، وهذا أحد مصادر الخطر على شباب العصر، فالاحتواء المعنوي أشد أثرًا من الاحتواء المادي الذي يقتصر على تلبية الحاجات المادية فقط، بينما المعنوي يشمل الصبر على الشاب أو الفتاة واستيعاب عيوبهم وتربيتهم على قبول الآخر بكل ما فيه من محاسن ومساوئ».
ويتابع الصاوي: «أما الاحتواء الديني يكون عن طريق تجديد الخطاب الديني ليواكب أحداث العصر ومشكلاته، ويجيب على تساؤلات شبابه ولا ينفصل عنهم ولا يتركهم فريسة لتيارات ومذاهب وأفكار غالية ومتشددة أو متسيبة تلعب بعقولهم وتدغدغ مشاعرهم، وأن يجدد الخطاب الديني من آلياته ووسائله ويخرج من جدران المساجد إلى ساحات النوادي ومراكز الشباب وكل المواقع والمنتديات بلغة جذابة وأفق واسع مستنير».

مزاعم «الخلافة»
أما الدكتور علي محمد، وهو أستاذ جامعي مصري، فيرى أن «(داعش) يخدع هذه الفئة للانضمام إليه بحجة إرساء الشريعة وتطبيقها، وأن البيعة منعقدة لهذا التنظيم دون غيره، ولا شك أن هذا يؤدي إلى إيهام أغلب المثقفين والمتعلمين بوهم إقامة (الخلافة) – المزعومة -، ويقومون ببث هذه الفتنة عبر وسائل التواصل (فيسبوك) و(تويتر) وغيرها». ويردف: «ذلك يجعل أفراد هذا التنظيم يتعرفون على المثقفين والمتعلمين من هذه المواقع التي تكون رواجًا لهم بسهولة ويسر، وهي أدعى في التفاعل من غيرها، وهناك أشخاص لديهم مهارات التواصل يتم تجنيدهم عن طريق هذه الغاية الكاذبة، بل يضعون لهم بوقًا من الكذب، فيقولون إننا نحارب تحت راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وللأسف تجد تجاوبًا غير عادي لهذه الشعارات الكاذبة، منها وهم إقامة (الخلافة)، وأيضًا الاستشهاد في سبيل الله، والعمل قضاة شرعيين، وأيضًا بعض الشباب يريد خوض التجربة، وكذا صرخات ونعرات التنظيم الكاذبة بتحرير المسجد الأقصى». ويوضح محمد أن سبب استقطاب هؤلاء أيضًا هو «العمل على استغلالهم فيما يتعلق بالتقنيات الحديثة، واختراق كثير من مواقع الحكومات الاستخباراتية، والعمل على ترجمة كثير من المقالات والكتب التي تصدر عن التنظيم، والتي ترد عليه بعدة لغات». ثم يستطرد: «قد يكون هذا الصنف من المتعلمين سببًا رئيسيًا في ضرب هذا التنظيم، وذلك لأن التنظيم الداعشي لا يبالي بمن ينضم إلى صفوفه، فلا يبحث عن هوية ولا عن جنس ولا بلد، فقد جمع (داعش) بين مقاتليه أصنافًا، منهم المتطرف ومنهم الأجنبي الذي لا يعلم عن الإسلام إلا اسمه فقط، ومنهم الباحث عن المال الهارب من السجون، وبذلك فإن هؤلاء الفرقاء تتبلور لديهم فكرة التطرف عن طريق الغلو الفكري والتطرف العقدي، فيكون أشد حالاً من حال (خوارج العصر).. ومن ثم فإن هذا الأمر قد يكون سببًا في زوال التنظيم».

مستويات التعليم
وفي السياق ذاته، تقول الأستاذة الجامعية الدكتورة عزة سيد، إن التنظيم «جمع بين شتات المراهقين من الأجانب وغيرهم. وهذا يدل على معطيات يمكن الاقتصار على بعضها أنه تنظيم مخترق من الداخل، وخصوصًا أن كثيرًا من الأجانب لا دخل لهم بمعرفة معتقد التنظيم من نحو إقامة (الخلافة) كما يدّعون أو محاربة غير المسلمين، بل هذا يدل على مدى ارتباط التنظيم الداعشي بالدول الغربية التي من شأنها تمزيق أوصال الدول العربية». وتزيد موضحة أن انضمام شباب لديه أموال كثيرة، وفقًا لتقرير البنك الدولي إلى «داعش»، «يدل على حرص هؤلاء الأجانب على الإنفاق للتخريب والعمل على إبادة المسلمين هناك، مما يدل على خيانة هذا التنظيم وإفساده، وبيان معتقد هؤلاء الفاسدين. وبالفعل هذا الأمر له أثر سلبي للقضاء على هذا التنظيم، خصوصًا أنهم انتهجوا سياسة التطرف والإرهاب، فقد يقتل بعضهم بعضًا من أجل الصدارة، وأيضًا من أجل الخلاف على أمور فيما بينهم، وقد ينشب الانشقاق كما حدث آنفًا مع تنظيم القاعدة الذي من رحمه خرج (داعش)».

الإرهاب والتعليم
أخيرًا، يقول الدكتور الصاوي وكيل كلية الدعوة بالقاهرة، في سياق التعليق على نسب التعليم في صفوف «داعش»: «يجب أن نتحدث عن مسألتين؛ الأولى (العلاقة بين الإرهاب والتعليم)، والثانية (العلاقة بين الإرهاب والفقر)، أما عن المسألة الأولى، فالحقيقة والواقع أنه ليس ثمة ارتباط بين مستوى التعليم والانضمام إلى صفوف هذه التيارات، خصوصًا (داعش). بل بالنظرة المجردة نجد أن منهم المهندسين والأطباء والمحامين ورجال القانون، ولعل وجود أسامة بن لادن وأيمن الظواهري مثلاً على رأس تنظيم القاعدة، الأول مهندس والثاني طبيب، ينسف هذه المقولة من أساسها أن هناك ارتباطًا بين الجهل وبين الإرهاب. لكنني أشير إلى أن معظم أعضاء هذه الجماعات ممن تلقوا تعليمًا مدنيًا لا علاقة له بالدراسات الشرعية من قريب ولا من بعيد. فالجرعات الدينية الموثقة والصحيحة التي حصلوا عليها في مدارسهم وجامعاتهم لا تسمن ولا تغني من جوع، بل إنها غير موجودة بالمرة في حالة الأجانب القادمين من خارج العالم الإسلامي أو إنها موجودة بنكهة استشراقية، وبذلك فهم لم يتلقوا معلومات صحيحة ومعتمدة عن الإسلام، فكانوا فريسة سهلة لهذه الجماعات الإرهابية التي أشعلت حماستهم وألهبت عواطفهم بمعلومات مغلوطة ومشوهة»، مشيرًا إلى أن ذلك أوجد «حالة من الهشاشة المفرطة في الثقافة الدينية لدى هؤلاء الشباب نتيجة لعدم تحصنهم بالثقافة الإسلامية الصحيحة، وها هي الأمة تدفع الثمن من فلذات أكبادها، الذين تلقفتهم هذه الجماعات مستغلة جهلهم الديني وعدم تحصينهم وضعف مناعتهم الدينية، فكانوا فريسة سهلة لتلك للجماعات. أما عن المسألة الثانية وهي (الإرهاب والفقر)، فإن الجهة منفكة بين الاثنين، وليست العلاقة بينهما حتمية وضرورية، فليس كل فقير إرهابيًا وليس كل غني مستقيمًا، فإن كان للفقر ثقافته فإن للغنى ثقافته كذلك، والإسلام يعلن الحرب على الفقر ويعتبره شرًا يستعيذ المسلم منه، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر)، لكنه يربي المسلم في ذات الوقت على ألا يستسلم لواقعه، وأن يبذل أسبابه في الانتقال من حال الفقر وإزالة أسبابه، والسعي في الأرض لتحصيل أسباب الرزق والمعاش».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.