الإمبراطور يتجرع السم ودموع الـ 24 رجلاً في الـ 24 ساعة في ملجأ تحت الأرض

أطول يوم في تاريخ اليابان (3 - 3)

اليابانيون يستمعون إلى صوت إمبراطورهم لأول مرة في الراديو معلنا استسلام اليابان
اليابانيون يستمعون إلى صوت إمبراطورهم لأول مرة في الراديو معلنا استسلام اليابان
TT

الإمبراطور يتجرع السم ودموع الـ 24 رجلاً في الـ 24 ساعة في ملجأ تحت الأرض

اليابانيون يستمعون إلى صوت إمبراطورهم لأول مرة في الراديو معلنا استسلام اليابان
اليابانيون يستمعون إلى صوت إمبراطورهم لأول مرة في الراديو معلنا استسلام اليابان

حتى بعد قصف هيروشيما وناغازاكي، وسقوط منشوريا بأيدي السوفيات، كما رأينا في الحلقتين السابقتين من هذا الكتاب، ظل قطاع كبير من جهاز القوات المسلحة مؤمنًا، بلا أي أساس مادي، بأن اليابان لا تزال قادرة على الدفاع عن نفسها، وإنها لم تفقد الحرب بعد، بينما دعا قسم من المسؤولين في الحكومة اليابانية بقبول شروط الحلفاء بالاستسلام مقابل شرط واحد: صيانة البيت الإمبراطوري.
ونتيجة هذا الاختلاف لم يتوصل مجلس الستة الكبار، الذي كان أيضًا بدوره منقسمًا، إلى اتخاذ قرار حاسم، بينما كان الرئيس الأميركي ترومان يهدد بتدمير اليابان نهائيا في حال عدم استسلامها غير المشروط.
في هذه الحلقة، وهي الأخيرة، متابعة لما جرى في ذلك اليوم، أطول يوم في تاريخ اليابان.
قال الجنرال أنامي، ملخصًا النقاش من الجانب الآخر: «لا يمكننا التمثيل، الحصول على النصر أمر مؤكد، لكن من السابق لأوانه القول خُسرتْ. لأننا سنوقع هزائم مؤلمة بالعدو عندما يغزو اليابان، هذا أيضًا مؤكد، لذلك فإن القول باستحالة عكس الموقف لصالحنا وانتزاع النصر من هذه الهزيمة قول لا معنى له».
«أكثر من ذلك..» استمر أنامي بالكلام: «جيشنا لن يستسلم للتسريح، رجالنا ببساطة لن يلقوا سلاحهم، إذ طالما تعلموا أن الاستسلام غير مقبول، وطالما تعلموا أن الرجل المقاتل الذي يستسلم يقع عليه عقاب شديد جدًا، إذن في الحقيقة ليس لنا خيار إلاّ مواصلة الحرب».
«نعم، نعم!» صرخ أنامي بنفاد صبر: «كل واحد يتفهم الموقف... لكن علينا الاستمرار في الحرب حتى النهاية، بغض النظر عن حجم الاستهجان ضدنا!». هنا أدلى وزير الداخلية جنكي آبي بأول ملاحظة، حين قال إنه لا يستطيع الوعد بامتثال المدنيين، إذا قررت الحكومة إنهاء الحرب بمعاهدة سلام، مذكّرًا بحادث العصيان الذي قام به بعض الضباط الشبان في 26 فبراير (شباط) عام 1936، عندما قادوا ما يقارب الألفي جندي، مما أدى إلى خسائر كثيرة في الأرواح، إضافة إلى محاولة قتل رئيس الوزراء، وجرح وزير الخزانة، وكاتم أسرار الإمبراطور. كان الثوار قد احتلوا وزارة الحرب، ومقر بوليس الإمبراطور، ومقر إقامة رئيس الوزراء قبل أن يضطر الإمبراطور نفسه إلى التدخل، آمرًا وزير الحرب باتخاذ الإجراءات اللازمة، مسترجعًا تفاصيل ذلك العصيان الذي جرى قبل أقل من عقد مضى، نصح جنكي آبي بالوقوف ضد فكرة قبول إعلان بوتسدام.
كان الوقت يتسرب من أيدي الجميع، ولا يوجد شك في أن شخصًا واحدًا يستطيع ترتيب الوضع.
كان الوضع محفوفًا بالمخاطر، كلٌ من سوزوكي وتوكو أجريا نقاشًا في وقت متأخر من الليلة الماضية، كانا واعيين للخطر. إذا كان الموقف على هذه الدرجة من الخطورة، فإذن ستكون الحركة الخاطئة بمثابة كارثة.
كان الجيش هو الحجر الأقوى وغير المتوقع في هذه اللعبة. الحجر الذي ظلّ على مدى سنوات لا يخضع لأي قاعدة إلاّ نفسه. إذا لم يحصل الجيش على ما يريد، فسيكون مستعدًا للجوء إلى الاغتيالات، أو حتى اللجوء إلى ثورة عارمة، ودائمًا خلف تلك الحجة (التي تجد قبولاً عاطفيًا) حماية الإمبراطور من حاشيته الخونة. كانت لدى كل من سوزوكي وتوكو مخاوف عميقة ومبررة من أن العنف هو الذي يمنع التوقيع على الاتفاقية التي تمثل، برأيهم، الإنقاذ الوحيد لليابان.
لدى وصولهم إلى القصر في تلك الليلة، استقبلهم الإمبراطور لحظة وصولهم، سأل سوزوكي وزير الخارجية توكو أن يخبر الإمبراطور عن الاجتماعين اللذين لم يخرجا بأي نتيجة، بعد ذلك اقترح سوزوكي أن على المجلس الأعلى للحرب أن يعقد جلسة جديدة هذه الليلة بحضور الإمبراطور. كان الإمبراطور مهيَّأً لهذا الاقتراح، فأعطى موافقته على الفور. في اللحظة ذاتها طلب سوزوكي إقناع المجلس الأعلى للحرب ومجلس الوزراء لعقد الاجتماع. خلال ذلك، وبعد مغادرة الوزيرين استقبل الإمبراطور الماركيز كيدو كاتم السرّ، باختصار: كانت هذه المقابلة السادسة مع كاتم السرّ في ذلك الخميس التاسع من أغسطس (آب). إذا كان وزراؤه، أخيرًا، قد استيقظوا من سباتهم، وقرروا التحرك، فعلى الإمبراطور أن لا يتلكأ.
كان الرجل الذي استدعاه القدر لإنقاذ بلده لطيفًا، خجولاً إلى أبعد حد، قصيرًا ممتلئًا، في الرابعة والأربعين من العمر، منذ تتويجه عام 1928 كان يعيش حياة متوحدة كما يتوقع منه رعاياه. علاقته بالشعب تختلف عن علاقة أي عرش آخر بشعبه: كان يكفي بالنسبة لشعبه أن يكون موجودًا. إنه هناك، يجسّد في قدسيته هذا الوجود العظيم الذي يدعى اليابان. من دونه، أو من دون ورثته، لا يوجد أي يابان.
كانت حياة الإمبراطور دائمًا بسيطة، ومنذ بداية الحرب أصبحت أكثر بساطة وتقشفًا، حتى إن أفقر رعاياه لا يحسده عليها، وهو عادةً يستيقظ في السابعة، يحلق، ثم يقرأ الصحف. بعد الصلاة في الكاشيكودوكورو، وفي الكوريدين، والشيندين، يتناول إفطارًا بسيطًا من الخبز الأسمر وعصيدة الشوفان، وفي العادة يبدأ العمل من الساعة التاسعة والنصف حتى الظهر، ثم يتناول غداءه المكوّن من خضار مطبوخ وحساء. بعد ذلك يعود إلى العمل وينهي يومه بالتمشي قليلاً في الحديقة الداخلية. وهو لا يدخن ولا يشرب الكحول وينام بمعدة خفيفة.
الآن فُتح الباب بهدوء، وبمصاحبة أعوانه دخل الإمبراطور إلى الملجأ الصغير حيث، قبل أن يمرّ الليل فإن مصير بلده قد أودع بين يديه.
الساعة 11:50 أنحنى أعضاء المجلس الذين كانوا ينتظرون منذ الساعة الـ11:30 مع أعوانهم، ثم جلسوا في مقاعدهم مع اثنين من الضيوف المدعوين، وحولوا أنظارهم بعيدًا عن الإمبراطور احترامًا. مظهر الإمبراطور أوحى لهم بأنه كان متعجلاً، وفي الحقيقة لو أن آخر مقابلة له مع الماركيز كيدو لم تنته إلاّ الساعة 11:37، كما جاء في يوميات كيدو، فإن الإمبراطور لم يكن لديه متسع من الوقت للاستعداد لمواجهة أكثر الساعات إحراجًا في تاريخ بلده، وحياته الخاصة. بالإضافة إلى الكبار الستة وأعوانهم، حضر رجلان آخران، دُعيا من قبل رئيس الوزراء هما: سكرتير مجلس الوزراء ساكونيرو، والبارون هيرانوما رئيس سرّ المجلس.
تقع الغرفة التي عقد فيها الاجتماع في ملجأ تحت الأرض (30 × 18 قدمًا)، تهويتها سيئة، وتبدو مثل جحيم مصغّر بحرارة ليالي أغسطس، وكان أعضاء المجلس وضيوفهم يرتدون بدلات الصباح الرسمية أو الزي العسكري، والمناديل البيضاء استخدمت بكثرة، وبدت غريبة مع بدلاتهم ووجوههم الداكنة.
كان سقف الملجأ مدعومًا بعوارض حديدية، وجدرانه مغطاة بألواح خشبية قاتمة. جلس الرجال الأحد عشر خلف طاولة طويلة مغطاة، يواجه أحدهم الآخر، ستة في جانب وخمسة في الجانب الآخر، الرجل الثاني عشر (الإمبراطور) اتخذ مجلسه على كرسي بسيط بظهر مستقيم في رأس الغرفة، خلفه شاشة بسيطة، بينما جلس معاونه قرب الباب.
نهض سوزوكي الجالس على يسار الإمبراطور، ثم سأل سكرتير مجلس الوزراء أن يقرأ إعلان بوتسدام بصوت عال. حتى ولو لدقيقة واحدة في هذا الاجتماع، أو الاجتماعات التي عقدت لاحقًا خلال الأيام القليلة التي وقعت بها اليابان تحت محنة الاستسلام، فإن الكلمات الحقيقية التي قيلت في ذلك الاجتماع ضاعت في التاريخ، لأن ما حدث كان جزئيًا، ويقوم على إعادة تجميع شخصية من قبل رجال حضروا، ومن أولئك الموثوق بهم.
بعد قراءة الإعلان، كرر سوزوكي التقييم الذي قدمه للإمبراطور عن اللقاءات المحبطة السابقة، وقدم الاعتذار للإمبراطور على الطلب منه الحضور في هذا الاجتماع، الذي لم يتفق فيه وزراؤه بعد على قرار (لقد قيل أيضًا إن سوزوكي قدم اعتذارًا بطريقة غير مباشرة لرئيسي الأركان على استخدام توقيعيهما في الطلب الذي قُدم للعرش لعقد الاجتماع بينما الآراء ما زالت منقسمة. الطبيعة الغريبة لهذا الاجتماع المنعقد في منتصف الليل جعلتهما غير مكترثين - لكن ما داما وقّعا الطلب، وما دام الإمبراطور أمر بعقد الاجتماع، لم يكن لديهما خيار غير تلبية الاستدعاء الإمبراطوري). لخّص سوزوكي الوقف كله في تلك اللحظة: المجلس الأعلى للحرب كان منقسمًا ثلاثة لثلاثة، بينما مجلس الوزراء، الذي يملك لوحده الصلاحية الدستورية للموافقة على استسلام اليابان كان منشقًا إلى ثلاثة أقسام (ستة أعضاء فضلوا قبول إعلان بوتسدام، بشرط واحد هو ضمان صيانة البيت الإمبراطوري، ثلاثة آخرون أصروا على الشروط الأربعة التي وضعها أنامي، بينما خمسة آخرين وضعوا شروطًا أخرى لكن أقل من الشروط الأربعة لجماعة مؤيدي الحرب).
دعا رئيس الوزراء وزير خارجيته توكو، فلخَّص توكو النقاش بإظهار ميله إلى الاستسلام، منهيًا الحديث بتوصية مهمة بأن على اليابان قبول إعلان بوتسدام دون أي تأخير، إذا أُعطيت ضمانات بصيانة الدولة الوطنية. بعدها استدار سوزوكي إلى وزير البحرية الصامت، فقال الأدميرال يوناي: «أتفق مع وزير الخارجية»، ثم عاد ليجلس في مقعده. وزير الحرب، الجنرال أنامي، قفز محتدًّا معبّرًا عن رفضه التام، قائلاً إنه يؤمن بأن على الأمة الاستمرار في القتال، لأن نتائج المعركة لن تظهر إلاّ بعد أن يُخاض القتال، وفي أي حال، إذا كان على اليابان أن تستسلم فعليها الإصرار على شروط هي: ضمان ليس فقط صيانة الكيان الإمبراطوري، إنما أيضًا حق اليابان في كيفية نزع سلاحها، وأن تقيم محاكمها الخاصة بالحرب، وتحدّد عدد قوات اليابان التي تحتل دولاً أخرى.
وافق الجنرال أوميزو، مضيفًا أن اليابان ما زالت أكثر من مجرد ندّ للعدو، والاستسلام غير المشروط سيكون مهينًا لشرف موت اليابانيين. وفي حالة الاستسلام، أصر أوميزو، كما فعل أنامي أيضًا، على الشروط السابقة. ثم جاء دور الأدميرال تويودا، رئيس أركان البحرية ليتحدث. لكن سوزوكي طلب البارون هيرانوما بدلاً عنه، وكان هيرانوما قد دُعي للاجتماع في محاولة لإشراك مجلس السرّ في متابعة النقاش، حيث من حقه دستوريًا المصادقة على الاتفاقيات الخارجية. هيرانوما أخضع الوزراء إلى سلسلة من الأسئلة الدقيقة الشاملة حول إخفاق العلاقة مع السوفيات، وعن الرجال الذين سيُصنفون كمجرمي حرب، وعن قدرة الأمة على حماية نفسها ضد الغارات وضد الغزو، وحول احتمال قيام عصيان في لحظة إعلان الاستسلام. ثم أنهى حديثه بالقول إنه إضافة إلى شروط صيانة سيادة الدولة الذي مرّ من دون نقاش، فليس من الضروري الحكم بالفشل على الشروط الثلاثة الأخرى.
أخيرًا أُعطي الأدميرال تويودا الفرصة للحديث، فكرر الجدل بتفضيل استمرار الحرب، خاتمًا بأنه لا يضمن ردّ فعل البحرية، ما لم يكن تسريحهم بواسطة اليابانيين أنفسهم.
مرّة أخرى نهض رئيس الوزراء ليقول: «هذا دليل على أننا غير قادرين على التوصل إلى اتفاق، وفي ضوء هذه الحقيقة، ومع هذا الموقف الطارئ، يبدو أنه علينا القيام بشيء واحد». ثم أدار رأسه باتجاه رأس الغرفة وقال: «إن قراركم يا صاحب الجلالة مطلوب، وما تقررونه سوف ينفذ، بين رأي وزير الخارجية، أو الشروط الأربعة».
كان الصمت مطبقًا في الغرفة الصغيرة الخانقة. يصعب القول كم من الرجال الأحد عشر الجالسين حول الطاولة الطويلة عرفوا أو خمنوا أن سوزوكي سيتخذ تلك الخطوة، لم يُسمع في تاريخ اليابان أن طُلب من الإمبراطور اتخاذ قرار ما، أو القول كم كانت الصدمة حتى النخاع بهذا الإجراء غير التقليدي.
في الأيام السابقة كانت البيانات الإمبراطورية الرسمية تسمى «صوت الغرنوق»، والغرنوق يمثل رمز الإمبراطورية، ويقال إن صوت الغرنوق يظل مسموعًا في السماء حتى لو حُجب عن الرؤية. بالنسبة للمجلس الأعلى للحرب، في الساعة الثانية من صباح الجمعة، العاشر من أغسطس 1945، كان صوت الغرنوق على وشك أن يُسمع مرة أخرى في الأرض.
قال الإمبراطور في هدوء: «استمرار الحرب يمكن أن يؤدي فقط إلى إبادة الشعب الياباني ويطيل المعاناة البشرية. يبدو واضحًا أن الأمّة لم تعد قادرة على تحمل الحرب، وقدرتها على الدفاع عن شواطئها مشكوك فيها. هذا لا يُطاق بالنسبة لي»، ثم أضاف: «أن أرى جنودي المخلصين منزوعي السلاح ذاهبين من دون قول.. لكن جاء الوقت لتحمل ما لا يُطاق تحمّله».
لم يعد الإمبراطور بحاجة لأن يضع قراره في صياغة معينة، مع ذلك، استمر في الهدوء ذاته، وبصوت ثابت قال: «أعطي موافقتي إلى جانب قبول إعلان الحلفاء على أساس الشروط التي طرحها وزير الخارجية». ثم غادر الغرفة ببطء.
في الصمت، عاودت المناديل البيضاء الظهور، ربما لمسح العرق الذي يتصبب في أغسطس بتلك الغرفة الصغيرة، أو ربما لمسح الدموع التي ترقرقت في أعين الرجال الذين أصبحوا ملزمين بمنح بلدهم للعدو.
«قرار صاحب الجلالة»، قال سوزوكي: «يجب أن يكون قرار الإجماع أيضًا». فاستمر الصمت.
على كل حال، الجهة الوحيدة التي تملك الصلاحية الدستورية في تنفيذ قرار الاستسلام هو مجلس الوزراء (مع أن موافقة مجلس السرّ كانت أيضًا مطلوبة، إلا أن هذا الأمر أثير لاحقًا).
غادر الأعضاء القصر إلى المقر الرسمي لرئيس الوزراء. المناقشات هنا تركّزت ليس حول قبول القرار الإمبراطوري - وليس ثمة شك في هذا على الرغم من معارضة وزير الداخلية - لكن لصياغة بيان الاستسلام، وفي غضون ثلاث ساعات كان البيان قد أُبرق إلى سويسرا والسويد لنقله من ثمَّ إلى قوى الحلفاء.
قال البيان تحديدًا: «إن الحكومة اليابانية مستعدة لقبول الشروط المذكورة في الإعلان الذي صدر في بوتسدام في 26 من يوليو (تموز) 1945، من قبل رؤساء حكومات الولايات المتحدة، بريطانيا العظمى، والصين، ولاحقًا بمشاركة حكومة الاتحاد السوفياتي، آخذين بالاعتبار أن البيان المذكور لا يشمل أي مطلب قد يكون مجحفًا بامتيازات صاحب الجلالة كحاكم مطلق».
ليلة اليابان الطويلة في 9 أغسطس انتهت أخيرًا، لكن اليوم الأطول لم يأتِ بعد.
في واشنطن، رغم أن الرئيس ترومان بدأ يفقد صبره، فقد قرر الوثوق بمؤشرات طوكيو على قبولها، واعتبر الأمر مسألة ساعات، وفي تعليماته للجنرال ماك آرثر قال ضمن عدة أشياء: «من لحظة الاستسلام، فإن صلاحية الإمبراطور والحكومة اليابانية في قيادة الدولة ستكون خاضعة لك، وستتخذ الخطوات التي تراها مناسبة لتنفيذ شروط الاستسلام».
في العاشرة والنصف من يوم الرابع عشر من أغسطس، كان أعضاء مجلس الوزراء وأعضاء المجلس الأعلى للحرب، وبعض الرجال الآخرين المهمين في الحكومة قد تجمعوا. كانوا قد أُخبروا أن لا يلبسوا الزي الرسمي، فكان البعض، حيث الطقس الحار والرطوبة العالية، قد استعار ربطات عنق وجاكيتات معاونيهم. كانت الغرفة تحت الأرض ليست فقط رطبة، بل مليئة بالعفن، والماء ينز من السلم المؤدي إليها. في الوقت المحدد وصل الإمبراطور، وبعد خمس وعشرين دقيقة صارت الغرفة مثل حمام بخار صغير.
كان الإمبراطور يرتدي زيًّا عسكريًا بسيطًا، سار مباشرةً نحو مقدمة الغرفة وجلس على كرسي بسيط بظهر قائم عند الطاولة الصغيرة المغطاة بشرشف مذهّب. وخلفه شاشة كبيرة لامعة.
سكرتير رئيس مجلس الوزراء ساكوميزو، ذكر لاحقًا أنه كان متخوفًا من أن رئيس الوزراء لن يكون قادرًا على المواصلة، إذ بدا غامضًا ذلك الصباح وغير مستعد للحديث، لكن مخاوف ساكوميزو كانت غير صحيحة، إذ قال سوزوكي بوضوح وبلاغة، إن «صاحب الجلالة قد دعا إلى عقد الاجتماع لمناقشة موضوع قبول ردّ الحلفاء». وأوضح نقاط الاختلاف في الرأي التي أدّت بالاجتماعات السابقة إلى طريق مغلق. ثم دعا أولئك الذين يخالفون الأغلبية بالرأي للتعبير عن رأيهم. تحدث أوميزو وأنامي باختصار، تويودا أخذ الفترة ذاتها، بدا واضحًا أنهم كلهم كانوا تحت تأثير الإجهاد والتعب. تويودا لم يتحدث بشكل جيد، لكنه كان يناقش بتعب وحزن مألوفين لكل الحاضرين.
عندما أنهى المنشقّون الثلاثة حديثهم، نهض رئيس الوزراء معتذرًا للإمبراطور عن انقسام مجلس الوزراء، وطلب منه مرة أخرى قرارًا إمبراطوريًا.
كان الصمت يسود الغرفة الصغيرة المزدحمة الناضحة بالعرق. الرجال الـ24 كانوا ينتظرون ليستمعوا للمرة الثانية صوت الغرنوق، الذي يدرك أنه بهذا سيضع نهايةً لعهد الموت والدمار الذي استمر لأربعة وأربعين شهرًا، وليأتي الآن وقت الحصاد معلناً : سقوط الإمبراطورية اليابانية.
الإدراك المتأخر لهذه الحقيقة التي عرفها البعض منذ البداية؛ أن اليابان أقل من أعدائها في المصادر الطبيعية، والطاقة الإنتاجية، والقوى البشرية، ليس لديها فعلاً الفرصة لكسب حرب اضطرت لخوضها. كانت فقط الرغبة الجماعية لشعبها هي التي ساقتها لخوضها إلى هذا الحد، الآن، يُؤمل، أن ذلك كان من أجل التركيز على اتجاه آخر، وهو: غسل وصمة الماضي بدموع الـ24 رجلاً المجتمعين في ذلك الملجأ تحت الأرض وهم يراقبون إمبراطورهم ينهض ويمسح وجهه بمنديل أبيض، قبل أن يبدأ حديثه التاريخي للشعب.
دموع الـ24 رجلاً في الـ24 ساعة، هي دموع البلد كله: 24 ساعة من أطول وأصعب، وربما الأكثر مرارة على الإطلاق في تاريخ اليابان الطويل.



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.