أطول يوم في تاريخ اليابان

سجل تفصيلي للأحداث السياسية والعسكرية والنفسية في الـ24 ساعة التي سبقت إعلان طوكيو استسلامها في الحرب العالمية الثانية (1 من 3)

لقطة للاجتماع الذي عقده الامبراطور الياباني هيروهيتو مع حكومته وجنرالاته عام 1949 لتحديد الموقف من الحرب
لقطة للاجتماع الذي عقده الامبراطور الياباني هيروهيتو مع حكومته وجنرالاته عام 1949 لتحديد الموقف من الحرب
TT

أطول يوم في تاريخ اليابان

لقطة للاجتماع الذي عقده الامبراطور الياباني هيروهيتو مع حكومته وجنرالاته عام 1949 لتحديد الموقف من الحرب
لقطة للاجتماع الذي عقده الامبراطور الياباني هيروهيتو مع حكومته وجنرالاته عام 1949 لتحديد الموقف من الحرب

تكمن أهمية كتاب «أطول يوم في تاريخ اليابان.. التعصب الذي قاد اليابان إلى حافة القيامة» الذي ننشر منه ثلاث حلقات متسلسلة، أساسًا في كشفه جانبًا من الحالات النفسية التي كانت تتحكم، سرًا، في مواقف وسلوك شخصيات سياسية وعسكرية كبيرة، تتحدث بلياقة وهدوء، لكن دواخلها تعتمل بالغضب والفزع والضياع، فقد كان مطلوبًا منها اتخاذ قرارات سريعة لمصارعة الزمن الذي كان يهدد، في لحظاته الأخيرة، أكبر إمبراطورية استعمارية في الشرق بالانهيار، وقادتها بالهوان، بعد أن أصبحوا يعيشون في ملاجئ تحت الأرض، محاصرين بين نزعة ضباطهم المتعصبة للاستمرار في الحرب، وهزائم جيوشهم المتوالية أمام زحف قوات الحلفاء، تعززها غارات كثيفة فوق مدن اليابان وعاصمتها طوكيو، ثم مسح هيروشيما وناغازاكي من الوجود بأول سلاح نووي يُستَعمل في التاريخ.
ولا بد أن نلاحظ في السرديات والوقائع التي يرويها الكتاب، بشكل شبه روائي، الشبه الكبير بين عنجهية العقلية الشوفينية وسيطرتها (متمثلة بالمؤسسة العسكرية) على كل أوجه الحياة في اليابان ذلك الوقت، بما يحدث حاليا في سوريا ومن قبلها العراق، حيث تطغى شوفينية الحاكم على أصوات السلام، حتى لو قضى الشعب كله، طالما الحاكم وعساكره يستمتعون بحياة «كريمة». وسوف نرى تفاصيل مشابهة إلى حد كبير لما يجري اليوم، وكأن التاريخ فعلاً يظل يُعيد نفسه بلا رحمة، وتنشر صحيفة «الشرق الأوسط» الحلقة الأولى من كتاب «أطول يوم في تاريخ اليابان.. التعصب الذي قاد اليابان إلى حافة القيامة»، التي تتبعها حلقتان في اليومين المقبلين.
في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، الخامس من أغسطس (آب) 1945، حدث أمران تاريخيان في الوقت نفسه باليابان: الشعب الياباني سمع صوت إمبراطوره لأول مرة، ليخبرهم في الراديو أن بلدهم خسر حربه الأولى. هذا الكتاب هو سجل تفصيلي للأربع والعشرين ساعة التي سبقت ذلك البث، منذ الاجتماع الإمبراطوري حيث اتخذ قرار الاستسلام إلى إذاعة خطاب الإمبراطور نفسه.
كان ذلك أطول يوم يعيشه شعب اليابان في تاريخه.
بالنسبة لنا، نحن أعضاء معهد دراسات حرب الباسيفيك، كانت فكرة تجميع وكتابة هذا السجل مهمة للغاية، إذ بدا كما لو أننا نعيش من جديد قسوة تلك الأحداث التي عاناها بلدنا. الخامس عشر من أغسطس سنة 1945، كان ذروة السنوات المائة الأخيرة في تاريخ اليابان، منذ عهد ميجي. كل مستقبل الشعب الياباني، واليابان نفسها، يتوقفان على ذلك اليوم.
إنني الأكبر سنًا بين أعضاء معهد دراسات حرب الباسيفيك، فقد كنت في الصف الثالث الإعدادي يوم تحدث الإمبراطور من الراديو. حينها كنت أعمل في مصنع للعتاد الحربي ينتج خرطوشة للرشاش 20 ملم، وتلك كانت مساهمتي في الحرب. وفي أحد الأيام قصفت طائرات بي 29 المصنع وقتل كثير من زملائي في العمل. يومها كانت جبهة القتال قد انتقلت إلى الداخل، مع ذلك كنت لا أزال آمل بانتصار اليابان، لذلك كان شعوري في منتصف ذلك اليوم خليطًا من المرارة والغضب، مع إحساس بعبثية الأمل، إذ أُخبرنا أننا مع احتلال اليابان سوف نُجبر على عيش حياة العبيد.
في ذلك اليوم دخنتُ أول سيجارة، الأمر الذي كان ممنوعًا في المدارس، مع الإصرار على القيام بأي شيء آخر، فقد كنت لا أزال شابًا، وبدا أن القليل من الوقت قد تُرك لي لأعيشه، ولم تكن هناك متعة في أي شيء أفعله. بالنسبة لنا، نحن الذين عانينا الحرب، سواء على الجبهة أو في الداخل، كنا بشكل أو بآخر عرضة لرعب الحرب. كانت الحرب مثل قدر لا يمكن تجنبه. كان علينا تحمّل قسوة المشاهد اليومية لوحشية الإنسان ضد الإنسان.
على الرغم من أن الخامس عشر من أغسطس وضع نهاية لبعض تلك الوحشية، فالحقيقة أن الهزيمة، بالنسبة للشعب الياباني، كانت تجربة كارثية من الصعب جدًا قياس آثارها. وحتى اليوم لا تزال اليابان ضالّة طريقها لتهدئة أرواح قتلى الحرب، وإلى أن تفعل، لا تستطيع القول إن كانت قد نسيتْ الماضي، أم أنها تعيش برمتها في الحاضر.
ما الذي قاد مئات الآلاف إلى الموت؟ بعض الإجابات قد توجد في أفكار وذكريات اللاعبين الرئيسيين في دراما الأربع وعشرين ساعة تلك! وكان ذلك أحد أسباب وضع هذا الكتاب.
أن تموت من أجل وطنك، كان يعتبر على الدوام واجبًا دينيًا في اليابان. قد تكون عشرون عامًا ليست طويلة بما يكفي على أمّة، لتطرح عنها ذلك الاعتقاد القديم، لكن يجب عليها أن تفعل هذا، إذا أراد الشعب الياباني أن يعيش في عالم اليوم وليس الأمس. وربما هذا سببٌ آخر لوضع هذا الكتاب.
إن مصاعب تسجيل أحداث تاريخ معاصر، بينما ممثلوه لا يزالون أحياء، واضحة. لقد قابلنا كل الأحياء من المشاركين في الدراما النهائية لهزيمة اليابان - مع استثناء واحد، هو بطل تلك الدراما، الإمبراطور نفسه وبينما نقرأ بشكل طبيعي كل ما نُشر في تلك الفترة، فإن القاعدة الأساسية لتقريرنا تعتمد المقابلات الشخصية، صياغتنا للأحداث، المشاعر والحالات الذهنية، كلها دُعمت من قبل الرجال الذين قابلناهم.
مع ذلك، علينا أن نتذكر أن أكثر من عشرين سنة انقضت منذ ذلك اليوم. الأحداث تصاعدت بسرعة، لوّنتْ الذاكرة بطريقة قدرية لا يمكن تجنبها. ذاكرات شاحبة، رجال لهم أسبابهم لاسترجاع ما يريدون تذكره فقط، أو تكرار ما يرغبون بتكراره فقط. ثم على المؤرخ أن يستخلص الحقيقة من الزيف - وأحيانا لا يمكن تلافي الفشل.
كثير من اللاعبين الرئيسيين ماتوا، إذ كانوا رجالاً مسنين وقت حصول الدراما، والبعض مات قبل وقت قريب. أحدهم فضّل عدم الكلام: عندما قابلنا الماركيز كويتشي كيدو، ظلّ كاتم السر الإمبراطوري رافضًا كسر صمته.
محنة استسلام اليابان كانت أشبه بزلزال ما فتئت آثاره بادية حتى اليوم. ولإعادة حساب التفاصيل المأساوية للهزيمة، ينبغي، بل ومن الضروري، استحضار وحث الذاكرة الحزينة، فربما ساعدتْ أيضًا على تعبيد الطريق لبداية جديدة أفضل. وقد يكون هذا أهم الأسباب لوضع هذا الكتاب وهو:
حروب واتفاقيات اليابان منذ عهد الإمبراطور ميجي (1868)
حتى الاستسلام في عهد الإمبراطور هيرو هيتو (1945)

أحداث بارزة
عام 1868، وهو العام الذي توّج فيه الإمبراطور ميجي، حُكمت اليابان من قبل لوردات الحرب الذين أطلق عليهم اسم شوكانز. وبتسلم ميجي الحكم، بدأت اليابان نقلة راديكالية حوّلتها من مجتمع إقطاعي إلى أقوى أمّة في العالم المعاصر، فقد اهتم ميجي بعصرنة اليابان بعد عزلة عن الغرب استمرت 250 سنة، واهتم، شخصيًا، بدعم مؤسستي الجيش والبحرية، مما أنعش لدى اليابانيين الروح الشوفينية والرغبة في التوسع.
* في أكتوبر (تشرين الأول) 1874، غزت اليابان جزيرة فرموزا لتصبح قواتها على مشارف الصين. وفي فبراير (شباط) قامت قوات يابانية مموهة بالهجوم على كوريا. وفي فبراير من نفس العام رتبت اليابان الخطوات لاستقلال كوريا.
* 22 مايو (أيار) 1882، وقعت الولايات المتحدة معاهدة مع كوريا، رتبت بموجبها استقلال كوريا عن الصين وروسيا واليابان، وكانت الدول الثلاث تتنازع للسيطرة عليها.
* 1 أغسطس (آب) 1894، أعلنت الحرب بين اليابان والصين.
* 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1894، وقعت الولايات المتحدة واليابان اتفاقية تجارية.
* 23 أبريل (نيسان) 1895، تدخلت روسيا وألمانيا وفرنسا لإيقاف الحرب بين اليابان والصين، وأجبرت اليابان على إعادة بعض المناطق التي احتلها إلى الصين.
* 30 يناير (كانون الثاني) 1902، وقعت بريطانيا واليابان اتفاقية يحترم بموجبها الطرفان مصالح كل منهما في الصين.
* 5 سبتمبر (أيلول) 1905، نشبت الحرب بين روسيا واليابان في منشوريا وكوريا.
* 15 أبريل 1907، سلمت اليابان منشوريا للصين ضمن شروط معاهدة بورتسموث، التي وضعت نهاية للحرب بين اليابان وروسيا.
* 4 يوليو (تموز) 1910، اعترفت روسيا لليابان بحقها في السيطرة على كوريا، مقابل إطلاق يد روسيا في منشوريا.
* في يونيو (حزيران) 1915، وسعيًا وراء التدخل في شؤون الصين، وضعت اليابان 21 مطلبًا، تجعل الصين دولة خاضعة للنفوذ الياباني.
* في 30 يوليو 1921، مات ميجي، وتولى السلطة ابنه يوشيتو في نوفمبر 1921، فأطلق على نفسه لقب الإمبراطور يايشو. إلا أن يايشو ظهرت عليه بسرعة علامات الاختلال العقلي، ثم توفى عام 1924.

عهد الإمبراطور هيرو هيتو:
* 25 في ديسمبر (كانون الأول) 1926، خلف هيرو هيتو والده يوشي هيتو في تولي السلطة، وفي 10 نوفمبر 1928 توّج إمبراطورا لليابان، إذ إن التقاليد اليابانية تفرض مرور سنتين على وفاة الإمبراطور ليصبح ولي العهد إمبراطورا جديدًا للبلد. حكم هيرو هيتو لأطول فترة في تاريخ اليابان. تميّز عهده بالسلام المشرق، على الرغم من حرب اليابان ضد الولايات المتحدة من 1941 إلى 1945. وكما يصف المؤلف هيرو هيتو في مكان آخر، فهو شخص وديع، مسالم، يكره العنف والحروب، إلا أن العسكريين الذين يقدسون الإمبراطور حسب التقليد الديني للبلد، أرادوا خلق سلطة موازية لسلطته من خلال الحروب التوسعية وتغذية الروح الشوفينية بين اليابانيين، وقد نجحوا في ذلك، إلا أنهم دمروا اليابان في النهاية. وقد سار هيتو على نهج جده الإمبراطور ميجي بالنسبة للدستور فقد ظلّ الإمبراطور بعيدًا عن أي تدخل شخصي في قرارات الحكومة، فاستغل الجيش هذه النقطة لاحتلال منشوريا ضد رغبة الإمبراطور، وحسب بعض المؤرخين فإن احتلال اليابان للصين هو الذي مهّد للحرب العالمية الثانية.
* أثناء فترة الحروب السابقة، تحوّل الجيش إلى قوة مؤثرة في الحياة السياسية، وخلق لنفسه سلطة موازية لسلطة الإمبراطور. ورغم طبيعة هيرو هيتو الميالة إلى السلام، وتطوير المظاهر الديمقراطية التي بدأها جده ميجي، واصل الجيش حروبه التوسعية في المنطقة، تشجعه حكومات ضعيفة، وأخرى تطمح إلى إخضاع البلدان المجاورة لسلطة اليابان.
*18 سبتمبر 1931، عادت اليابان واحتلت منشوريا.
* 25 نوفمبر 1936، وقعت اليابان وألمانيا اتفاقية لحماية العالم المتحضر من تهديد البولشفيك. وفي 6 نوفمبر 1937 انضمت اليابان إلى المحور النازي الفاشي.
* 13 أبريل 1941، وقع ستالين اتفاقية سلام مع اليابان.
* عندما احتلت ألمانيا هولندا ثم فرنسا، أصبحت الهند الصينية التي كانت تحت الهيمنة الاستعمارية الهولندية والفرنسية غير محميّة، فهددت اليابان بالاستيلاء عليها، وفي سبتمبر عام 1937 دفعت اليابان بقواتها إلى الهند الصينية لتحتلها بهدف الحصول على قواعد عسكرية لقواتها في حربها ضد الصين.
*27 سبتمبر 1940، وقعت اليابان معاهدة مع ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، تنصّ على التحالف بين الدول الثلاث لخلق وضع عالمي جديد، تسيطر فيه ألمانيا وإيطاليا على أوروبا، بينما تسيطر اليابان على شرق آسيا.
*7 ديسمبر 1941، هاجمت الطائرات اليابانية القاعدة الجوية الأميركية في بيرل هاربر في هاواي.
* في منتصف 1942، احتلت القوات اليابانية الفلبين، ومستعمرات هولندا، ومالاوي، وبورما، وبذلك سيطرت على المنطقة الآسيوية الوسطى من الباسيفيك، وكانت قواتها وصلت إلى جزيرة اليوتيان في آلاسكا. كانت اليابان تطمح، بانتصاراتها السريعة، إلى عقد معاهدة سلام مع الولايات المتحدة أثناء انشغال الأخيرة في الحرب إلى جانب حلفائها في أوروبا ضد هتلر.
* حتى منتصف 1942، كان حظ اليابان في ذروته، والحلم بالهيمنة على شرق آسيا يوشك أن يتحقق، إلا أن الولايات المتحدة قد وصلت إلى قمة تطورها الصناعي، وكان ذلك فقط بعد أشهر من حادث بيرل هاربر، حين بدأ الحظ ينقلب إلى جانب خصمها.
* 25 ديسمبر 1941، استسلمت هونغ كونغ لليابان.
* في 17 أبريل 1942، أنذر الجنرال الأميركي جيمي دووليتل بقصف طوكيو بطائرات «B25» مما فاجأ سكان اليابان وصدمهم، وفي يونيو من السنة ذاتها بدأت المعارك البحرية في بحر كورال، إذ انطفأ حظ اليابان تماما في الدفاع عن نفسها.
* 15 يونيو 1944، بدأت الولايات المتحدة قصف المدن اليابانية.
* في بداية 1945، أنزل الجنرال ماك آرثر قوات أميركية في خليج Lingayen بلوزون لإعادة الاستيلاء على الجزيرة التي احتلتها اليابان قبل أربعة أعوام، مما ساعد على إنهاء المقاومة العنيفة التي أبداها الجيش الياباني قبل الانسحاب من الفلبين وفي مانيلا التي استمرت لعدة أشهر، وبذلك نظف الأميركيون آخر جيب للمقاومة اليابانية في الفلبين.
* 26 يوليو 1945، اجتمع قادة الدول الحليفة في ضاحية بوتسدام بمدينة برلين بعد احتلالها، وأنذروا اليابان بالاستسلام أو مواجهة الدمار. لكن اليابان واصلت القتال.

اليوم السابق
في عام 1931، دخل الجيش الإمبراطوري الياباني منشوريا ليصبح، نتيجة لذلك، القوة المسيطرة في حياة الشعب. وبعد 14 سنة من ذلك التاريخ، أي في عام 1945 أدرك الإمبراطور ومعظم رجال حكومته أن اليابان قد خسرت الحرب، إلا أن مشكلتهم العسيرة كانت كيف يوصلون هذه الحرب إلى نهايتها.
كان الجيش الياباني في تلك المرحلة لا يزال قويًا، ولن يقبل الهزيمة ولا الاستسلام، فأصرّ أنه وحده الذي يعرف مصلحة البلد. لهذا فإن صراع اليابان الأخير لم يكن مع العدو، بل مع نفسها. وللحظة أو اثنتين من ذلك اليوم الطويل من أغسطس، بدا أن الصراع لا مفرّ منه، ولو كان الإمبراطور نفسه في قلب الصراع لكان في النهاية من يقوده إلى الحلّ.
بعيدًا إلى الوراء، في فبراير (شباط) من عام 1942، كان اللورد ماركيز كويشي كيدو، كاتم أسرار الإمبراطور، قد أدرك أن التفوق الأميركي على اليابان سيكون حتمًا العامل الحاسم في الحرب، فنصح الإمبراطور سرّا بأن «يقتنص أي فرصة ممكنة للتعجيل بوضع نهاية للحرب». وقد توصل الآخرون إلى الاستنتاج الخطير ذاته، لكن بعد أن انتهت الحرب. كان الوضع خطيرًا لأن الجيش لم يتفهم الموقف.
كانت المحاولات السرية لإنهاء الحرب من خلال منظمة الـ«OSS» الأميركية السويسرية قد باءت بالفشل، وكثير من الرجال، بمن فيهم الإمبراطور نفسه، فضّلوا تعليق الآمال على المساعي الحميدة التي يقوم بها الاتحاد السوفياتي، وظلوا معلقين بهذه الآمال إلى اليوم الذي أعلن فيه ستالين الحرب على اليابان.
الوزارة الحالية للبارون سوزوكي كانت تصرخ أبعد من صراخ الجنرال توجو، أحد أكبر مهندسي خطة الجيش لتقسيم العالم بين اليابان وألمانيا. وزير الخارجية شيجينوري توكو ترأس المجموعة المؤيدة لإعلان بوتسدام، وإن بوقت متأخر جدًا، ليوفروا على الشعب الكثير من العناء، ويجنبوا اليابان الدمار الشامل. وكلتا المجموعتين (المؤيدة للسلام والمحبّذة للحرب) متشابهتان بإصرارهما على صون الكيان الأساسي للأمّة باستعدادهما لوهب أرواحهم من أجل معتقداتهم ومن أجل الإمبراطور، لأن اليابان دون سيادة مسألة لا يمكن التفكير بها من قبل الجانبين.
عشرون يومًا قبل اليوم الأخير، استيقظ الشعب الياباني على ما بدا لهم يوم حرب عاديًا من أيام الصيف الحارة الرطبة. المعدة خالية ويبدو أنها ستبقى كذلك، وثمة عمل يجب إنجازه، هو مواصلة الحرب حتى النهاية، بينما كانت الحرب تكبر وتصعب مع مرور الأيام. مع زيادة سوء التغذية، تصاعد التلوث الإشعاعي الذي يعني الموت للبعض والتشرد لكثيرين، ونقص المواد الخام الذي يعيق الإنتاج. كل هذا في حرارة ورطوبة صيف اليابان. يوم آخر رغم الجوع والإرهاق، لكن ما زالت بسالة اليوم مثل بسالة الأمس.
إلاّ أنهم كانوا مخطئين، والحكومة علمت بهذا. في السادسة من صباح نفس اليوم التقطت دائرة الإذاعات الخارجية في طوكيو بثًّا من سان فرانسيسكو، يعلن عن بيان وقعه في اليوم السابق كل من الرئيس الأميركي ورئيس جمهورية الصين ورئيس وزراء بريطانيا الذي كان طرفًا في محادثات بوتسدام، يوصي بإعطاء اليابان فرصة لإنهاء الحرب. على الفور بدأ مكتب وزير الخارجية دراسة عبارات البيان بينما الترجمة أصبحت جاهزة.
لقد حان الوقت لتقرر اليابان فيما إذا كانت ستظل محكومة بنصائح العسكريين المتشبثين برأيهم، الذين أوصلت استنتاجاتهم غير الذكية إمبراطورية اليابان إلى حافة الهلاك، أم أنها ستتبع طريق المنطق؟
بعد ذلك جاء دورنا. لن ننحرف عنهم، لا يوجد بديل، لم نعد نحتمل أي تأخير. علينا إنهاء تلك الفترة، حيث كانت الصلاحيات والنفوذ بيد أولئك الذين خدعوا الشعب الياباني وأدخلوه في مشروع لاكتساح العالم، بإصرارنا على أن نظامًا جديدًا من السلام والأمن والعدالة سيكون مستحيلاً ما لم يختفِ العسكر من العالم!
«نحن لا نقصد استعباد اليابان كعرق، أو تدميرها كأمّة، لكن العدالة الصارمة تقتضي إقصاء مجرمي الحرب، بمن فيهم أولئك الذين أوقعوا وحشيتهم على أسرانا. على الحكومة اليابانية أن تزيل كل العقبات من أجل إحياء وتعزيز الاتجاهات الديمقراطية لدى الشعب الياباني. حرية الكلمة، العقيدة، الفكر، ومبادئ حقوق الإنسان لا بُدّ أن ترسى.
نحن ندعو الحكومة أن تعلن الآن التنازل غير المشروط عن كل ما احتلته بالقوة، وأن تقدم التعهدات الصحيحة والملائمة لإثبات حسن النيات. أما البديل عن كل هذا فسيكون الدمار السريع والشامل لليابان».
أول شخص استجاب لبيان بوتسدام الذي بثّ من سان فرانسيسكو كان نائب وزير الخارجية شونيكي ماتسومو، فقد نصح وزير الخارجية توكو بأن على اليابان أن تقبل ما جاء في ذلك الإعلان، حيث سيكون الرفض أكبر حماقة ترتكب، وكان قد بدأ بتحرير مسودة الموافقة اليابانية فعلاً، ليتم إرسالها إلى سفارات اليابان في سويسرا أو السويد، ومن هناك تمرّر إلى العدو. عندها دخل توكو الغرفة.
«انتظر..» قال وزير الخارجية: «لن يكون الأمر بهذه السهولة». كان صوته في غاية الحزن، «فالجيش لن يقبل الإعلان كما جاء».
لكن توكو شعر أن حقيقة تخفيف الحلفاء حدة مطلبهم الأول في إعلان القاهرة من «استسلام اليابان غير المشروط» إلى «استسلام كل قوى الجيش الياباني غير المشروط» مفاده أن ثمة تخفيفًا وتوددًا أكثر في اللهجة سيأتي قريبًا، بحيث يقبل به الجيش ويحفظ له ماء وجهه. لذا فقد استنتج أنه قبل الردّ، على اليابان أن تبذل محاولة أخيرة للاستعانة بالمساعي الحميدة للسوفيات. لقد توصل توكو إلى هذا الاستنتاج على الرغم من حقيقة أن كل محادثات طوكيو مع موسكو، ولحد الآن، لم تكن حاسمة على الإطلاق. فمحاولات توظيف مساعدة السفير السوفياتي في طوكيو باءت بالفشل، وناوتاكي ساتو، السفير الياباني لدى الاتحاد السوفياتي أكد لتوكو أنه «لا مجال مهمًا لكسب الاتحاد السوفياتي لجانبنا...»، ما لم يكن يعرفه توكو بالطبع، إن روزفلت وتشرشل اتفقا على امتيازات كبرى في الشرق الأوسط، إذا دخل ستالين الحرب ضد اليابان خلال شهر أو ثلاثة أشهر بعد انتهاء الحرب في أوروبا.
على الرغم مما كُشف وما لم يكشف، كان توكو قادرًا ليس على إقناع نفسه فقط، إنما رئيس الوزراء أيضًا بأن الاتحاد السوفياتي لم يكن عاجزًا تجاه اليابان، والمساعي الحميدة للكرملين ربما لا تزال ممكنة.
في الساعة العاشرة والنصف صباح 27 يوليو (تموز)، اجتمع المجلس الأعلى لإدارة الحرب لمناقشة إعلان بوتسدام واحتمالات الوساطة السوفياتية. مجلس الحرب الأعلى هذا يتألف من اليابانيين الست الكبار، رئيس الوزراء، وزير الشؤون الخارجية، وزير الحرب، وزير البحرية، ورئيس عام قوات الجيش ورئيس عام البحرية. في الاجتماع أكد توكو على أهمية الانتقال من استسلام اليابان غير المشروط إلى استسلام القوات المسلحة اليابانية غير المشروط، وأعلن عن اعتقاده أن رفض ما جاء في الإعلان سيكون تصرفًا غير سياسي إلى حدٍ كبير. كان توكو قادرًا رغم المعارضة الكبيرة على إقناع المجلس الأعلى بتأجيل ردّ اليابان إلى أن يسمع مرة أخرى من موسكو. هذا يعني، رغم الكلمات المنذرة: «أننا لم نعد نتحمل أي تأجيل». كانت فترة من الترقب الحذر.
ما أفضل طريقة لإخبار الشعب الياباني بالإعلان؟ كانت تلك مشكلة كبيرة أخرى. مجلس الوزراء عقد اجتماعًا كاملاً بعد الظهر في محاولة لحلّها.

* وضع الكتاب وترجمه إلى الإنجليزية مجموعة من باحثي معهد دراسات حرب الباسيفيك



يوم هزَّت «أيلول الأسود» شِباك الألعاب الأولمبية في ميونيخ

TT

يوم هزَّت «أيلول الأسود» شِباك الألعاب الأولمبية في ميونيخ

أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)
أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)

كان يحيى السنوار في العاشرة من عمره حين هزت منظمة «أيلول الأسود» الفلسطينية في 1972 شِباك دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ، وجابت صور جثث المهاجمين والرهائن العالم بأسره.

نحو مليار شخص تابعوا ما سميت «مجزرة ميونيخ» التي اختلط فيها الرصاص الألماني بالرصاص الفلسطيني، وكان ذلك قبل هبوب رياح العولمة وولادة الهاتف الذكي. وبمقاييس تلك الأيام ومسرح الحدث غير المسبوق يمكن وصف ما حدث بأنه «طوفان» لكنه انطلق على الأرض الأوروبية.

رفضت حكومة غولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، الرضوخ لمطالب الخاطفين وبينها السماح لهم بالمغادرة إلى مصر مع رهائنهم. وخدعت الحكومة الألمانية الخاطفين واستهدفتهم نيران قواتها. تسبب الافتقار إلى الخبرة في مقتلة دُبّجت عنها كتب وأُنتجت أفلام وأُهرق حبر كثير. ترددت مائير في البداية، لكنها وافقت تحت ضغط عدد من وزرائها على عملية «غضب الرب» التي تقضي باغتيال كل من له علاقة بهجوم ميونيخ في مطاردة عابرة للخرائط.

أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)

لا غرابة إذاً أن تؤرق استضافة الدورة الحالية من الألعاب الأولمبية بلداً مثل فرنسا. فهذا الحدث العالمي قد يُغري المجموعات الإرهابية التي تبحث عن منبر استثنائي لتوجيه ضربة مدوية على الصعيد الدولي. يضاعف المخاوف أن العقود الماضية شهدت ولادة تنظيمات أدمت العالم، من قماشة «القاعدة» و«داعش» وغيرها.

يقع الصحافي في فخ المحطات المثيرة فيروح يسأل عنها كلما عثر على شريك فيها أو شاهد. وأنا كنت من هؤلاء ولا أزال. وشاءت المهنة أن ألتقى الرجلين اللذين صنعا موقعة ميونيخ تخطيطاً وتنفيذاً. اسم الأول صلاح خلف (أبو إياد) عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، والرجل الثاني فيها بعد ياسر عرفات. واسم الثاني محمد داود عودة (أبو داود) عضو «المجلس الثوري» لحركة «فتح».

عرفات أبلغ وعباس صرف التكاليف

بعد ما يزيد قليلاً على نصف قرن، يمكن القول إن «الموساد» الإسرائيلي قتل كثيرين لكنه لم يقتل الثلاثة الذين وُلدت الفكرة على أيديهم وتحققت في صورة مأساة. والثلاثة هم: «أبو إياد»، ومساعده فخري العمري (أبو محمد)، و«أبو داود». اُغتيل «أبو إياد» والعمري لكن برصاص صبري البنا («أبو نضال» زعيم انشقاق «فتح - المجلس الثوري»، وأُصيب «أبو داود» برصاص «أبو نضال» أيضاً).

في تونس، قال لي «أبو داود» إن الفكرة «جاءت من العمري في لقاء ثلاثي. استوقفتْ الفكرة (أبو إياد) ثم أعجبته وأيّدتُها أنا». ويقول «أبو داود» إن عرفات «كان يعرف أن عمليةً لاحتجاز الرهائن ومبادلتهم بسجناء فلسطينيين في إسرائيل ستجري في ميونيخ، وتولى محمود عباس (أبو مازن) مسؤول المالية في (فتح) صرف المبلغ اللازم لتنفيذها».

وشدد «أبو إياد»، رداً على سؤال طرحتُه عليه، على أن العملية خرجت عن مسارها بسبب تشدد مائير ورعونة الحكومة الألمانية، وأن تعليمات مشدَّدة كانت قد أُعطيت للمنفذين بعدم قتل الرهائن أو إطلاق النار إلا في حالة الاضطرار القصوى للدفاع عن النفس. ويؤكد «أبو داود» أن التعليمات كانت صارمة بعدم القتل.

ملابس داخلية لتهريب السلاح

قصة مثيرة فعلاً. تولى «أبو إياد» شخصياً إحضار الأسلحة التي استخدمها المنفذون وكانت برفقته سيدة لبنانية سميت «جولييت» ساهم فتح حقيبتها المغطاة بملابس داخلية في إحراج رجل الجمارك الألماني، فمرَّر الحقائب الأخرى من دون تفتيش وهي كانت تحمل الرشاشات. وتولى «أبو داود» تخزين الحقائب في محطة القطار وتبديل أماكنها يومياً بانتظار موعد التنفيذ.

«أبو داود» خلال الحديث إلى الزميل غسان شربل (الشرق الأوسط)

لم تراود الشكوك أجهزة الأمن الألمانية في ما يتعلق بزائر كان يتنقل بين فنادق ميونيخ بجواز سفر عراقي يحمل اسم سعد الدين ولي. كان الرجل المتنكر «أبو داود». وسيتولى استطلاع القرية الأولمبية أكثر من مرة.

وفي ليلة التنفيذ سيستخدم قامته الفارعة لمساعدة بعض المنفذين على تخطي السياج المحيط بالقرية الأولمبية. وتشاء الصدفة أن يتولى مساعدة منفذين آخرين رياضيون أميركيون عائدون من سهرة سمر من دون معرفة هوية رفاق «أبو داود» وأن حقائبهم ستختطف بعد قليل أنفاس الدورة الأولمبية والعالم.

قصة «أيلول الأسود»

لم تكن «أيلول الأسود» منظمة مستقلة. وُلدت على دويّ المعارك التي دارت بين الجيش الأردني والتنظيمات الفلسطينية في سبتمبر (أيلول) 1970 واختتمت في العام التالي بعد معارك جرش وعجلون التي قُتل فيها القيادي الفتحاوي «أبو علي إياد».

وُلدت «أيلول الأسود» من رغبة في الثأر من النظام الأردني ومن المواجهة المفتوحة مع إسرائيل. كانت يافطة تستخدمها مجموعات في «فتح» لتنفيذ عمليات لا تريد تحمل مسؤولية مباشرة عنها، ونسبت إليها أحياناً عمليات لا علاقة لها بها. ويقول «أبو داود» إن علي حسن سلامة الذي اغتاله «الموساد» في بيروت لم تكن له علاقة على الإطلاق بعملية ميونيخ. ويضيف أن ما حصل في ميونيخ أثار حماسة الشعب الفلسطيني، ما دفع سلامة إلى الإيحاء بأنه شريك في العملية، خصوصاً أنه استخدم لافتة «أيلول الأسود» لتنفيذ بعض العمليات.

أثار الخروج القسري من الأردن حالة من الغضب في صفوف الفلسطينيين. وطُرحت أسئلة عن مسؤولية القيادات الفلسطينية في خسارة ما كان يعد الموقع الأفضل لمواجهة إسرائيل وإبقاء التواصل قائماً مع الأراضي المحتلة. ترك الخروج جرحاً في نفس «أبو إياد» لا سيما بعدما استمر اللغط حول ما قيل إنه اتفاق توصل إليه مع السلطات الأردنية إبان اعتقاله في أحداث 1970.

تحت لافتة «أيلول الأسود» ستتم عملية تصفية الحسابات. في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 1971 سددت «أيلول الأسود» ضربة مؤلمة إلى الأردن. ففي ذلك اليوم اغتيل رئيس الوزراء الأردني وصفي التل، لدى دخوله فندق «شيراتون» في القاهرة. أربعة من أفراد المنظمة كانوا في انتظاره. وستطلق الحادثة جدلاً طويلاً لم يتوقف حتى اليوم وثمة من لا يزال يعتقد أن التل سقط برصاصة قناص كان يرابط على سطح بناية قريبة وليس برصاص فريق «أيلول الأسود».

إفراج السلطات المصرية عن المنفذين من دون محاكمتهم عزز شكوكاً أردنية بأن جهازاً مصرياً شارك أو تساهل. وكان نذير رشيد، مدير المخابرات الأردنية، قد نصح التل بعدم التوجه إلى القاهرة، لكنه رفض، وكان ما كان. تحدث «أبو إياد» في مواضيع كثيرة لكنه كان يرفض الخوض في حادثة اغتيال وصفي التل نظراً لحساسيتها، خصوصاً أن الأخير كان معروفاً بالنزاهة والشجاعة والدفاع عن فكرة الدولة والتنمية.

«أبو داود» أيضاً لم يرغب يوماً في الاسترسال في هذا الموضوع الذي تردد أنه كان ملفاً مقيماً لدى فخري العمري بعدما نال قرار اغتيال التل «موافقة مَن لا بد من موافقتهم».

بعد نحو أسبوعين من اغتيال التل، انهمر الرصاص على سيارة السفير الأردني في بريطانيا زيد الرفاعي، وأسعفه الحظ بالنجاة، واقتصرت الأضرار على إصابة في يده. حملت المحاولة توقيع «أيلول الأسود» أيضاً. وكانت هناك فصول أخرى لا يتسع المجال هنا لذكرها.

إحباطات متراكمة

في 1972 بدا الجو الفلسطيني ملبداً. خيبة الخروج من الأردن وافتقار قوات الفصائل الفلسطينية في جنوب لبنان إلى ما يمكّنها من التصدي للغارات الإسرائيلية أو التوغلات. خاف قادة فلسطينيون من انهيار المعنويات أو شيوع اليأس.

بدأ التفكير في الربيع في حلقة ضيقة في ضرورة القيام بعمل مدوٍّ يثير الاهتمام الدولي بالوضع الفلسطيني ويؤكد لسكان المخيمات أن المقاومة قادرة على إيذاء إسرائيل وإيلامها.

«أبو إياد» نقل الأسلحة إلى ألمانيا بجواز سفر مزور و«زوجة» مزيفة (غيتي)

ازداد اهتمام «أبو إياد» مع مجيء الصيف بالقيام بعمل كبير وكان موعد الألعاب الأولمبية يقترب. طلب من «أبو داود» زيارة بلغاريا والحصول هناك على مسدسات مزوَّدة بكواتم صوت «لأننا سنحتاج إليها في أوروبا». وكان العمري يمتلك لائحة المواصفات المطلوبة. كان الغرض تسديد ضربات إلى عملاء «الموساد» في القارة الأوروبية.

كانت الجهات الفلسطينية قد وجّهت منذ بداية السنة رسالة إلى اللجنة الدولية الأولمبية طلبت فيها تمكين الفلسطينيين من المشاركة في دورة ميونيخ لكن اللجنة لم ترد. واجهت رسالة ثانية المصير نفسه.

في الثامن من يوليو (تموز)، كان «أبو داود» في مدينة دورتموند لشراء سيارة قد تحتاج المجموعة إليها في عملياتها الأوروبية. اتصل في ذلك النهار بـ«أبو إياد» الذي عاجله بخبر مؤلم. خبر اغتيال الروائي والصحافي الفلسطيني غسان كنفاني رئيس تحرير مجلة «الهدف» الناطقة باسم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». قُتلت معه بانفجار سيارته ابنة شقيقته لميس الذي اصطحبها لتسجيلها في جامعة في بيروت.

بدا واضحاً أن كنفاني دخل دائرة الخطر مذ تولى إعلان مسؤولية الجبهة عن الهجوم على مطار اللد الذي نفَّذه ثلاثة من «الجيش الأحمر الياباني» يعملون تحت عباءة الدكتور وديع حداد، مسؤول «المجال الخارجي» في الجبهة والذي هز العالم بعمليات خطف الطائرات.

على مقهى في روما وُلدت الفكرة

في أول لقاء مع «أبو إياد» بعد الحادثة طرح السؤال عن رد قوي على الاعتداءات الإسرائيلية التي تخطت كل حدود. اقترح العمري مهاجمة سفارات وقنصليات إسرائيلية لكن «أبو إياد» رأى أن ذلك سيضع المقاومة في مواجهة مع الدول التي تستضيف هذه السفارات. سأل «أبو إياد» «أبو داود» رأيه فأجابه أنه لم يبلور لديه اقتراح لكن البقاء في الوضع الراهن غير ممكن.

سيكون الموعد الثلاثي المقبل في مقهى في روما. أبلغ «أبو إياد» باستمرار اللجنة الدولية الأولمبية في تجاهل وجود الفلسطينيين فانتابه الغضب. قال العمري: «ما داموا يصرون على تجاهلنا لماذا لا نحاول التسلل إلى المدينة الأولمبية؟». سأله «أبو إياد» عن الغرض فأجاب: «لنحتجز رياضيين إسرائيليين». سأله «أبو إياد» إن كان مجنوناً؟ تدخل «أبو داود» ملمحاً إلى أن معظم الإسرائيليين لهم علاقة ما بالمؤسسة الأمنية أو تابعوا تدريبات عسكرية.

صمت «أبو إياد» وبدا كمن يمحص الفكرة. قطع فجأة صمته وقال: «في مقابل من نحتجزهم من رياضيين وإداريين إسرائيليين نطالب بإطلاق عدد وازن من سجنائنا في إسرائيل. الفكرة ليست سيئة». وبعد لحظات خاطب «أبو داود» قائلاً: «ميونيخ في طريقك إلى بلغاريا».

انطلقت التحضيرات لعملية ميونيخ. وقبل المغادرة طلب «أبو داود» من «أبو إياد» التحدث إلى «أبو مازن» للحصول على تمويل للعملية، فردّ: «لا تقلق سأتحدث إليه في الوقت المناسب. أنا متأكد من موافقته وسنحصل على المبلغ اللازم».

لم ينجح «أبو داود» في إقناع البلغار بتسليمه الأسلحة. اشترطوا اتصالاً من جهة رسمية وكانوا يقصدون منظمة التحرير أو قيادة «فتح». تدخل «أبو إياد» لكنهم وضعوا شرطاً جديداً وهو أن تتجه الأسلحة إلى الشرق الأوسط لا إلى أوروبا نظراً لخطورة انكشافها هناك.

«أبو داود» مصاباً بعد محاولة اغتيال في وارسو عام 1981 (غيتي)

كان «أبو داود» يتحدث في ليل العاصمة التونسية كمن يسترجع شبابه أو لحظة عرسه. لم يستثمر دوره في ميونيخ كما فعل «كارلوس» الفنزويلي بعد عملية احتجاز وزراء «أوبك» في فيينا. أخفيت ذهولي كي لا يشعر أنه ذهب بعيداً. لا شيء يشبع شراهة الصحافي كهذه القصة المثيرة عن رجال يتحركون بجوازات سفر مزورة وتأشيرات تم التلاعب بها وتبديل فنادق وعناوين وتضليل حراس.

زيارتان استطلاعيتان

كرر «أبو داود» محاولاته لاستكشاف القرية الأولمبية. استعان ذات يوم بسيدة فلسطينية تتقن شيئاً من الألمانية. تظاهر بأنه رجل برازيلي ويريد الدخول لمصافحة أصدقاء له. رق قلب الحارس الألماني وسمح لهما. سيعود لاحقاً برفقة الشابين اللذين سيتوليان قيادة الفريق المنفذ وهما يوسف نزال ومحمد مصالحة.

اقترب من مقر البعثة الإسرائيلية ورأى امرأة تحمل أوراقاً. سألها بالإنجليزية عن مقر البعثة الإسرائيلية فاستفسرت عن سبب السؤال. رد بأنه برازيلي ويحلم كرفيقيه بزيارة إسرائيل والحصول على معلومات عن هذا البلد وكذلك على أعلام له لنقلها إلى أولادهم. تبين أن السيدة إسرائيلية ووقعت في الفخ، فما إنْ توجهت إلى المقر القريب حتى دخل الثلاثة برفقتها للتعرف على جغرافيا المكان الذي سيشهد الهجوم. استطلع «البرازيليون» قدر الإمكان المداخل والممرات والأجنحة الملحقة.

استلزمت الأسابيع الأخيرة من الإعداد لقاءات ورحلات في اتجاه جملة مدن بينها أثينا ومدريد وصوفيا وجنيف، فضلاً عن بيروت وطرابلس الليبية. كان لـ«أيلول الأسود» مركز تدريب في نقطة قريبة من صيدا في جنوب لبنان. لكن الضرورة اقتضت إرسال مجموعة من المقاتلين لمتابعة دورة سريعة ومكثفة في طرابلس.

طُرحت في أحد الاجتماعات المسألة الأهم، وهي كيف يمكن إيصال الأسلحة في ظل إجراءات استثنائية لا بد من أن تواكب حدثاً يشارك فيه رياضيون من 120 دولة. فوجئ «أبو داود» والعمري بـ«أبو إياد» يقول بلهجة حاسمة: «أنا سأوصلها». استبعد «أبو داود» أن يضطلع «أبو إياد»، وهو رجل ذائع الصورة والصيت مباشرةً، بمهمة محفوفة بالأخطار، ورجح أن يستعين بمنظمة أو مجموعة.

زوجة لبنانية مزيفة... وقنابل في حقيبة يد

أرسل «أبو إياد» إلى «أبو داود» أن ينتظره في مطار فرانكفورت في 24 أغسطس (آب) 1972. ذهب «أبو داود» إلى الموعد وراقب من وراء الزجاج. انتظر إطلالة «أبو إياد» بفارغ الصبر وعلى قدر من القلق. فجأة أطل «أبو إياد» في صحبة سيدة لبنانية تظاهر بأنها زوجته وسُميت جولييت، فضلاً عن تاجر صديق له واسمه علي أبو لبن.

كان «أبو إياد» ثابت الأعصاب على خلاف أبو لبن الذي وصل به الأمر حد تناول المهدئات. أشار رجل الجمارك إلى «أبو إياد» أن يفتح الحقائب فخاف «أبو داود» أن تنهار العملية برمتها. وفجأة بدأ «أبو إياد» في إخراج الملابس الداخلية لـ«زوجته» مبدياً شيئاً من التذمر من هذا النوع من المعاملة. أُصيب موظف الجمارك بالإحراج وأشار بمرور الحقائب كمن يعتذر. وهكذا وصلت الأسلحة المخبأة في الحقائب الأخرى.

لم يقترب «أبو داود» من «أبو إياد» الذي صعد مع رفيقيه إلى سيارة تاكسي. تبعه «أبو داود» في السيارة الموالية وطلب من السائق السير وراء سيارة صديقه. ضحك سائق السيارة الثانية من إصرار «أبو داود» على متابعة صديقه ودفَعَه الخبث إلى التفكير أن عين الرجل هي على السيدة الموجودة في التاكسي الآخر ولم يخطر بباله أن رجال السيارتين سيشعلون حريقاً كبيراً سيلازم اسم ميونيخ والألعاب الأولمبية.

هكذا عرف «أبو داود» الفندق الذي ينزل فيه «أبو إياد». ترجل من السيارة ومشى قليلاً في اتجاه آخر للتضليل ثم دخل الفندق وصعد إلى غرفة أبو لبن. وجد «أبو إياد» مسترخياً هناك وكانت «جولييت» في غرفة أخرى.

اكتشف «أبو داود» أن عدد الرشاشات ثمانية وطلب منه «أبو إياد» التصرف على أساس أن الفريق المهاجم سيكون من ثمانية لا عشرة. لاحظ «أبو داود» غياب القنابل فاتفق أن يعود أبو لبن سريعاً إلى بيروت لإحضارها في حقيبة يد تفادياً لإثارة الشبهة. وهذا ما حصل. نقل «أبو داود» الأسلحة إلى خزائن الأمانات في محطة القطار في ميونيخ، وأضاف إليها لاحقاً القنابل وكان يغيّر مكانها يومياً ومن دون أن يثير شكوك أجهزة الأمن.

اللمسات الأخيرة

وصل أعضاء الفريق المشارك من طرابلس وتولى مصالحة ونزال توزيعهم في ثلاثة فنادق مختلفة بمعدل اثنين في كل فندق ومن دون ذكر اسم «أبو داود». وكان على «أبو داود» أن يشتري لهم ثياباً رياضية وحقائب وبعض الضمادات والبسكويت في حال طال احتجاز الرهائن.

عناصر من الأمن الألماني يحاولون دخول موقع الاحتجاز في القرية الأولمبية (غيتي)

افتُتحت الألعاب الأولمبية في 26 أغسطس. اختار المخططون الانتظار كي يسود الانطباع أن الألعاب تجري طبيعية وتتراخى التدابير الأمنية.

كنت أشعر أنني أنتظر قصة جديدة كلما أشعل «أبو داود» سيجارة إضافية.

قال «أبو داود» إن اجتماعاً عُقد سابقاً في بيروت وشمل أيضاً «أبو إياد» و«أبو مازن» خلص إلى التشديد بصورة قاطعة على عدم اعتبار العملية فرصة للثأر والتنكيل وأن «العملية سياسية قبل أن تكون عسكرية والمصلحة تقضي بعدم إراقة الدماء إلا في حال الخطر وفي سياق الدفاع عن النفس». وأضاف أنه أبلغ الفريق المنفذ بذلك في اجتماع عقده معه «بوصفي برازيلياً مؤيداً للثورة الفلسطينية وكنت أتحدث خلال الاجتماع بالإنجليزية ويتولى أحدهم الترجمة».

كانت الاستعدادات قد اكتملت: سيدخل المنفذون من أقرب نقطة في السياج الأولمبي إلى المبنى 31 الذي تقيم فيه البعثة الإسرائيلية. سيحاول احتجاز أكبر عدد ممكن من الرهائن. سيتولى مصالحة عملية التفاوض. سيسلم الوسطاء لائحة تطالب بإطلاق أكثر من مائتي سجين فلسطيني في إسرائيل وهي تتضمن أيضاً اسم كوزو أوكاموتو الياباني الذي شارك في هجوم اللد، إضافة إلى الإفراج عن أولريكه ماينهوف وأندرياس بادر من جماعة «بادر ماينهوف» الألمانية الراديكالية.

كانت هناك تعليمات بخفض المطالب إذا تعقدت المفاوضات، «وكانت الخطة تقضي بطلب طائرة لاصطحاب الرهائن إلى دولة شرق أوسطية ويفضل أن تكون مصر التي ستطالب بالتأكيد بعملية تبادل لإطلاق الإسرائيليين المحتجزين»، كما روى «أبو داود».

ليلة التنفيذ

في الرابع من سبتمبر شعر «أبو داود» باكتمال التحضيرات فأعطى إشارة التنفيذ. بعد منتصف الليل سيكون إلى جانب السياج مع المنفذين بثيابهم الرياضية والرشاشات المخبأة في حقائبهم. يقول «أبو داود» إن «الشباب كانوا يستعدون لتسلق السياج حين سمعنا ضجيجاً وسرعان ما تبين أنهم لاعبون أميركيون سهروا وأسرفوا في الشراب وقرروا تسلق السياج للعودة. المضحك أنهم عرضوا على شبابنا المساعدة وقدموها وشملت رمي الحقائب التي تحوي السلاح إلى الجهة المقابلة. واستخدمت أنا طولي لمساعدة من وجد صعوبة. وكانت المفاجأة أن الرجل الذي ساعدته قال لي: شكراً أبو داود، وأنا كنت أتوهم أنني نجحت في إخفاء هويتي عن المنفذين باستثناء نزال ومصالحة».

ترك «أبو داود» المكان وعاد إلى فندق سجل نفسه فيه باسم مستعار آخر. شرارة البدء في الرابعة والنصف صباحاً. مرت ساعات ولم تبث الإذاعات شيئاً. وكان «أبو داود» قد اتفق مع مصالحة ونزال على أن يلتحق به أعضاء الفريق في محطة القطار إذا فشلت المحاولة لأن جوازاتهم كانت في حوزته. في الثامنة بثت وسائل الإعلام نبأ اقتحام القرية الأولمبية. وهكذا صارت القصة ملك العالم بأسره.

مروحية الخاطفين والرهائن مدمَّرة بعد تبادل النار في مطار عسكري قرب ميونيخ (غيتي)

رفضت حكومة غولدا مائير شروط الخاطفين. ويعتقد أنها مارست ضغوطاً على حكومة ألمانيا الغربية بذريعة أن التجاوب يشجع الإرهاب. خدعت الحكومة الألمانية الخاطفين. وافقت على انتقالهم إلى مطار عسكري حيث ستنتظرهم طائرة «لوفتهانزا» لنقلهم إلى مصر. هبطت طائرتا الهليكوبتر في المطار وتوجه نزال ومصالحة لتفقد طائرة الركاب، ولدى خروجهما اندلع الرصاص واختلط. حاولت الأجهزة الألمانية قتل الخاطفين وكانت النتيجة مقتل خمسة منهم، إضافة إلى رهائنهم التسع وشرطي ألماني. ويُذكَر أن رياضيين إسرائيليين قُتلا خلال عملية الاقتحام وتجميع الرهائن.

«غضب الرب»

بعد ميونيخ وافقت حكومة مائير على عملية «غضب الرب» التي أدت إلى اغتيال عدد من المسؤولين والدبلوماسيين الفلسطينيين ولم تكن لمعظمهم علاقة من قريب أو بعيد بعملية ميونيخ. نجحت إسرائيل في اغتيال كثيرين إلا الحلقة الأساسية. فقد اغتيل «أبو إياد» وفخري العمري في تونس في 14 يناير (كانون الثاني) ومعهما المسؤول الأمني هايل عبد الحميد (أبو الهول) على يد شاب اسمه حمزة أبو زيد اندسّ في جهاز حماية عبد الحميد بناءً على طلب «أبو نضال».

كان «أبو إياد» متحفظاً في الكلام عن المحطات التي لعب دوراً فيها. لم يرد ترك بصماته مباشرةً في أي مكان. كان ينسب ما تحقق إلى «الشباب» ولهذا لمست قدراً من العتب عليه من جانب «أبو داود» الذي لعب دوراً حاسماً في عملية ميونيخ وغيرها.