الجزيرة العربية في المخيلة الإنجليزية.. مشهد الفردوس

كتاب وشعراء استحضروها ممثلة للإنسان العربي وعمقه التاريخي والثقافي

الجزيرة العربية في المخيلة الإنجليزية.. مشهد الفردوس
TT

الجزيرة العربية في المخيلة الإنجليزية.. مشهد الفردوس

الجزيرة العربية في المخيلة الإنجليزية.. مشهد الفردوس

في ملحمته «الفردوس المفقود»، التي تعد أشهر وأهم مطولات الشعر الإنجليزي، رسم جون ملتون في القرن السابع عشر خروج آدم من الجنة معتمدًا الوصف التوراتي لذلك الحدث التأسيسي في الأديان السماوية الثلاثة. وجاء الخروج واحدًا من أكثر المشاهد درامية في الصراع الأبدي الذي ترسمه القصيدة بين نوازع الخير والشر في بداية تاريخ الإنسانية، الصراع الذي يقف على أحد طرفيه الإنسان وعلى الطرف الآخر إبليس. وفي مشهد شهير من مشاهد القصيدة يصف الشاعر الإنجليزي مجيء إبليس إلى الجنة محلقًا مثل طائرة تقترب من المطار في مسعاه لإغراء آدم وحواء بالعصيان. ذلك المشهد الفردوسي أراد الشاعر تقريبه إلى مخيلة القارئ فقارنه بمكان على الأرض لم يجد أنسب له من الجزيرة العربية، بالتحديد الجزء الجنوبي الذي كان الرومان قد أطلقوا عليه «العربية السعيدة»، التي تحولت فيما بعد إلى «اليمن السعيد»:
وها هي الآن النسائم تضوع أجنحتها العطرية موزعة
عطورًا محلية، وتهمس بالمكان الذي منه سرقت
تلك الغنائم الزكية. كما يحدث حين تهب بطيئة على
المبحرين وراء رأس الرجاء الصالح، وقد تجاوزوا
الآن موزمبيق، رياح شمالية شرقية حاملة
عطورًا صبئية من شاطئ الجزيرة العربية السعيدة
المليء بالتوابل..
وجد ملتون الإشارة إلى الجزيرة العربية لدى المؤرخ الروماني ديودوروس سيكيولوس ضمن التقسيم الروماني للجزيرة العربية إلى ثلاثة أقسام: العربية الصخرية ((Arabia Petraea والعربية الصحراوية (Arabia Deserta) والعربية السعيدة (Arabia Felix). ولا جدال في أسطورية الصورة وتساميها عن الواقع، لكن تلك الأسطورية كانت كل ما احتاجه ملتون للإيحاء بمكان متسامٍ بطبيعته عن الواقع المشاهد. غير أن اللافت هو أن الجزيرة العربية استمرت ولعدة قرون تسكن ذلك البعد الأسطوري تغذي أسطوريتها مخيلات تبحث عن الغامض وتود له أن يبقى نائيًا وغامضًا.
كان الشعراء الرومانسيون هم الأكثر احتفاء بذلك البعد الرومانسي ومعروفة صلتهم الوثيقة بملتون الذي يعد أبًا شعريًا لكثير منهم. ففي قصائد كثيرة لوردزورث وكوليرج وشيلي وكيتس وبايرون، كما في بعض الأعمال الروائية لوالتر سكوت وتوماس مور، يأتي الشرق العربي والإسلامي سواء من خلال الجزيرة العربية أو الإسلام أو من خلال شخصية العربي أو البدوي لتمثل البعد الرومانسي النازع إلى أن يكون نائيًا وبعيدًا، ومثيرًا للخيال، قابلاً لأن يعبأ بدلالات تستعصي على القريب والمألوف. فنجد، مثلاً، الحلم الشهير لوردزورث في قصيدته ذات البعد الملحمي «البرليود» (المقدمة) حول بدوي ينقذ الحضارة مثلما نلقى عناوين كقصيدة «ثورة الإسلام» لشيلي، وهي أيضًا سردية مطولة وذات منزع ملحمي.
إلى جانب ذلك تواصل الجزيرة العربية مع ما يتصل بها من موضوعات تحليقها في المخيلة الشعرية الإنجليزية من خلال قصائد الشاعر الآيرلندي وليم ييتس، الذي كان إنجليزي اللغة رغم كونه غير إنجليزي الانتماء. ويعد ييتس من أهم شعراء اللغة الإنجليزية في النصف الأول من القرن العشرين، أهمية انعكست على كيفية تناوله للجزيرة العربية وموضوعاتها. وكان ذلك مدار اهتمام عدد من الباحثين في طليعتهم اللبناني الأميركي سهيل بشروئي الذي ألف كتابًا حول الاهتمامات العربية لشاعر آيرلندا الكبير إلى جانب عدد آخر من الأعمال البحثية التي أبرزت ولع ييتس بالعرب أناسًا وأماكن وثقافة. وتأتي قصيدة ييتس «هدية من هارون الرشيد» في طليعة الأعمال الشعرية التي تبرز علاقة ييتس بالثقافة العربية الإسلامية من خلال تناولها للمواجهة الثقافية بين العربي والغربي وقد تمثلا في شخصية الطبيب الفيلسوف قسطا بن لوقا الذي عاش في كنف المأمون مترجمًا من أصل بيزنطي لليونانيين. في قصيدة ييتس يزوج هارون الرشيد (الذي يضعه ييتس بدلاً من المأمون ربما لشهرته في الغرب من خلال حكايات ألف ليلة وليلة) قسطا ببدوية تقف على النقيض من الطبيب البيزنطي (المسيحي الغربي) بثقافتها الصحراوية ورؤيتها المستبصرة للعالم رغم بداوتها وأميتها.
لكن ما مناسبة هذا الاستحضار لاهتمام شعراء الإنجليزية بالجزيرة العربية؟
إنه مؤتمر حول الجزيرة العربية عقد قبل أيام في باريس بعنوان «التمثيلات المكانية للجزيرة العربية»، والمقصود تمثيلاتها في الثقافات الغربية سواء على المستوى العلمي البحثي أو المستوى الأدبي الفني أو ما يتصل بهما. وهو مؤتمر دعا إليه كرسي حوار الحضارات الذي تشرف عليه جامعتا «السوربون» و«الإمام محمد بن سعود الإسلامية»، و«أسعدني أن أشارك فيه وأن أعرف أن الإشراف المباشر عليه كان للدكتورة سارة خزندار، ابنة الكاتب السعودي المعروف الراحل عابد خزندار، وهي أستاذة في (السوربون)».
جاءت مشاركتي في المؤتمر بموضوع التمثيل الأدبي للجزيرة العربية في آداب اللغة الإنجليزية، وهو موضوع يتجاوز الشعر إلى السرد وإلى فنون أخرى تتشعب ويطول الحديث فيها. أردت أن أحيط القارئ بهذا المؤتمر الذي يحمل انعقاده دلالات بالغة الأهمية، فهو يأتي بعد أن ظهر مؤخرًا من يقلل من أهمية الجزيرة العربية ثقافة وتاريخًا. فها هي الجزيرة العربية تكشف في واحد من أرقى معاهد التعليم والبحث في العالم، السوربون، عن حضورها في الثقافة والمخيلة الإنسانية مكانًا يرسخ قيمة المكان وشعوبًا عرفها العالم بسلسلة من الإسهامات الحضارية التي غيرت وجه التاريخ.
الشعراء والكتاب الإنجليز لم يكونوا وحدهم بطبيعة الحال في استحضار الجزيرة العربية ممثلة للإنسان العربي وعمقه التاريخي والثقافي، وإنما شاركهم في ذلك كتاب كثيرون من أوروبا وأميركا وآسيا وأفريقيا، وقبل ذلك من العرب والسعوديين بشكل خاص. والكتابة حول الموضوع تطول ولن تتسع لها مقالة أو اثنتان، فلربما عدت إلى جوانب أُخر من ذلك الاستحضار الإبداعي مستقبلاً.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.