بين عودة المالكي وبقاء الأسد.. الموصل ليست نهاية «داعش»

صحوة التنظيم الإرهابي و«دولته» ثم إعلان «خلافته» المزعومة جزء من تداعيات الأزمة السورية

رايات الحشد الشعبي تتصدر عملية تحرير الموصل ({الشرق الأوسط})
رايات الحشد الشعبي تتصدر عملية تحرير الموصل ({الشرق الأوسط})
TT

بين عودة المالكي وبقاء الأسد.. الموصل ليست نهاية «داعش»

رايات الحشد الشعبي تتصدر عملية تحرير الموصل ({الشرق الأوسط})
رايات الحشد الشعبي تتصدر عملية تحرير الموصل ({الشرق الأوسط})

بدأت عملية تحرير الموصل من قبضة «داعش» يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، بعد مرور ما يزيد على العامين من سقوطها بأيديهم صيدا سهلا، في أعقاب فرار قوات رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، في 9 و10 يونيو (حزيران) 2014.
إلا أن هذه المعركة تظل صعبة بكل المقاييس، ولا يمكن الجزم سريعا بأنها نهاية أبدية لـ«داعش»، رغم الإصرار الدولي والإقليمي والوطني على ضرورتها وتصويرها كذلك. وذلك، لعدد من العوامل والأسباب، بعضها متعلق بسياقات المعركة وبعضها متعلق بأطرافها، أما السياسات فقد بقيت نفس السياسات، وفشلت عملية الإصلاح وصناعة الإجماع العراقي والوطني، وما زالت الخلافات والاختلافات بين أجندات الأفرقاء، من حكومة أربيل إلى حكومة بغداد وصولا إلى الشركاء الإقليميين والدوليين.
يجمع الخبراء الاستراتيجيون والمحللون السياسيون على أن الجانب الأخطر في سياق الحرب على تنظيم داعش الإرهابي المتطرف هو بقاء «الحاضنة» المساعدة على نموه من جديد، وبالأخص أنه سبق أن اندثرت «دولة» أعلنها تنظيم القاعدة في العراق من قبل، تحديدًا عام 2007، ولكنها عادت «أكثر من دولة» عند سقوط الموصل قبل سنتين، فهدمت منذ ذلك علامات حدود استقرت قبل نحو 100 عام بين سوريا والعراق. وسنحاول قراءة بعض هذه العوامل فيما يلي:

تكتيكات التنظيم
أولا: التكتيكات الجديدة لـ«داعش»: يستخدم «داعش» تكتيكات جديدة نسبيًا لصد القوات المستهدفة له في الموصل، ولئن كانت أغلب هذه التكتيكات قد سبق استخدامها من قبل التنظيم عام 2015 إلا أنها تظل مواضع صعوبة في هزيمته ويمكن تحديدها فيما يلي:
1 - هجمات مباغتة بعيدا عن الموصل: مثل الهجمات غير المتوقعة كتلك التي حدثت في كركوك يوم 21 أكتوبر الحالي، ونفذها ما لا يقل عن 40 انتحاريًا داعشيًا، عاونتهم كثير من الخلايا النائمة للتنظيم في كركوك، وقد حاولوا السيطرة على المدينة الواقعة تحت السيطرة الكردية، ومهاجمة مقر الحكومة والإدارة العليا للأمن وعدد من أقسام الشرطة، وقد راح ضحيته ما لا يقل عن 90 عنصرا كرديا على الأقل. ويعد التفجير الأضخم والأبعد أثرا الذي يستهدف فيه «داعش» المدينة منذ يناير (كانون الثاني) 2015 حسب دراسة أخيرة لـ«معهد دراسات الحرب» الأميركي، وقد حذر فيها المعهد ميليشيا البيشمركة الكردية والقوات الحكومية العراقية من عدم توقع هجوم مباغت من الخلف للعناصر الداعشية على كركوك. ولعله سبب مبطن لتأكيد رئيس إقليم «كردستان العراق» مسعود بارزاني، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس «التحالف الوطني» عمار الحكيم أن قواته لن تشارك في اقتحام المدينة.
2 - أساطيل السيارات المفخخة: وقد استخدمه «داعش» في مداهمة القوات العراقية والبيشمركة عند قرية باطنايا بشمال الموصل وعند مدينة بعشيقة بشمال شرقي الموصل، يومي 21 و21 أكتوبر الماضي، وكذلك في بلدة برطلة التي تتمركز فيها قوات مكافحة الإرهاب الأميركية، بشرق الموصل، مما أعاق تحرك القوات العراقية والبيشمركة وأربكها. ومن الاستراتيجيات الجديدة نسبيا الإكثار من الأنفاق والدروع البشرية داخل قرى ومدن شمال الموصل.
3 - طبيعة ومشاركة «الحشد الشعبي»:
أكدت ميليشيا «الحشد الشعبي» التي تمثل الهيئة الجامعة للميليشيات الطائفية الشيعية، وتضم عشرات الآلاف من المقاتلين المبايعين للولي الفقيه في إيران، مشاركتها يوم 28 أكتوبر الحالي. وتنشر مواقعها بصفة مستمرة مشاركاتها، وللعلم، كثير من فصائل «الحشد» المكونة متهمة سابقا في أعمال العنف والتمييز الطائفي ضد السنّة في العراق في الموصل والأنبار على السواء إبان عهد رئيس الحكومة السابق نوري المالكي. كذلك اتهمت بعض فصائل «الحشد» مثل لواء «عصائب أهل الحق» - رغم إنكاره - بممارسة أعمال عنف ضد مدنيين في ديالى أثناء صلواتهم في مساجدها أكثر من مرة عامي 2015، مما يجعل بعض المراقبين يرى أن ديالى قد تكون معركة أصعب من الموصل نفسها. ويشتهر قادة «الحشد» الكبار بأنهم رموز تاريخية في الثورة الإيرانية، وأعضاء تاريخيون في الحرس الثوري الإيراني، ونكتفي بذكر ثلاثة منهم هم:
- أبو مهدي المهندس، واسمه الحقيقي جمال جعفر محمد آل إبراهيم، نائب قائد «الحشد الشعبي» المطلوب للقضاءين الكويتي والأميركي، في محاولة تفجير السفارة الكويتية في بغداد في 10 يوليو (تموز) 2005 في تفجير السفارة الأميركية في بيروت يوم 12 ديسمبر (كانون الأول) 1983 وأيضًا مطلوب للشرطة الدولية (الإنتربول)، ومتهم في تفجير السفارتين الأميركية والفرنسية في الكويت خلال ديسمبر 1983، مما أسفر حينها عن مقتل ستة أشخاص وإصابة 80 آخرين من بينهم رعايا غربيون.
- هادي العامري، وزير النقل السابق في حكومة المالكي وقائد «الحشد الشعبي» ومنظمة بدر. واسمه بالكامل هادي فرحان عبد الله العامري الملقب بـ(أبو حسن العامري) من مواليد 1954 في محافظة ديالى زوجته إيرانية وأبناؤه يعيشون في إيران، وبالذات في منطقة لسكن قادة فيلق القدس وظل يعيش بها إلى ما قبل الاحتلال وإلى حين عودته إلى العراق في عام 2003. ولا ينكر العامري في تصريحاته وأحاديثه ارتباطه بإيران، بل يؤكد ذلك ويعتز به. وفي عام 2006 وبأمر من فيلق القدس نظم شبكات عمليات اغتيال ضد القوات الأميركية، كذلك اشتهر العامري بتقبيله يد المرشد الإيراني على خامنئي، حين كان يعمل وزيرا للنقل في حكومة المالكي أثناء مؤتمر «المجمع العالمي لأهل البيت» في مدينة مشهد يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2011.
- قيس الخزعلي: الخزعلي هو زعيم «عصائب أهل الحق» التي أسسها مع عبد الهادي الدراجي وأكرم الكعبي، وفي يوليو 2006 تم تأسيس عصائب أهل الحق وانفصلت كلية عن الصدر و«جيش المهدي» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008. ويبدو أن محاولة الصدر لثني «عصائب أهل الحق» عن المشاركة في تحرير الموصل لم تجد أثرا، بعد اجتماعه بهم في بغداد قبل أيام. ويذكر أن فرعا لـ«عصائب أهل الحق» يقاتل في سوريا، وتحديدا في حلب مع بقايا نظام الأسد ونصرائه، يسمى «لواء حيدر الكرّار» يقوده أكرم الكعبي. ولقد سبق اتهام «عصائب أهل الحق» تحديدا بارتكاب جرائم حرب في ديالى عبر استهداف مدنيين العام الماضي كما سبق أن ذكرنا.

سياقات أزمة سوريا
ثانيًا: بقاء سياقات الأزمة من العراق لسوريا: إن بقاء الأسباب والروافد التي صنعت للعالم وللعراق وسوريا أزمة «داعش»، التنظيم الأخطر في العالم، حسب تصريحات الأمم المتحدة، لا يمكن أن تكون جزءا من حلها، وأسباب زواله بعد ذلك. ولا شك أن أقوى ما يتقوى به «داعش» استمرار نفس الأسباب والسياقات والظروف، فقد عاد المالكي وظل الأسد، ويشتعل خطاب التأجيج الطائفي ضد المواطنين السنّة الذين سبق أن اتخذ «داعش» بعضهم حاضنة له قبل بناء «دولته» المزعومة عام 2006 فيما عرف بـ«حلف المطيّبين»، أو في «صحوته» الجديدة في العراق عام 2013 بعد يوم واحد من فض اعتصامات الأنبار بالقوة. وقد ظهر حينها «أبو محمد العدناني» المتحدث الرسمي باسم «داعش» والمقتول في 30 أغسطس (آب) الماضي داعيا أهل الأنبار للتخلص من قمع المالكي والنظام الإيراني المعادي لهم وداعيا إياهم لاحتضان تنظيمه من جديد.
ولعل كون عدد من قيادات «داعش» العراقيين من أبناء العشائر التي سبق أن تعرضت لاضطهاد المالكي يؤكد هذا الاحتمال، وهذا رغم أن كثرتها ضد «داعش» - سابقًا ولاحقًا - وكون بعض أبنائها الصحوات التي قضت على دولتها الأولى في الأنبار عام 2007، وتعرضت لاستهدافات «القاعدة» و«داعش» في العراق أكثر من مرة مثل البونمر والبوجبارة والبوعلوان وغيرهم.

عودة المالكي وبقاء الأسد
تتقد اللغة الطائفية المثيرة لسنّة العراق وغيرهم معا في تصريحات أمثال نوري المالكي نفسه، الذي صرح يوم السبت 23 أكتوبر الحالي في مؤتمر ما يسمى «الصحوة الإسلامية في العراق» وجه فيه الشكر للمرشد الإيراني على خامنئي، رابطا الحرب من أجل تحرير الموصل ونينوى العراقيتين وبين ما يراه تحريرا في الرقة السورية واليمن، حيث قال: «إن عمليات (قادمون يا نينوى) تعني في وجهها الآخر (قادمون يا رقة) (قادمون يا حلب) (قادمون يا يمن) قادمون في كل المناطق التي يقاتل فيها المسلمون».
وهو ما يذكرنا - نصا ومضمونا - بما سبق أن صرح به مسؤولون آخرون، مثل مندوب مدينة طهران في البرلمان الإيراني، علي رضا زاكاني، المقرب من المرشد الإيراني، الذي صرح يوم 22 سبتمبر 2014 بدء الانقلاب الحوثي على الحكومة الشرعية في اليمن، واحتلال العاصمة صنعاء، مع أن العاصمة اليمنية صنعاء أصبحت العاصمة العربية الرابعة التابعة لإيران بعد كل من بيروت ودمشق وبغداد، مبينًا أن ثورة الحوثيين في اليمن هي امتداد لثورة الخميني. وأضاف زاكاني خلال حديثه أمام أعضاء البرلمان الإيراني حينها، أن إيران تمر بمرحلة «الجهاد الأكبر»، منوها أن هذه المرحلة تتطلب سياسة خاصة، وتعاملا حذرا من الممكن أن تترتب عليه عواقب كثيرة.
كانت صحوة «داعش» و«دولته» ثم إعلان «خلافته» المزعومة جزءا من تداعيات الأزمة السورية بعدما عسكرها وطوأفها نظام بشار الأسد وأنصاره في إيران. إذ برر استدعاء الأسد وملالي طهران لنصرات شيعية طائفية ضد شعب سوريا بدأها حزب الله اللبناني ثم الميليشيات العراقية الموالية لإيران ثم الأفغانية (من الهزارة الشيعة) التي أسست لواء «فاطميون» وغيرها كثير، لدخول التنظيمات السنّية المتطرفة على الخط واعتبارها حربا «جهادية» لا ثورة مدنية.
ولا شك أن استمرار وبقاء الأسد، ونسف فرص الحل السياسي وفق «جنيف 1» يبقي الفرصة لهؤلاء قائمة، رغم أي تراجع للاستنفار وللاستثمار في الأزمة السورية بعموم.. إذ يعني كفر الأسد بالحل السياسي وإعدامه وهو ما يؤكد إذ ذاك قناعات تنظيم داعش وأخواته أن المواجهة في سوريا حرب طائفية ودينية، وأنهم على حق حين يكفرون بكل مقولات السياسة وأدواتها كذلك.
ومن ثم، فإن بقاء أسباب الأزمة وروافدها يعني استمرارها وتناميها سوريًا وعراقيًا. وكما تحرك الدواعش حين سيطروا على الموصل من سوريا للعراق فجأة قد يتحركون ثانية أو العكس.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.