نادين قانصو.. فنانة بقضية

عشر سنوات في تاريخ أي مصممة مجوهرات أو أزياء من منطقة الشرق الأوسط يعادل 30 عاما في تاريخ مصممة أجنبية، أو أكثر. هذا القول ليس تحاملا، بالنظر إلى التجارب القديمة التي تؤكد أن الكثير من الأسماء تظهر وتختفي سريعا من على ساحة الموضة، لأنها إما تصاب بالإحباط عندما لا تحقق النجاح السريع أو تمل لأن دافعها للمهنة لم يكن الشغف بقدر ما كان هواية، عدا أن المنطقة لا ترحم بحيث لا يتميز فيها سوى القوي والمثابر. من هذا المنطلق فإن احتفال المصممة نادين قانصو، بمرور عشر سنوات على إطلاقها ماركة المجوهرات «بالعربي» مسألة تستحق التوقف. في باريس، بمناسبة مشاركتها في معرض «فاشن فوروود» الذي انتقل، لأول مرة، من دبي إلى باريس مع مجموعة من المصممين والمصممات خلال أسبوع باريس الأخير، كان اللقاء معها.
نظرة واحدة إليها تؤكد أنها تعيش الفن وتتنفسه، من تسريحة شعرها القصير الممشط إلى الوراء، إلى أسلوب أزيائها التي تستوقفك بتفردها وأناقتها المريحة والمنطلقة في الوقت ذاته. ليس هناك ما يقيدها سوى تلك الخواتم والأساور المتراصة التي كانت تعانق أصابعها ومعصمها وكانت هي بين الفينة والأخرى تلمسها بحنان وكأنها تطمئن عليها أو تحميها من نظرات المعجبين التي تكاد تلتهمها. وعندما تبدأ بالحديث عن بيروت ودبي، وعن فلسفتها في الحياة وعلاقتها بالفن، تفهم سريعا سبب نجاحها: تفتحها على العالم من دون أن تنسى جذورها وإرثها العربي الذي تفتخر به وتريد أن تسوقه للعالم بأسلوب إيجابي يمحو تلك الصورة السلبية التي تكونت لديه بسبب الأحداث العربية الأخيرة وغيرها. فرغم أن مظهرها يعطي الانطباع أنها متشبعة بثقافة غربية حتى النخاع، لدهشتك، تكتشف أن وراءه اعتزازا قويا بالثقافة العربية ورغبة في إثبات أن العرب لهم حضارة وثقافة تختلف تماما عن الصورة التي تظهر في وسائل الإعلام الغربية. «بالعربي» بالنسبة لها لم يكن مجرد مشروع تجاري لمخاطبة السوق العربية ومغازلة الأسواق العالمية، بل كان نابعا من قضية قريبة على قلبها. وتفخر أنها خلال العشر سنوات، حققت جزءا كبيرا من الهدف، لكنه مجرد بداية تمني عشاق ماركتها بأن الآتي أعظم.
ما يشدك فيها أنها ليست أفضل سفيرة لماركتها، بل أيضا مسكونة برغبة محمومة في أن تختلف وتتميز. فهي ترفض التقليد أو أن تقع في مطب العادي، ولا تخفي غضبها من مصممات شابات يُقلدنها، لأنها ترى أن الباب مفتوح على مصراعيه أمامهن للتعبير عن أنفسهن وموهبتهن دون الحاجة إلى استنساخ أعمال غيرهن. «فقد يكون التقليد مقبولا أول الأمر، وربما قد أعتبره نوعا من المديح إذا كان بمعنى الاستلهام، لكن عندما يتحول إلى تقليد حرفي، فإنه يتحول إلى سرقة فنية واستسهال» حسب قولها.
قبل أن تكون نادين مصممة مجوهرات، كانت ولا تزال فنانة تعشق التصوير الفوتوغرافي وفن الغرافيك، ولا تزال تعتبر التصوير حبها الأول، معتبرة أن تصميم المجوهرات ما هو إلا «وسيلة تعبير أخرى أتفاعل بها مع الناس. فالموضة تلمس حياة شرائح أكبر من الناس وبالتالي تصل إليهم بسرعة أكبر، وربما هذا ما يجعل البعض يعرفني من خلال مجوهرات (بالعربي) أكثر مما يعرفني كمصورة فوتوغرافية شاركت في عدة معارض عالمية». وتتابع: «كلتا الوسيلتين تعبر عني.. كونهما تحملان مضمونا مشتركا هو الاعتزاز بالهوية العربية، ومعنى أن نكون عربا في عالم اليوم».
توقيت إطلاق «بالعربي» كان مجازفة ناجحة، لأنه تزامن مع الفترة التي بدأت فيها النظرة إلى كل ما هو عربي تزيد سلبية بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول). أثارت هذه النظرة حفيظتها وحفزتها أن تجعلها قضيتها، وهكذا تعمدت تسليط الضوء على الجانب الإيجابي للثقافة العربية باستعمال الخط العربي وتوظيف جمالياته في قطع عصرية غير مغرقة في الفولكلور. مع الوقت تطور مشروعها وبدأت في تجربة تقنيات جديدة وإطلاق العنان لخيالها بجرأة أكبر من منطلق أنه لا حدود للإبداع. وبالفعل لم يمر سوى وقت وجيز حتى أثبتت أن كل شيء يحيط بنا في الحياة، حتى لو كان معالم حرب كما هو الحال في بيروت، يمكن أن يُلهم عقلا منفتحا. فأعمالها تتناول مواضيع اجتماعية وسياسية وأخرى عن الهوية، سواء تعلق الأمر بالتصوير الفوتوغرافي أو بتصميم المجوهرات. فقد تتغير أدواتها وموادها لكن النظرة واحدة. تشرح أنها لم «تقصد أن تكون تصاميمها تجارية بقدر ما تحمل رسالة هادفة، فبعد أحداث 9-11. تغيرت النظرة إلى العرب تماما، وعندما سمعت أن صديقة ترفض أن تسمي ابنها اسما عربيا خوفا عليه، لأنها تعيش في الولايات المتحدة الأميركية، استوقفني الأمر وجعلني أتساءل ماذا حصل، وكيف حصل وإلى أين نحن؟».
في عام 2006، جاءتها فرصة إثبات من نحن عندما اقترح عليها المشاركة في فعالية «مساء الجمعة في V&A» التي ينظمها متحف «فيكتوريا أند ألبرت» بلندن. كانت فرصة للمساهمة في تغيير النظرة إلى العرب. اختارت كعنوان لمساهمتها «اجعلني عربيًا» عبرت فيه عن فيض إيجابي من القصص العربية المعاصرة والإنسانية، من خلال توثيقها حياة العرب اليومية بالصور. «أعتقد أن الرسالة ليست للغرب فحسب بل أيضا للعرب، لأنه من السهل أن نُعمم ونضع الكل في سلة واحدة، لكن يجب أن نتذكر أن العالم يحتاج إلى الحب والتعاطف مع الغير» حسب تعبيرها.
طوال حديثها، تكرر نادين أن المسألة بالنسبة لها لم تكن سياسية على الإطلاق، بقدر ما كانت مسألة هوية وآيديولوجيا. وهذا تحديدا ما أصبح ماركتها المسجلة: تصاميم تتمحور غالبا حول كلمة حب، أو حرف عربي تُشكله بطريقة فنية وعصرية بعيدة عن التقليدي تماما، بحيث ينساب تارة ويتمدد أو يتلوى تارة أخرى، لكنه يبقى دائما محترما لخطه ومجده. فعندما أطلقت «بالعربي» كانت تريد تصاميمها أن تكون امتدادا لهذا الحب ومتنفسا آخرا للإبداع. فهي لا تقدم خواتم وأساور وأقراط أذن مصاغة بالفضة أو الذهب لمجرد الزينة، بل حرصت أن تكون كل قطعة بفنية تجعلها محور حديث وجدل فكري، وهو ما كان. خلال الحديث تتوقف لتقول: إن حبها للفن «لا يعني أنني لا أهتم بالجانب التجاري رغم عدم تحبيذي له، فهو أبينا أم شئنا ضروري. فأنا أصمم قطعا على شكل تحف فنية بأحجام كبيرة حتى أشبع بها حاجتي للإبداع الفني وفي الوقت ذاته أطرح تصاميم يمكن أن تُباع في كل الأسواق بسهولة وبأسعار معقولة حتى تمول الجانب الفني وتضمن استمراريتي».ولا تنكر نادين أنها ولدت في بيت يتنفس السياسة، وهو ما شكل نظرتها الفنية والآيديولوجية على حد سواء. فحبها للفن ولد في بيت بيروتي معظم أفراده يدمنون السياسة، ومن رحم التقلبات ومخلفات الحرب في العاصمة اللبنانية، وهو ما تسجله كاميرتها من دون كلل لحد الآن. فحتى بعد أن انتقلت للعيش في دبي منذ 16 عاما تقريبا، لم تتوقف عن الاستكشاف والبحث عن كل ما يمكن أن تلتقطه وتسجله من تغيرات اجتماعية وثقافية يمكن أن تصبح يوما تأريخا لفترات مختلفة.