الإمبراطور يتجرع السم ودموع الـ 24 رجلاً في الـ 24 ساعة في ملجأ تحت الأرض

أطول يوم في تاريخ اليابان (3 - 3)

اليابانيون يستمعون إلى صوت إمبراطورهم لأول مرة في الراديو معلنا استسلام اليابان
اليابانيون يستمعون إلى صوت إمبراطورهم لأول مرة في الراديو معلنا استسلام اليابان
TT

الإمبراطور يتجرع السم ودموع الـ 24 رجلاً في الـ 24 ساعة في ملجأ تحت الأرض

اليابانيون يستمعون إلى صوت إمبراطورهم لأول مرة في الراديو معلنا استسلام اليابان
اليابانيون يستمعون إلى صوت إمبراطورهم لأول مرة في الراديو معلنا استسلام اليابان

حتى بعد قصف هيروشيما وناغازاكي، وسقوط منشوريا بأيدي السوفيات، كما رأينا في الحلقتين السابقتين من هذا الكتاب، ظل قطاع كبير من جهاز القوات المسلحة مؤمنًا، بلا أي أساس مادي، بأن اليابان لا تزال قادرة على الدفاع عن نفسها، وإنها لم تفقد الحرب بعد، بينما دعا قسم من المسؤولين في الحكومة اليابانية بقبول شروط الحلفاء بالاستسلام مقابل شرط واحد: صيانة البيت الإمبراطوري.
ونتيجة هذا الاختلاف لم يتوصل مجلس الستة الكبار، الذي كان أيضًا بدوره منقسمًا، إلى اتخاذ قرار حاسم، بينما كان الرئيس الأميركي ترومان يهدد بتدمير اليابان نهائيا في حال عدم استسلامها غير المشروط.
في هذه الحلقة، وهي الأخيرة، متابعة لما جرى في ذلك اليوم، أطول يوم في تاريخ اليابان.
قال الجنرال أنامي، ملخصًا النقاش من الجانب الآخر: «لا يمكننا التمثيل، الحصول على النصر أمر مؤكد، لكن من السابق لأوانه القول خُسرتْ. لأننا سنوقع هزائم مؤلمة بالعدو عندما يغزو اليابان، هذا أيضًا مؤكد، لذلك فإن القول باستحالة عكس الموقف لصالحنا وانتزاع النصر من هذه الهزيمة قول لا معنى له».
«أكثر من ذلك..» استمر أنامي بالكلام: «جيشنا لن يستسلم للتسريح، رجالنا ببساطة لن يلقوا سلاحهم، إذ طالما تعلموا أن الاستسلام غير مقبول، وطالما تعلموا أن الرجل المقاتل الذي يستسلم يقع عليه عقاب شديد جدًا، إذن في الحقيقة ليس لنا خيار إلاّ مواصلة الحرب».
«نعم، نعم!» صرخ أنامي بنفاد صبر: «كل واحد يتفهم الموقف... لكن علينا الاستمرار في الحرب حتى النهاية، بغض النظر عن حجم الاستهجان ضدنا!». هنا أدلى وزير الداخلية جنكي آبي بأول ملاحظة، حين قال إنه لا يستطيع الوعد بامتثال المدنيين، إذا قررت الحكومة إنهاء الحرب بمعاهدة سلام، مذكّرًا بحادث العصيان الذي قام به بعض الضباط الشبان في 26 فبراير (شباط) عام 1936، عندما قادوا ما يقارب الألفي جندي، مما أدى إلى خسائر كثيرة في الأرواح، إضافة إلى محاولة قتل رئيس الوزراء، وجرح وزير الخزانة، وكاتم أسرار الإمبراطور. كان الثوار قد احتلوا وزارة الحرب، ومقر بوليس الإمبراطور، ومقر إقامة رئيس الوزراء قبل أن يضطر الإمبراطور نفسه إلى التدخل، آمرًا وزير الحرب باتخاذ الإجراءات اللازمة، مسترجعًا تفاصيل ذلك العصيان الذي جرى قبل أقل من عقد مضى، نصح جنكي آبي بالوقوف ضد فكرة قبول إعلان بوتسدام.
كان الوقت يتسرب من أيدي الجميع، ولا يوجد شك في أن شخصًا واحدًا يستطيع ترتيب الوضع.
كان الوضع محفوفًا بالمخاطر، كلٌ من سوزوكي وتوكو أجريا نقاشًا في وقت متأخر من الليلة الماضية، كانا واعيين للخطر. إذا كان الموقف على هذه الدرجة من الخطورة، فإذن ستكون الحركة الخاطئة بمثابة كارثة.
كان الجيش هو الحجر الأقوى وغير المتوقع في هذه اللعبة. الحجر الذي ظلّ على مدى سنوات لا يخضع لأي قاعدة إلاّ نفسه. إذا لم يحصل الجيش على ما يريد، فسيكون مستعدًا للجوء إلى الاغتيالات، أو حتى اللجوء إلى ثورة عارمة، ودائمًا خلف تلك الحجة (التي تجد قبولاً عاطفيًا) حماية الإمبراطور من حاشيته الخونة. كانت لدى كل من سوزوكي وتوكو مخاوف عميقة ومبررة من أن العنف هو الذي يمنع التوقيع على الاتفاقية التي تمثل، برأيهم، الإنقاذ الوحيد لليابان.
لدى وصولهم إلى القصر في تلك الليلة، استقبلهم الإمبراطور لحظة وصولهم، سأل سوزوكي وزير الخارجية توكو أن يخبر الإمبراطور عن الاجتماعين اللذين لم يخرجا بأي نتيجة، بعد ذلك اقترح سوزوكي أن على المجلس الأعلى للحرب أن يعقد جلسة جديدة هذه الليلة بحضور الإمبراطور. كان الإمبراطور مهيَّأً لهذا الاقتراح، فأعطى موافقته على الفور. في اللحظة ذاتها طلب سوزوكي إقناع المجلس الأعلى للحرب ومجلس الوزراء لعقد الاجتماع. خلال ذلك، وبعد مغادرة الوزيرين استقبل الإمبراطور الماركيز كيدو كاتم السرّ، باختصار: كانت هذه المقابلة السادسة مع كاتم السرّ في ذلك الخميس التاسع من أغسطس (آب). إذا كان وزراؤه، أخيرًا، قد استيقظوا من سباتهم، وقرروا التحرك، فعلى الإمبراطور أن لا يتلكأ.
كان الرجل الذي استدعاه القدر لإنقاذ بلده لطيفًا، خجولاً إلى أبعد حد، قصيرًا ممتلئًا، في الرابعة والأربعين من العمر، منذ تتويجه عام 1928 كان يعيش حياة متوحدة كما يتوقع منه رعاياه. علاقته بالشعب تختلف عن علاقة أي عرش آخر بشعبه: كان يكفي بالنسبة لشعبه أن يكون موجودًا. إنه هناك، يجسّد في قدسيته هذا الوجود العظيم الذي يدعى اليابان. من دونه، أو من دون ورثته، لا يوجد أي يابان.
كانت حياة الإمبراطور دائمًا بسيطة، ومنذ بداية الحرب أصبحت أكثر بساطة وتقشفًا، حتى إن أفقر رعاياه لا يحسده عليها، وهو عادةً يستيقظ في السابعة، يحلق، ثم يقرأ الصحف. بعد الصلاة في الكاشيكودوكورو، وفي الكوريدين، والشيندين، يتناول إفطارًا بسيطًا من الخبز الأسمر وعصيدة الشوفان، وفي العادة يبدأ العمل من الساعة التاسعة والنصف حتى الظهر، ثم يتناول غداءه المكوّن من خضار مطبوخ وحساء. بعد ذلك يعود إلى العمل وينهي يومه بالتمشي قليلاً في الحديقة الداخلية. وهو لا يدخن ولا يشرب الكحول وينام بمعدة خفيفة.
الآن فُتح الباب بهدوء، وبمصاحبة أعوانه دخل الإمبراطور إلى الملجأ الصغير حيث، قبل أن يمرّ الليل فإن مصير بلده قد أودع بين يديه.
الساعة 11:50 أنحنى أعضاء المجلس الذين كانوا ينتظرون منذ الساعة الـ11:30 مع أعوانهم، ثم جلسوا في مقاعدهم مع اثنين من الضيوف المدعوين، وحولوا أنظارهم بعيدًا عن الإمبراطور احترامًا. مظهر الإمبراطور أوحى لهم بأنه كان متعجلاً، وفي الحقيقة لو أن آخر مقابلة له مع الماركيز كيدو لم تنته إلاّ الساعة 11:37، كما جاء في يوميات كيدو، فإن الإمبراطور لم يكن لديه متسع من الوقت للاستعداد لمواجهة أكثر الساعات إحراجًا في تاريخ بلده، وحياته الخاصة. بالإضافة إلى الكبار الستة وأعوانهم، حضر رجلان آخران، دُعيا من قبل رئيس الوزراء هما: سكرتير مجلس الوزراء ساكونيرو، والبارون هيرانوما رئيس سرّ المجلس.
تقع الغرفة التي عقد فيها الاجتماع في ملجأ تحت الأرض (30 × 18 قدمًا)، تهويتها سيئة، وتبدو مثل جحيم مصغّر بحرارة ليالي أغسطس، وكان أعضاء المجلس وضيوفهم يرتدون بدلات الصباح الرسمية أو الزي العسكري، والمناديل البيضاء استخدمت بكثرة، وبدت غريبة مع بدلاتهم ووجوههم الداكنة.
كان سقف الملجأ مدعومًا بعوارض حديدية، وجدرانه مغطاة بألواح خشبية قاتمة. جلس الرجال الأحد عشر خلف طاولة طويلة مغطاة، يواجه أحدهم الآخر، ستة في جانب وخمسة في الجانب الآخر، الرجل الثاني عشر (الإمبراطور) اتخذ مجلسه على كرسي بسيط بظهر مستقيم في رأس الغرفة، خلفه شاشة بسيطة، بينما جلس معاونه قرب الباب.
نهض سوزوكي الجالس على يسار الإمبراطور، ثم سأل سكرتير مجلس الوزراء أن يقرأ إعلان بوتسدام بصوت عال. حتى ولو لدقيقة واحدة في هذا الاجتماع، أو الاجتماعات التي عقدت لاحقًا خلال الأيام القليلة التي وقعت بها اليابان تحت محنة الاستسلام، فإن الكلمات الحقيقية التي قيلت في ذلك الاجتماع ضاعت في التاريخ، لأن ما حدث كان جزئيًا، ويقوم على إعادة تجميع شخصية من قبل رجال حضروا، ومن أولئك الموثوق بهم.
بعد قراءة الإعلان، كرر سوزوكي التقييم الذي قدمه للإمبراطور عن اللقاءات المحبطة السابقة، وقدم الاعتذار للإمبراطور على الطلب منه الحضور في هذا الاجتماع، الذي لم يتفق فيه وزراؤه بعد على قرار (لقد قيل أيضًا إن سوزوكي قدم اعتذارًا بطريقة غير مباشرة لرئيسي الأركان على استخدام توقيعيهما في الطلب الذي قُدم للعرش لعقد الاجتماع بينما الآراء ما زالت منقسمة. الطبيعة الغريبة لهذا الاجتماع المنعقد في منتصف الليل جعلتهما غير مكترثين - لكن ما داما وقّعا الطلب، وما دام الإمبراطور أمر بعقد الاجتماع، لم يكن لديهما خيار غير تلبية الاستدعاء الإمبراطوري). لخّص سوزوكي الوقف كله في تلك اللحظة: المجلس الأعلى للحرب كان منقسمًا ثلاثة لثلاثة، بينما مجلس الوزراء، الذي يملك لوحده الصلاحية الدستورية للموافقة على استسلام اليابان كان منشقًا إلى ثلاثة أقسام (ستة أعضاء فضلوا قبول إعلان بوتسدام، بشرط واحد هو ضمان صيانة البيت الإمبراطوري، ثلاثة آخرون أصروا على الشروط الأربعة التي وضعها أنامي، بينما خمسة آخرين وضعوا شروطًا أخرى لكن أقل من الشروط الأربعة لجماعة مؤيدي الحرب).
دعا رئيس الوزراء وزير خارجيته توكو، فلخَّص توكو النقاش بإظهار ميله إلى الاستسلام، منهيًا الحديث بتوصية مهمة بأن على اليابان قبول إعلان بوتسدام دون أي تأخير، إذا أُعطيت ضمانات بصيانة الدولة الوطنية. بعدها استدار سوزوكي إلى وزير البحرية الصامت، فقال الأدميرال يوناي: «أتفق مع وزير الخارجية»، ثم عاد ليجلس في مقعده. وزير الحرب، الجنرال أنامي، قفز محتدًّا معبّرًا عن رفضه التام، قائلاً إنه يؤمن بأن على الأمة الاستمرار في القتال، لأن نتائج المعركة لن تظهر إلاّ بعد أن يُخاض القتال، وفي أي حال، إذا كان على اليابان أن تستسلم فعليها الإصرار على شروط هي: ضمان ليس فقط صيانة الكيان الإمبراطوري، إنما أيضًا حق اليابان في كيفية نزع سلاحها، وأن تقيم محاكمها الخاصة بالحرب، وتحدّد عدد قوات اليابان التي تحتل دولاً أخرى.
وافق الجنرال أوميزو، مضيفًا أن اليابان ما زالت أكثر من مجرد ندّ للعدو، والاستسلام غير المشروط سيكون مهينًا لشرف موت اليابانيين. وفي حالة الاستسلام، أصر أوميزو، كما فعل أنامي أيضًا، على الشروط السابقة. ثم جاء دور الأدميرال تويودا، رئيس أركان البحرية ليتحدث. لكن سوزوكي طلب البارون هيرانوما بدلاً عنه، وكان هيرانوما قد دُعي للاجتماع في محاولة لإشراك مجلس السرّ في متابعة النقاش، حيث من حقه دستوريًا المصادقة على الاتفاقيات الخارجية. هيرانوما أخضع الوزراء إلى سلسلة من الأسئلة الدقيقة الشاملة حول إخفاق العلاقة مع السوفيات، وعن الرجال الذين سيُصنفون كمجرمي حرب، وعن قدرة الأمة على حماية نفسها ضد الغارات وضد الغزو، وحول احتمال قيام عصيان في لحظة إعلان الاستسلام. ثم أنهى حديثه بالقول إنه إضافة إلى شروط صيانة سيادة الدولة الذي مرّ من دون نقاش، فليس من الضروري الحكم بالفشل على الشروط الثلاثة الأخرى.
أخيرًا أُعطي الأدميرال تويودا الفرصة للحديث، فكرر الجدل بتفضيل استمرار الحرب، خاتمًا بأنه لا يضمن ردّ فعل البحرية، ما لم يكن تسريحهم بواسطة اليابانيين أنفسهم.
مرّة أخرى نهض رئيس الوزراء ليقول: «هذا دليل على أننا غير قادرين على التوصل إلى اتفاق، وفي ضوء هذه الحقيقة، ومع هذا الموقف الطارئ، يبدو أنه علينا القيام بشيء واحد». ثم أدار رأسه باتجاه رأس الغرفة وقال: «إن قراركم يا صاحب الجلالة مطلوب، وما تقررونه سوف ينفذ، بين رأي وزير الخارجية، أو الشروط الأربعة».
كان الصمت مطبقًا في الغرفة الصغيرة الخانقة. يصعب القول كم من الرجال الأحد عشر الجالسين حول الطاولة الطويلة عرفوا أو خمنوا أن سوزوكي سيتخذ تلك الخطوة، لم يُسمع في تاريخ اليابان أن طُلب من الإمبراطور اتخاذ قرار ما، أو القول كم كانت الصدمة حتى النخاع بهذا الإجراء غير التقليدي.
في الأيام السابقة كانت البيانات الإمبراطورية الرسمية تسمى «صوت الغرنوق»، والغرنوق يمثل رمز الإمبراطورية، ويقال إن صوت الغرنوق يظل مسموعًا في السماء حتى لو حُجب عن الرؤية. بالنسبة للمجلس الأعلى للحرب، في الساعة الثانية من صباح الجمعة، العاشر من أغسطس 1945، كان صوت الغرنوق على وشك أن يُسمع مرة أخرى في الأرض.
قال الإمبراطور في هدوء: «استمرار الحرب يمكن أن يؤدي فقط إلى إبادة الشعب الياباني ويطيل المعاناة البشرية. يبدو واضحًا أن الأمّة لم تعد قادرة على تحمل الحرب، وقدرتها على الدفاع عن شواطئها مشكوك فيها. هذا لا يُطاق بالنسبة لي»، ثم أضاف: «أن أرى جنودي المخلصين منزوعي السلاح ذاهبين من دون قول.. لكن جاء الوقت لتحمل ما لا يُطاق تحمّله».
لم يعد الإمبراطور بحاجة لأن يضع قراره في صياغة معينة، مع ذلك، استمر في الهدوء ذاته، وبصوت ثابت قال: «أعطي موافقتي إلى جانب قبول إعلان الحلفاء على أساس الشروط التي طرحها وزير الخارجية». ثم غادر الغرفة ببطء.
في الصمت، عاودت المناديل البيضاء الظهور، ربما لمسح العرق الذي يتصبب في أغسطس بتلك الغرفة الصغيرة، أو ربما لمسح الدموع التي ترقرقت في أعين الرجال الذين أصبحوا ملزمين بمنح بلدهم للعدو.
«قرار صاحب الجلالة»، قال سوزوكي: «يجب أن يكون قرار الإجماع أيضًا». فاستمر الصمت.
على كل حال، الجهة الوحيدة التي تملك الصلاحية الدستورية في تنفيذ قرار الاستسلام هو مجلس الوزراء (مع أن موافقة مجلس السرّ كانت أيضًا مطلوبة، إلا أن هذا الأمر أثير لاحقًا).
غادر الأعضاء القصر إلى المقر الرسمي لرئيس الوزراء. المناقشات هنا تركّزت ليس حول قبول القرار الإمبراطوري - وليس ثمة شك في هذا على الرغم من معارضة وزير الداخلية - لكن لصياغة بيان الاستسلام، وفي غضون ثلاث ساعات كان البيان قد أُبرق إلى سويسرا والسويد لنقله من ثمَّ إلى قوى الحلفاء.
قال البيان تحديدًا: «إن الحكومة اليابانية مستعدة لقبول الشروط المذكورة في الإعلان الذي صدر في بوتسدام في 26 من يوليو (تموز) 1945، من قبل رؤساء حكومات الولايات المتحدة، بريطانيا العظمى، والصين، ولاحقًا بمشاركة حكومة الاتحاد السوفياتي، آخذين بالاعتبار أن البيان المذكور لا يشمل أي مطلب قد يكون مجحفًا بامتيازات صاحب الجلالة كحاكم مطلق».
ليلة اليابان الطويلة في 9 أغسطس انتهت أخيرًا، لكن اليوم الأطول لم يأتِ بعد.
في واشنطن، رغم أن الرئيس ترومان بدأ يفقد صبره، فقد قرر الوثوق بمؤشرات طوكيو على قبولها، واعتبر الأمر مسألة ساعات، وفي تعليماته للجنرال ماك آرثر قال ضمن عدة أشياء: «من لحظة الاستسلام، فإن صلاحية الإمبراطور والحكومة اليابانية في قيادة الدولة ستكون خاضعة لك، وستتخذ الخطوات التي تراها مناسبة لتنفيذ شروط الاستسلام».
في العاشرة والنصف من يوم الرابع عشر من أغسطس، كان أعضاء مجلس الوزراء وأعضاء المجلس الأعلى للحرب، وبعض الرجال الآخرين المهمين في الحكومة قد تجمعوا. كانوا قد أُخبروا أن لا يلبسوا الزي الرسمي، فكان البعض، حيث الطقس الحار والرطوبة العالية، قد استعار ربطات عنق وجاكيتات معاونيهم. كانت الغرفة تحت الأرض ليست فقط رطبة، بل مليئة بالعفن، والماء ينز من السلم المؤدي إليها. في الوقت المحدد وصل الإمبراطور، وبعد خمس وعشرين دقيقة صارت الغرفة مثل حمام بخار صغير.
كان الإمبراطور يرتدي زيًّا عسكريًا بسيطًا، سار مباشرةً نحو مقدمة الغرفة وجلس على كرسي بسيط بظهر قائم عند الطاولة الصغيرة المغطاة بشرشف مذهّب. وخلفه شاشة كبيرة لامعة.
سكرتير رئيس مجلس الوزراء ساكوميزو، ذكر لاحقًا أنه كان متخوفًا من أن رئيس الوزراء لن يكون قادرًا على المواصلة، إذ بدا غامضًا ذلك الصباح وغير مستعد للحديث، لكن مخاوف ساكوميزو كانت غير صحيحة، إذ قال سوزوكي بوضوح وبلاغة، إن «صاحب الجلالة قد دعا إلى عقد الاجتماع لمناقشة موضوع قبول ردّ الحلفاء». وأوضح نقاط الاختلاف في الرأي التي أدّت بالاجتماعات السابقة إلى طريق مغلق. ثم دعا أولئك الذين يخالفون الأغلبية بالرأي للتعبير عن رأيهم. تحدث أوميزو وأنامي باختصار، تويودا أخذ الفترة ذاتها، بدا واضحًا أنهم كلهم كانوا تحت تأثير الإجهاد والتعب. تويودا لم يتحدث بشكل جيد، لكنه كان يناقش بتعب وحزن مألوفين لكل الحاضرين.
عندما أنهى المنشقّون الثلاثة حديثهم، نهض رئيس الوزراء معتذرًا للإمبراطور عن انقسام مجلس الوزراء، وطلب منه مرة أخرى قرارًا إمبراطوريًا.
كان الصمت يسود الغرفة الصغيرة المزدحمة الناضحة بالعرق. الرجال الـ24 كانوا ينتظرون ليستمعوا للمرة الثانية صوت الغرنوق، الذي يدرك أنه بهذا سيضع نهايةً لعهد الموت والدمار الذي استمر لأربعة وأربعين شهرًا، وليأتي الآن وقت الحصاد معلناً : سقوط الإمبراطورية اليابانية.
الإدراك المتأخر لهذه الحقيقة التي عرفها البعض منذ البداية؛ أن اليابان أقل من أعدائها في المصادر الطبيعية، والطاقة الإنتاجية، والقوى البشرية، ليس لديها فعلاً الفرصة لكسب حرب اضطرت لخوضها. كانت فقط الرغبة الجماعية لشعبها هي التي ساقتها لخوضها إلى هذا الحد، الآن، يُؤمل، أن ذلك كان من أجل التركيز على اتجاه آخر، وهو: غسل وصمة الماضي بدموع الـ24 رجلاً المجتمعين في ذلك الملجأ تحت الأرض وهم يراقبون إمبراطورهم ينهض ويمسح وجهه بمنديل أبيض، قبل أن يبدأ حديثه التاريخي للشعب.
دموع الـ24 رجلاً في الـ24 ساعة، هي دموع البلد كله: 24 ساعة من أطول وأصعب، وربما الأكثر مرارة على الإطلاق في تاريخ اليابان الطويل.



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».