الإمبراطور يتجرع السم ودموع الـ 24 رجلاً في الـ 24 ساعة في ملجأ تحت الأرض

أطول يوم في تاريخ اليابان (3 - 3)

اليابانيون يستمعون إلى صوت إمبراطورهم لأول مرة في الراديو معلنا استسلام اليابان
اليابانيون يستمعون إلى صوت إمبراطورهم لأول مرة في الراديو معلنا استسلام اليابان
TT

الإمبراطور يتجرع السم ودموع الـ 24 رجلاً في الـ 24 ساعة في ملجأ تحت الأرض

اليابانيون يستمعون إلى صوت إمبراطورهم لأول مرة في الراديو معلنا استسلام اليابان
اليابانيون يستمعون إلى صوت إمبراطورهم لأول مرة في الراديو معلنا استسلام اليابان

حتى بعد قصف هيروشيما وناغازاكي، وسقوط منشوريا بأيدي السوفيات، كما رأينا في الحلقتين السابقتين من هذا الكتاب، ظل قطاع كبير من جهاز القوات المسلحة مؤمنًا، بلا أي أساس مادي، بأن اليابان لا تزال قادرة على الدفاع عن نفسها، وإنها لم تفقد الحرب بعد، بينما دعا قسم من المسؤولين في الحكومة اليابانية بقبول شروط الحلفاء بالاستسلام مقابل شرط واحد: صيانة البيت الإمبراطوري.
ونتيجة هذا الاختلاف لم يتوصل مجلس الستة الكبار، الذي كان أيضًا بدوره منقسمًا، إلى اتخاذ قرار حاسم، بينما كان الرئيس الأميركي ترومان يهدد بتدمير اليابان نهائيا في حال عدم استسلامها غير المشروط.
في هذه الحلقة، وهي الأخيرة، متابعة لما جرى في ذلك اليوم، أطول يوم في تاريخ اليابان.
قال الجنرال أنامي، ملخصًا النقاش من الجانب الآخر: «لا يمكننا التمثيل، الحصول على النصر أمر مؤكد، لكن من السابق لأوانه القول خُسرتْ. لأننا سنوقع هزائم مؤلمة بالعدو عندما يغزو اليابان، هذا أيضًا مؤكد، لذلك فإن القول باستحالة عكس الموقف لصالحنا وانتزاع النصر من هذه الهزيمة قول لا معنى له».
«أكثر من ذلك..» استمر أنامي بالكلام: «جيشنا لن يستسلم للتسريح، رجالنا ببساطة لن يلقوا سلاحهم، إذ طالما تعلموا أن الاستسلام غير مقبول، وطالما تعلموا أن الرجل المقاتل الذي يستسلم يقع عليه عقاب شديد جدًا، إذن في الحقيقة ليس لنا خيار إلاّ مواصلة الحرب».
«نعم، نعم!» صرخ أنامي بنفاد صبر: «كل واحد يتفهم الموقف... لكن علينا الاستمرار في الحرب حتى النهاية، بغض النظر عن حجم الاستهجان ضدنا!». هنا أدلى وزير الداخلية جنكي آبي بأول ملاحظة، حين قال إنه لا يستطيع الوعد بامتثال المدنيين، إذا قررت الحكومة إنهاء الحرب بمعاهدة سلام، مذكّرًا بحادث العصيان الذي قام به بعض الضباط الشبان في 26 فبراير (شباط) عام 1936، عندما قادوا ما يقارب الألفي جندي، مما أدى إلى خسائر كثيرة في الأرواح، إضافة إلى محاولة قتل رئيس الوزراء، وجرح وزير الخزانة، وكاتم أسرار الإمبراطور. كان الثوار قد احتلوا وزارة الحرب، ومقر بوليس الإمبراطور، ومقر إقامة رئيس الوزراء قبل أن يضطر الإمبراطور نفسه إلى التدخل، آمرًا وزير الحرب باتخاذ الإجراءات اللازمة، مسترجعًا تفاصيل ذلك العصيان الذي جرى قبل أقل من عقد مضى، نصح جنكي آبي بالوقوف ضد فكرة قبول إعلان بوتسدام.
كان الوقت يتسرب من أيدي الجميع، ولا يوجد شك في أن شخصًا واحدًا يستطيع ترتيب الوضع.
كان الوضع محفوفًا بالمخاطر، كلٌ من سوزوكي وتوكو أجريا نقاشًا في وقت متأخر من الليلة الماضية، كانا واعيين للخطر. إذا كان الموقف على هذه الدرجة من الخطورة، فإذن ستكون الحركة الخاطئة بمثابة كارثة.
كان الجيش هو الحجر الأقوى وغير المتوقع في هذه اللعبة. الحجر الذي ظلّ على مدى سنوات لا يخضع لأي قاعدة إلاّ نفسه. إذا لم يحصل الجيش على ما يريد، فسيكون مستعدًا للجوء إلى الاغتيالات، أو حتى اللجوء إلى ثورة عارمة، ودائمًا خلف تلك الحجة (التي تجد قبولاً عاطفيًا) حماية الإمبراطور من حاشيته الخونة. كانت لدى كل من سوزوكي وتوكو مخاوف عميقة ومبررة من أن العنف هو الذي يمنع التوقيع على الاتفاقية التي تمثل، برأيهم، الإنقاذ الوحيد لليابان.
لدى وصولهم إلى القصر في تلك الليلة، استقبلهم الإمبراطور لحظة وصولهم، سأل سوزوكي وزير الخارجية توكو أن يخبر الإمبراطور عن الاجتماعين اللذين لم يخرجا بأي نتيجة، بعد ذلك اقترح سوزوكي أن على المجلس الأعلى للحرب أن يعقد جلسة جديدة هذه الليلة بحضور الإمبراطور. كان الإمبراطور مهيَّأً لهذا الاقتراح، فأعطى موافقته على الفور. في اللحظة ذاتها طلب سوزوكي إقناع المجلس الأعلى للحرب ومجلس الوزراء لعقد الاجتماع. خلال ذلك، وبعد مغادرة الوزيرين استقبل الإمبراطور الماركيز كيدو كاتم السرّ، باختصار: كانت هذه المقابلة السادسة مع كاتم السرّ في ذلك الخميس التاسع من أغسطس (آب). إذا كان وزراؤه، أخيرًا، قد استيقظوا من سباتهم، وقرروا التحرك، فعلى الإمبراطور أن لا يتلكأ.
كان الرجل الذي استدعاه القدر لإنقاذ بلده لطيفًا، خجولاً إلى أبعد حد، قصيرًا ممتلئًا، في الرابعة والأربعين من العمر، منذ تتويجه عام 1928 كان يعيش حياة متوحدة كما يتوقع منه رعاياه. علاقته بالشعب تختلف عن علاقة أي عرش آخر بشعبه: كان يكفي بالنسبة لشعبه أن يكون موجودًا. إنه هناك، يجسّد في قدسيته هذا الوجود العظيم الذي يدعى اليابان. من دونه، أو من دون ورثته، لا يوجد أي يابان.
كانت حياة الإمبراطور دائمًا بسيطة، ومنذ بداية الحرب أصبحت أكثر بساطة وتقشفًا، حتى إن أفقر رعاياه لا يحسده عليها، وهو عادةً يستيقظ في السابعة، يحلق، ثم يقرأ الصحف. بعد الصلاة في الكاشيكودوكورو، وفي الكوريدين، والشيندين، يتناول إفطارًا بسيطًا من الخبز الأسمر وعصيدة الشوفان، وفي العادة يبدأ العمل من الساعة التاسعة والنصف حتى الظهر، ثم يتناول غداءه المكوّن من خضار مطبوخ وحساء. بعد ذلك يعود إلى العمل وينهي يومه بالتمشي قليلاً في الحديقة الداخلية. وهو لا يدخن ولا يشرب الكحول وينام بمعدة خفيفة.
الآن فُتح الباب بهدوء، وبمصاحبة أعوانه دخل الإمبراطور إلى الملجأ الصغير حيث، قبل أن يمرّ الليل فإن مصير بلده قد أودع بين يديه.
الساعة 11:50 أنحنى أعضاء المجلس الذين كانوا ينتظرون منذ الساعة الـ11:30 مع أعوانهم، ثم جلسوا في مقاعدهم مع اثنين من الضيوف المدعوين، وحولوا أنظارهم بعيدًا عن الإمبراطور احترامًا. مظهر الإمبراطور أوحى لهم بأنه كان متعجلاً، وفي الحقيقة لو أن آخر مقابلة له مع الماركيز كيدو لم تنته إلاّ الساعة 11:37، كما جاء في يوميات كيدو، فإن الإمبراطور لم يكن لديه متسع من الوقت للاستعداد لمواجهة أكثر الساعات إحراجًا في تاريخ بلده، وحياته الخاصة. بالإضافة إلى الكبار الستة وأعوانهم، حضر رجلان آخران، دُعيا من قبل رئيس الوزراء هما: سكرتير مجلس الوزراء ساكونيرو، والبارون هيرانوما رئيس سرّ المجلس.
تقع الغرفة التي عقد فيها الاجتماع في ملجأ تحت الأرض (30 × 18 قدمًا)، تهويتها سيئة، وتبدو مثل جحيم مصغّر بحرارة ليالي أغسطس، وكان أعضاء المجلس وضيوفهم يرتدون بدلات الصباح الرسمية أو الزي العسكري، والمناديل البيضاء استخدمت بكثرة، وبدت غريبة مع بدلاتهم ووجوههم الداكنة.
كان سقف الملجأ مدعومًا بعوارض حديدية، وجدرانه مغطاة بألواح خشبية قاتمة. جلس الرجال الأحد عشر خلف طاولة طويلة مغطاة، يواجه أحدهم الآخر، ستة في جانب وخمسة في الجانب الآخر، الرجل الثاني عشر (الإمبراطور) اتخذ مجلسه على كرسي بسيط بظهر مستقيم في رأس الغرفة، خلفه شاشة بسيطة، بينما جلس معاونه قرب الباب.
نهض سوزوكي الجالس على يسار الإمبراطور، ثم سأل سكرتير مجلس الوزراء أن يقرأ إعلان بوتسدام بصوت عال. حتى ولو لدقيقة واحدة في هذا الاجتماع، أو الاجتماعات التي عقدت لاحقًا خلال الأيام القليلة التي وقعت بها اليابان تحت محنة الاستسلام، فإن الكلمات الحقيقية التي قيلت في ذلك الاجتماع ضاعت في التاريخ، لأن ما حدث كان جزئيًا، ويقوم على إعادة تجميع شخصية من قبل رجال حضروا، ومن أولئك الموثوق بهم.
بعد قراءة الإعلان، كرر سوزوكي التقييم الذي قدمه للإمبراطور عن اللقاءات المحبطة السابقة، وقدم الاعتذار للإمبراطور على الطلب منه الحضور في هذا الاجتماع، الذي لم يتفق فيه وزراؤه بعد على قرار (لقد قيل أيضًا إن سوزوكي قدم اعتذارًا بطريقة غير مباشرة لرئيسي الأركان على استخدام توقيعيهما في الطلب الذي قُدم للعرش لعقد الاجتماع بينما الآراء ما زالت منقسمة. الطبيعة الغريبة لهذا الاجتماع المنعقد في منتصف الليل جعلتهما غير مكترثين - لكن ما داما وقّعا الطلب، وما دام الإمبراطور أمر بعقد الاجتماع، لم يكن لديهما خيار غير تلبية الاستدعاء الإمبراطوري). لخّص سوزوكي الوقف كله في تلك اللحظة: المجلس الأعلى للحرب كان منقسمًا ثلاثة لثلاثة، بينما مجلس الوزراء، الذي يملك لوحده الصلاحية الدستورية للموافقة على استسلام اليابان كان منشقًا إلى ثلاثة أقسام (ستة أعضاء فضلوا قبول إعلان بوتسدام، بشرط واحد هو ضمان صيانة البيت الإمبراطوري، ثلاثة آخرون أصروا على الشروط الأربعة التي وضعها أنامي، بينما خمسة آخرين وضعوا شروطًا أخرى لكن أقل من الشروط الأربعة لجماعة مؤيدي الحرب).
دعا رئيس الوزراء وزير خارجيته توكو، فلخَّص توكو النقاش بإظهار ميله إلى الاستسلام، منهيًا الحديث بتوصية مهمة بأن على اليابان قبول إعلان بوتسدام دون أي تأخير، إذا أُعطيت ضمانات بصيانة الدولة الوطنية. بعدها استدار سوزوكي إلى وزير البحرية الصامت، فقال الأدميرال يوناي: «أتفق مع وزير الخارجية»، ثم عاد ليجلس في مقعده. وزير الحرب، الجنرال أنامي، قفز محتدًّا معبّرًا عن رفضه التام، قائلاً إنه يؤمن بأن على الأمة الاستمرار في القتال، لأن نتائج المعركة لن تظهر إلاّ بعد أن يُخاض القتال، وفي أي حال، إذا كان على اليابان أن تستسلم فعليها الإصرار على شروط هي: ضمان ليس فقط صيانة الكيان الإمبراطوري، إنما أيضًا حق اليابان في كيفية نزع سلاحها، وأن تقيم محاكمها الخاصة بالحرب، وتحدّد عدد قوات اليابان التي تحتل دولاً أخرى.
وافق الجنرال أوميزو، مضيفًا أن اليابان ما زالت أكثر من مجرد ندّ للعدو، والاستسلام غير المشروط سيكون مهينًا لشرف موت اليابانيين. وفي حالة الاستسلام، أصر أوميزو، كما فعل أنامي أيضًا، على الشروط السابقة. ثم جاء دور الأدميرال تويودا، رئيس أركان البحرية ليتحدث. لكن سوزوكي طلب البارون هيرانوما بدلاً عنه، وكان هيرانوما قد دُعي للاجتماع في محاولة لإشراك مجلس السرّ في متابعة النقاش، حيث من حقه دستوريًا المصادقة على الاتفاقيات الخارجية. هيرانوما أخضع الوزراء إلى سلسلة من الأسئلة الدقيقة الشاملة حول إخفاق العلاقة مع السوفيات، وعن الرجال الذين سيُصنفون كمجرمي حرب، وعن قدرة الأمة على حماية نفسها ضد الغارات وضد الغزو، وحول احتمال قيام عصيان في لحظة إعلان الاستسلام. ثم أنهى حديثه بالقول إنه إضافة إلى شروط صيانة سيادة الدولة الذي مرّ من دون نقاش، فليس من الضروري الحكم بالفشل على الشروط الثلاثة الأخرى.
أخيرًا أُعطي الأدميرال تويودا الفرصة للحديث، فكرر الجدل بتفضيل استمرار الحرب، خاتمًا بأنه لا يضمن ردّ فعل البحرية، ما لم يكن تسريحهم بواسطة اليابانيين أنفسهم.
مرّة أخرى نهض رئيس الوزراء ليقول: «هذا دليل على أننا غير قادرين على التوصل إلى اتفاق، وفي ضوء هذه الحقيقة، ومع هذا الموقف الطارئ، يبدو أنه علينا القيام بشيء واحد». ثم أدار رأسه باتجاه رأس الغرفة وقال: «إن قراركم يا صاحب الجلالة مطلوب، وما تقررونه سوف ينفذ، بين رأي وزير الخارجية، أو الشروط الأربعة».
كان الصمت مطبقًا في الغرفة الصغيرة الخانقة. يصعب القول كم من الرجال الأحد عشر الجالسين حول الطاولة الطويلة عرفوا أو خمنوا أن سوزوكي سيتخذ تلك الخطوة، لم يُسمع في تاريخ اليابان أن طُلب من الإمبراطور اتخاذ قرار ما، أو القول كم كانت الصدمة حتى النخاع بهذا الإجراء غير التقليدي.
في الأيام السابقة كانت البيانات الإمبراطورية الرسمية تسمى «صوت الغرنوق»، والغرنوق يمثل رمز الإمبراطورية، ويقال إن صوت الغرنوق يظل مسموعًا في السماء حتى لو حُجب عن الرؤية. بالنسبة للمجلس الأعلى للحرب، في الساعة الثانية من صباح الجمعة، العاشر من أغسطس 1945، كان صوت الغرنوق على وشك أن يُسمع مرة أخرى في الأرض.
قال الإمبراطور في هدوء: «استمرار الحرب يمكن أن يؤدي فقط إلى إبادة الشعب الياباني ويطيل المعاناة البشرية. يبدو واضحًا أن الأمّة لم تعد قادرة على تحمل الحرب، وقدرتها على الدفاع عن شواطئها مشكوك فيها. هذا لا يُطاق بالنسبة لي»، ثم أضاف: «أن أرى جنودي المخلصين منزوعي السلاح ذاهبين من دون قول.. لكن جاء الوقت لتحمل ما لا يُطاق تحمّله».
لم يعد الإمبراطور بحاجة لأن يضع قراره في صياغة معينة، مع ذلك، استمر في الهدوء ذاته، وبصوت ثابت قال: «أعطي موافقتي إلى جانب قبول إعلان الحلفاء على أساس الشروط التي طرحها وزير الخارجية». ثم غادر الغرفة ببطء.
في الصمت، عاودت المناديل البيضاء الظهور، ربما لمسح العرق الذي يتصبب في أغسطس بتلك الغرفة الصغيرة، أو ربما لمسح الدموع التي ترقرقت في أعين الرجال الذين أصبحوا ملزمين بمنح بلدهم للعدو.
«قرار صاحب الجلالة»، قال سوزوكي: «يجب أن يكون قرار الإجماع أيضًا». فاستمر الصمت.
على كل حال، الجهة الوحيدة التي تملك الصلاحية الدستورية في تنفيذ قرار الاستسلام هو مجلس الوزراء (مع أن موافقة مجلس السرّ كانت أيضًا مطلوبة، إلا أن هذا الأمر أثير لاحقًا).
غادر الأعضاء القصر إلى المقر الرسمي لرئيس الوزراء. المناقشات هنا تركّزت ليس حول قبول القرار الإمبراطوري - وليس ثمة شك في هذا على الرغم من معارضة وزير الداخلية - لكن لصياغة بيان الاستسلام، وفي غضون ثلاث ساعات كان البيان قد أُبرق إلى سويسرا والسويد لنقله من ثمَّ إلى قوى الحلفاء.
قال البيان تحديدًا: «إن الحكومة اليابانية مستعدة لقبول الشروط المذكورة في الإعلان الذي صدر في بوتسدام في 26 من يوليو (تموز) 1945، من قبل رؤساء حكومات الولايات المتحدة، بريطانيا العظمى، والصين، ولاحقًا بمشاركة حكومة الاتحاد السوفياتي، آخذين بالاعتبار أن البيان المذكور لا يشمل أي مطلب قد يكون مجحفًا بامتيازات صاحب الجلالة كحاكم مطلق».
ليلة اليابان الطويلة في 9 أغسطس انتهت أخيرًا، لكن اليوم الأطول لم يأتِ بعد.
في واشنطن، رغم أن الرئيس ترومان بدأ يفقد صبره، فقد قرر الوثوق بمؤشرات طوكيو على قبولها، واعتبر الأمر مسألة ساعات، وفي تعليماته للجنرال ماك آرثر قال ضمن عدة أشياء: «من لحظة الاستسلام، فإن صلاحية الإمبراطور والحكومة اليابانية في قيادة الدولة ستكون خاضعة لك، وستتخذ الخطوات التي تراها مناسبة لتنفيذ شروط الاستسلام».
في العاشرة والنصف من يوم الرابع عشر من أغسطس، كان أعضاء مجلس الوزراء وأعضاء المجلس الأعلى للحرب، وبعض الرجال الآخرين المهمين في الحكومة قد تجمعوا. كانوا قد أُخبروا أن لا يلبسوا الزي الرسمي، فكان البعض، حيث الطقس الحار والرطوبة العالية، قد استعار ربطات عنق وجاكيتات معاونيهم. كانت الغرفة تحت الأرض ليست فقط رطبة، بل مليئة بالعفن، والماء ينز من السلم المؤدي إليها. في الوقت المحدد وصل الإمبراطور، وبعد خمس وعشرين دقيقة صارت الغرفة مثل حمام بخار صغير.
كان الإمبراطور يرتدي زيًّا عسكريًا بسيطًا، سار مباشرةً نحو مقدمة الغرفة وجلس على كرسي بسيط بظهر قائم عند الطاولة الصغيرة المغطاة بشرشف مذهّب. وخلفه شاشة كبيرة لامعة.
سكرتير رئيس مجلس الوزراء ساكوميزو، ذكر لاحقًا أنه كان متخوفًا من أن رئيس الوزراء لن يكون قادرًا على المواصلة، إذ بدا غامضًا ذلك الصباح وغير مستعد للحديث، لكن مخاوف ساكوميزو كانت غير صحيحة، إذ قال سوزوكي بوضوح وبلاغة، إن «صاحب الجلالة قد دعا إلى عقد الاجتماع لمناقشة موضوع قبول ردّ الحلفاء». وأوضح نقاط الاختلاف في الرأي التي أدّت بالاجتماعات السابقة إلى طريق مغلق. ثم دعا أولئك الذين يخالفون الأغلبية بالرأي للتعبير عن رأيهم. تحدث أوميزو وأنامي باختصار، تويودا أخذ الفترة ذاتها، بدا واضحًا أنهم كلهم كانوا تحت تأثير الإجهاد والتعب. تويودا لم يتحدث بشكل جيد، لكنه كان يناقش بتعب وحزن مألوفين لكل الحاضرين.
عندما أنهى المنشقّون الثلاثة حديثهم، نهض رئيس الوزراء معتذرًا للإمبراطور عن انقسام مجلس الوزراء، وطلب منه مرة أخرى قرارًا إمبراطوريًا.
كان الصمت يسود الغرفة الصغيرة المزدحمة الناضحة بالعرق. الرجال الـ24 كانوا ينتظرون ليستمعوا للمرة الثانية صوت الغرنوق، الذي يدرك أنه بهذا سيضع نهايةً لعهد الموت والدمار الذي استمر لأربعة وأربعين شهرًا، وليأتي الآن وقت الحصاد معلناً : سقوط الإمبراطورية اليابانية.
الإدراك المتأخر لهذه الحقيقة التي عرفها البعض منذ البداية؛ أن اليابان أقل من أعدائها في المصادر الطبيعية، والطاقة الإنتاجية، والقوى البشرية، ليس لديها فعلاً الفرصة لكسب حرب اضطرت لخوضها. كانت فقط الرغبة الجماعية لشعبها هي التي ساقتها لخوضها إلى هذا الحد، الآن، يُؤمل، أن ذلك كان من أجل التركيز على اتجاه آخر، وهو: غسل وصمة الماضي بدموع الـ24 رجلاً المجتمعين في ذلك الملجأ تحت الأرض وهم يراقبون إمبراطورهم ينهض ويمسح وجهه بمنديل أبيض، قبل أن يبدأ حديثه التاريخي للشعب.
دموع الـ24 رجلاً في الـ24 ساعة، هي دموع البلد كله: 24 ساعة من أطول وأصعب، وربما الأكثر مرارة على الإطلاق في تاريخ اليابان الطويل.



جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
TT

جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)

قبل 15 عاماً، سُئل بنتسي نتنياهو، والد رئيس الوزراء الإسرائيلي، عن رأيه، في نجله. فأجاب: «إنه ليس بأهبل».

الصحافي الذي سأله يُدعى عميت سيجال، وهو من سلالة يمينية، يعمل مراسلاً سياسياً في «القناة 12»، التي كانت تُدعى «القناة الثانية». وسيجال يتفاخر بأنه من المعجبين برئيس حكومته نتنياهو. والغرض من سؤال الوالد، لم يكن المساس بشخص الابن بل بالعكس، فقد وجّه سيجال السؤال، لكي يفهم ما وراء التصريح الذي أدلى به نتنياهو الابن في جامعة «بار إيلان»، في سنة 2009، وأعرب فيه عن تأييده حل الدولتين.

وعليه، أجاب الوالد: «بيبي لا يؤيد حل الدولتين. لقد وضع شروطاً لا يمكن للعرب قبولها. وهذه بلاد اليهود ولا مكان للعرب فيها». وكانت الشروط أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل دولةً للشعب اليهودي، وتكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وأن تحل قضية اللاجئين خارج تخوم إسرائيل.

الخطاب جاء في ظروف معينة، تُذكّر بهذه الأيام. ففي حينه، باشر الرئيس باراك أوباما دورته الرئاسية الأولى، في 20 يناير (كانون الثاني)، وبعد شهرين، في نهاية مارس (آذار)، باشر نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية. وفي 18 مايو (أيار) استقبل أوباما نتنياهو في البيت الأبيض، وطلب منه وقف المستوطنات وتأييد حل الدولتين، «الذي لا حل سواه لإنهاء الصراع». وفي 4 يونيو (حزيران)، ألقى الرئيس الأميركي خطاباً في القاهرة، متوجهاً للعالم العربي والإسلامي، وفاتحاً صفحة جديدة في العلاقات الأميركية معهما. وبعد 10 أيام ألقى نتنياهو خطاب «بار إيلان».

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

قبل هذا الموعد بست سنوات، كان نتنياهو قد عُيّن وزيراً للمالية في حكومة أرئيل شارون، وقد سُئل والده عن مستقبل ابنه، وإن كان يصلح ليصبح رئيس وزراء؟ فأجاب: «كلا، إنه يصلح وزيراً للخارجية». ففي مفهومه، منصب وزير الخارجية يُلائم مَن يحب الكلام، ويجيد الخطابة، ويتمتع بحفلات الكوكتيل، ولا يحب العمل. ومن يعرف الابن أكثر من الوالد.

التسويق في البضائع والسياسة

المشكلة اليوم أن هذا الابن يقود دولة في مركز الأحداث في الشرق الأوسط والعالم، وأولئك الذين يتعاملون مع هذا الابن، هم رؤساء دول وملوك وقادة جيشه ومخابراته وبشر يتحكم بمصائرهم، وكلهم ذاقوا على جلودهم مرارة التجربة.

ومن الصعب أن تجد فيهم مَن يستطيع فك رموز شخصية بنيامين نتنياهو. فهو دائماً مفاجئ، وفي كثير من الأحيان صادم، لكن هناك شيئاً يتقنه جيداً. هو وضع مصالحه الشخصية فوق أي اعتبار؛ إذا أراد أمراً فلن يعيقه شيء عن الوصول إليه. وأهم أدواته في تحقيق أهدافه، إدارة التسويق.

كان نتنياهو قد بدأ حياته موظفاً في تسويق البضاعة بمحل لتجارة الأثاث في الولايات المتحدة، وأبدع في التقاط أسرار هذه المهنة. كان يعرض بضاعة أخشاب السويد على أنها أخشاب زان، ويبيع أشياء تصلح وأشياء لا تصلح.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متحدّثاً لأعضاء في الكونغرس الأميركي في يوليو 2024 (غيتي)

وإذا ما قرر صاحب المحل التخلُّص من بضاعة كاسدة، كلّف نتنياهو بالمهمة، فيروِّج لها الأخير كما لو أنها أفضل المنتجات. كان يكذب بتلقائية، ومن دون أن تظهر على وجهه أي علامة. كان يقبض ولا يدفع. المراوغة والاحتيال وخيانة الأمانة، كلها تمر على الزبائن بفضل قدرته العالية على الكلام، وقبل أن يُكتشف أمره، انتقل إلى العمل السياسي. عُين ممثلاً لإسرائيل في الأمم المتحدة، ثم نائباً لوزير الخارجية، ووزيراً للخارجية، ثم وزيراً للمالية، ثم رئيساً للوزراء، لفترة أطول من أي رئيس وزراء سابق له.

لقد حمل نتنياهو معه إلى السياسة كل صفاته في التسويق. المثل الصارخ على ذلك، هو ما يفعله اليوم في اختراعه معضلة «محور فيلادلفيا» لعرقلة صفقة تبادل الأسرى. قبل هذه المعضلة بواحد وثلاثين سنة، اخترع نتنياهو قصة أخرى بفضلها انتخب لرئاسة «الليكود»، ليُمهّد الطريق لرئاسة الحكومة. ففي الرابع عشر من يناير من سنة 1993، وعلى أثر هزيمة «الليكود»، بقيادة إسحق شامير، خاض نتنياهو انتخابات داخلية على منصب رئيس الحزب ومرشحه لرئاسة الحكومة، في مواجهة 3 مرشحين: دافيد ليفي، وبيني بيغن، وموشيه قصاب.

رجل يضع ملصقاً انتخابياً لإيهود باراك فوق صورة المرشح بنيامين نتنياهو في انتخابات 1999 (غيتي)

قبل 10 أيام من الانتخابات، طلب نتنياهو الوصول إلى استوديوهات القناة الرسمية الوحيدة للتلفزيون للكشف عن فضيحة كبرى، وهناك أعلن أنه كان على علاقة بامرأة أخرى خارج الزواج، وأن شخصية كبيرة في «الليكود»، محاطة بعصابة مجرمين، هددت بكشف شريط يوثق علاقته بها بشكل فاضح، إذا لم ينسحب من المنافسة. وألمح إلى أن هذه الشخصية هي المنافس الأساسي دافيد ليفي. وانقلبت المعركة الانتخابية وفقاً للأجندة التي فرضها. وبالنتيجة فاز على منافسيه الثلاثة بنسبة 52 في المائة.

وبالطريقة نفسها، لكن بمستوى أخطر، فاز برئاسة الحكومة، فقد أدار حملة تحريض دموية على إسحاق رابين، واتهمه بخيانة مصالح إسرائيل الأمنية عندما وقع على اتفاقيات «أوسلو»، فقرر شاب يميني متطرف اغتيال رابين. ورغم أن الاغتيال أحدث زلزالاً في السياسة الإسرائيلية، نجح نتنياهو في رئاسة الحكومة بعد أقل من سنة.

الناس زبائن تُحركهم نقاط ضعفهم

التسويق إذن هو الحمض النووي (DNA) في شخصية نتنياهو. يضع لنفسه هدفاً، ويبتدع أنجع الطرق لتسويقه. يقرأ خريطة الناس بصفتهم زبائن، يكتشف نقاط الضعف، وينفذ من خلالها كالسهم. قد تكون هذه الطرق قذرة، وقد تكون طافحة بالأكاذيب، وفائضة بالخدع، وقد تُكلف بلاده وشعبه وحتى حزبه ثمناً باهظاً، لكن المهم أنه يجد مَن يصفق له. وكيف يصفقون له: بنوعية الرسائل التي يبثها.

بنيامين نتنياهو معلناً عودته للحياة السياسية في 2000 بعد فوز إيهود باراك في 1999 (غيتي)

داني فيدوسلافسكي، المتخصص في سلوك الفرد، ويدير كلية لتعليم السياسيين كيف ينجحون في الوصول إلى قلوب الجماهير، أصدر كتاباً بعنوان: «أسرار التسويق عند بيبي». وهو يُعدّ أهم عنصر في نجاحه معرفته صياغة رسائل قصيرة وبسيطة للناس. ويقول: «ليس مهمّاً إن كانت هذه الرسائل صحيحة أو صادقة، بل المهم أن يعرف كيف تُصيب وجدان الجماهير، وتخترق دماغهم». يخاطب الناس بلغة نحن وهم، وعندما يقول نحن يقصد هو وهم. يتحدث عن خصومه: «يسار». وبعدما جعل من كلمة يسار لعنة، راح يلصقها بكل خصومه حتى داخل «الليكود».

ولكن، من كثرة ما بنى له من خصوم، أصبح واضحاً أنه لا يهتم بشيء بمقدار مصلحته الشخصية، فصار فناناً في تصفية كل مَن يعترض طريقه، وليس فقط من الخصوم. وبنى لنفسه قاعدة جماهيرية محدودة من اليمين، ذات تركيبة عجيبة. غالبيتهم من الفقراء، مع أن سياسته رأسمالية راديكالية. شرقيون مع أنه إشكنازي متعجرف. على طول طريقه السياسي، نجح في تحطيم الأحزاب التي تنافسه. في سنة 2009، كان ينافسه إيهود باراك. وباراك كان قائد نتنياهو في الجيش، وفي سنة 1999 هزمه في الانتخابات، وفاز برئاسة الحكومة. لكن نتنياهو أقنعه بدخول حكومته وزيراً للدفاع، وتسبب بذلك في تفسخ حزب «العمل» وانهياره، إلى أن اعتزل باراك السياسة. وفعل الأمر نفسه مع يائير لبيد، ومع بيني غانتس، ومع موشيه كحلون.

ومن كثرة نجاحاته هذه، اقتنع بأنه يتمتع بقدرات عالية فوق طبيعية.

ويُحكى أنه ذات مرة قال أمام مقربين منه: «احمدوا الله على أنه حباكم قائداً مثلي». وزوجته سارة تردد هذه الجملة باستمرار. وإذا أراد أن يكون متواضعاً، يُشبه نفسه بالقائد البريطاني ونستون تشرشل.

ولا يكتفي نتنياهو بأن يرى نفسه أو يراه أفراد عائلته والمقربون والمنافقون بهذا الشكل، بل يطالب العالم بأن يراه بهذا الشكل أيضاً، فهو يُعدّ نفسه قائداً عالمياً، تاريخياً، أرسله الله ليقود معركة الغرب كله بشكل صحيح، ولديه نصائح لجميع القادة الكبار في العالم. ذات مرة التقاه الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، وبعد انتهاء اللقاء قال أوباما لمساعديه: «من منا رئيس الدولة العظمى؟». ولكن الرئيس التالي بعد أوباما، دونالد ترمب، ورغم غروره ونبرته، اقتنع من نتنياهو بضرورة الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. وتباهى نتنياهو بذلك، وبأن إسرائيل تحت قيادته وجهت ضربات لإيران، أكثر من أي قائد غربي آخر.

حب المال وتلقي الهدايا

مشكلة نتنياهو أنه على طريقه الطويل، وقع في حادث أليم، فقد كُشفت إحدى نقاط ضعفه الخطيرة، وهي المال. رأس ماله يقدر بثلاثة وعشرين مليون دولار. راتبه الشهري 20 ألف دولار. أمواله جمعت من الرواتب العالية، وكذلك من المحاضرات، إذ يُعدّ محاضراً مطلوباً في العالم، خصوصاً في الولايات المتحدة.

بنيامين نتنياهو وزوجته سارة في زيارة رسمية لباريس (أرشيفية - غيتي)

لكن الأهم من دخله، الذي جمعه من عرق الجبين بغالبيته، هو مصروفه. نتنياهو معروف بأنه لا يصرف مطلقاً. كل مصاريفه على حساب الدولة، على عكس كل سابقيه، الذين حرصوا على الدفع من جيوبهم. لا يوجد له أصدقاء، ولكنه يحرص على علاقات جيدة مع عدد كبير من أصحاب الرساميل في العالم، الذين يُحدد مستوى القرب معهم بمستوى صرفهم هم عليه. وهو محب للهدايا السخية بشكل خاص، فإذا أهدى أحد المعارف عقداً من الذهب الخالص لزوجته سارة، لا يتردد نتنياهو بالاتصال بمقدم الهدية، مظهراً الزعل ومعاتباً: لماذا لم تشترِ لها الخاتم والحلق الملائمين للعقد؟

هذه العادات قادت نتنياهو إلى قفص الاتهام بتهمة تلقي الرشى وخيانة الأمانة، لأن هناك اشتباهاً بأنه استغل منصبه بصفته رئيس حكومة ليوفي الهدايا بخدمات يحتاج إليها أصحابها. وهناك شبهات نشرها اليعاد شارغا، رئيس حركة «طهارة الحكم»، الذي يقود منذ عشرات السنين معارك قضائية كبيرة ضد الفساد وضد المساس بالديمقراطية. وقال خلال مؤتمر «هرتسليا 2024»: «نتنياهو ارتكب أكبر وأخطر قضية فساد في تاريخ إسرائيل، جرى فيها هدر مليارات الدولارات عبثاً، على أسلحة لسنا بحاجة إليها، وبصفقة تمت من وراء ظهر وزير الأمن ورئيس أركان الجيش وقائد سلاح البحرية. وبلغ فيها الفساد فحشاً في قدس أقداسنا، الأسلحة الاستراتيجية. نتنياهو أدخل إلى جيبه 25 مليون شيقل عمولة في هذه القضية، وهذا عدا عمولات أخرى لشركائه في الجريمة. غابي إشكنازي، قال يومها إنه في اللحظة التي نشتري فيها الغواصة السادسة، لن يبقى لدينا مال للمجنزرات والمدرعات التي نحتاج إليها لاجتياح الشجاعية. وهذا ما حصل فعلاً، واليوم نذوق هذا النقص على جلود أبنائنا الجنود في قطاع غزة».

هذه القضية هي أيضاً مطروحة على بساط البحث في المحكمة، ولم يتقرر بعد تحويلها إلى لائحة اتهام. وتلميح شارغا إلى غزة يتعلق بالتهمة الموجهة إلى نتنياهو بأنه كان مسؤولاً عن إخفاق 7 أكتوبر (تشرين الأول) بشكل شخصي، إذ إنه قام بتقوية «حماس»، وتباهى بأنه يُحول لها الأموال لكي يعمق الانقسام الفلسطيني، وتم تحذيره بأن سياسة حكومته ستفجر حرباً، ولم يكترث.

الفساد... قضية حياة أو موت سياسي

نتنياهو يعرف جيداً خطورة هذه القضايا الثلاث، ويدرك أنه يواجه خطر الحبس بسببها. مسألة حياة أو موت، سياسياً، فإذا تخلّى عن منصبه بصفته رئيس حكومة، سيسهل على الجهاز القضائي الحكم عليه بالسجن، وإذا بقي رئيس حكومة، ستسير محاكمته ببطء شديد كما هي الحال اليوم؛ حيث إنها بدأت قبل 4 سنوات وما زالت في مرحلة سماع الشهود، وسيتمكن من منع إقامة لجنة تحقيق رسمية في قضية 7 أكتوبر، وسيمارس الضغط لتغيير القضاة في المحكمة العليا والنيابة، فلا يقدم إلى المحاكمة بسبب قضية الغواصات.

وقد وجد نتنياهو ائتلافاً قوياً لحكومته، من 64 نائباً من مجموع 120، يتألف من حزبه «الليكود» والأحزاب الدينية والاستيطانية. لهم مصلحة مشتركة في البقاء معاً. الأحزاب الدينية تحصد أموالاً طائلة لمدارسها ومؤسساتها وحاخاماتها، والأحزاب الاستيطانية تكسب توسيع الاستيطان وإجهاض حل الدولتين وتصفية القضية الفلسطينية، و«الليكود» تمت تصفية المعارضة فيه وقادته ينافقون نتنياهو، لدرجة الحضور معه إلى المحكمة تضامناً في قضايا الفساد.

قاعدة توفر إكسير الحياة

هذا الائتلاف، ومعه نحو 20 بالمائة من الناخبين في إسرائيل يشكلان قاعدة جماهيرية ثابتة لا تتزعزع، حتى الآن، ويعتمد عليها نتنياهو اعتماداً أساسياً. عندما يخطب يأخذ هذه القاعدة في الاعتبار، وعندما يتخذ قراراته يضعها فوق كل اعتبار. هي أهم بالنسبة له من الأسرى الإسرائيليين في أنفاق «حماس»، وأهم من عائلات هؤلاء الأسرى الذين لا يصدقون أن حياة أبنائهم أهدرت على هذا النحو. وأهم من الجنود الذين يُحاربون هباءً في غزة، ومن قادة الجيش وبقية الأجهزة الأمنية، الذين يؤكدون أن سياسة نتنياهو تلحق ضرراً استراتيجياً بأمن إسرائيل، فيهاجمهم علناً ويؤنبهم باللغة الإنجليزية -حتى يسمع الغرب كله- «إسرائيل دولة يوجد لها جيش وليس جيشاً توجد له دولة». وهي أهم من الإدارة الأميركية، التي وقفت إلى جانبه بوصفها شريكة في الحرب رغم الخلافات العميقة معه، وتمكّن من جرّها إلى كثير من الورطات، ولا يزال يحاول جرها إلى حرب إقليمية. لا بل إنه يحاربها في بيتها، ويقف مع انتخاب ترمب للرئاسة، نكاية بها، لأنها باتت معنية بوقف الحرب.

فهذه القاعدة هي التي توفر له إكسير الحياة. ولأجلها يكرس كل مواهبه وطاقاته ولديه كثير منها. لها يكرس البضاعة التي يسوقها. لا يهمه أحد غيرها، فإذا كان الأمر يحتاج إلى إجهاض الصفقة، يدير سياسة منهجية تجهض الصفقة، وإذا كان الأمر يحتاج إلى حرب يذهب إلى الحرب. في نظره، أميركا مجبورة على مساندة إسرائيل؛ لأنه يخدم مصلحتها، وأعداؤه هم أعداؤها. فإذا خسر في المعارك، يتهم الجيش والمخابرات والشرطة وكل العالم ما عدا الاعتراف بمسؤوليته. وإذا حقق الجيش إنجازات، يتقدم نتنياهو إلى الشاشات يتباهى. والجيش يلهث في اللحاق وراءه، ويدافع عن نفسه أمام هجماته، ويحاول أن يثبت أن اتهامات اليمين له بالجبن غير صحيحة، ويثبت ذلك في حرب عبثية يقاتل فيها الفلسطينيين من بعيد، بالغارات والقصف المدفعي وقتل المدنيين.

متظاهر بالقرب من فندق ووترغيت بواشنطن ضمن احتجاجات تستبق كلمة بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأربعاء (أ.ب)

اليسار... تهمة

إذا كانت هناك معارضة سياسية، يتهمها بأنها يسارية، وهذا يكفي لقاعدته الشعبية. وإذا وقف الإعلام ضده، فإنه يهاجم الإعلام، ويقيم مؤسسات إعلامية كبيرة لمواجهته، وهذا إضافة إلى حسابه في «تويتر» (إكس) الذي يوجد له فيه 1.4 مليون متابع، أو «فيس بوك» (2.3 مليون متابع).

فقط قبل سنة كادت الجماهير، التي نزلت إلى الشوارع بمئات الألوف مدعومة من الدولة العميقة، تُسقط نتنياهو. وراح يسعى لحرب تحرف الأنظار، إلا أن الجيش رفض شن حرب. فجاء هجوم «حماس» في 7 أكتوبر. فخرج الجيش إلى الحرب، ويمكن القول إنه «علّق نفسه بهذه الحرب»، ولا يعرف كيف يُخرج منها. ونتنياهو بالمقابل يزدهر. العرق يتصبب من كل خلايا جسده، لكنه من حيث تحقيق الأهداف يزدهر.

هذا هو نتنياهو اليوم، وهذه هي حساباته. بعيد عن المنطق؟ نعم، يجعل من إسرائيل دولة هشّة؟ نعم، ألا يوجد مَن يتصدى له في إسرائيل؟ يوجد لكن صوتهم ضعيف مخنوق، على المستوى الشعبي، وأداؤهم هزيل على مستوى المعارضة السياسية. ففي وضع طبيعي تُعدّ حالة نتنياهو فريسة سهلة لأي معارض سياسي له. بهذا الفشل وهذا الفساد وبهذه الأخطار التي يجلبها، يمكن إلحاق هزيمة شديدة به. أي قائد سياسي قوي وحكيم كان سينقض على هذه الفرصة لإسقاط حكومة نتنياهو، لكن قادة المعارضة في إسرائيل لا يتمتعون بهذه الصفات بعد. وحتى الجمهور الذي يثبت في الاستطلاعات، باستمرار أنه عاف نتنياهو ويريد تغييره، لا يرى في أي من قادة المعارضة الحالية عنواناً له. وقوة نتنياهو مستمدة تحديداً من هذا الضعف.