التحدي الروسي في المتوسط

أسهم «الربيع العربي» وما تلاه من أحداث في إبراز نزعة واضحة في موسكو إلى تعزيز روسيا حضورها الاستراتيجي والسياسي في البحر المتوسط، مستفيدة من سياسة الانكفاء التي تبناها الرئيس الأميركي باراك أوباما، والتي كان من أبرز معالمها التفاهم مع إيران في الشأن النووي، والتخلي عن الثورة السورية، وسكوت واشنطن عن «عرض العضلات» الروسي الصريح في شبه جزيرة القرم وشرقي أوكرانيا.
ولئن كان التدخل الروسي المباشر في سوريا، حيث يقاتل الروس جنبًا إلى جنب مع الميليشيات الإيرانية، بات العلامة الأوضح على وجود هذه النزعة الهجومية في الكرملين، فإن استغلال موسكو الانكفاء الأميركي لا يقتصر على سوريا أو أوكرانيا، بل يشمل أيضًا بعض مناطق الشمال الأفريقي.
يمكن القول إن التعاون العسكري التقني بين روسيا وسوريا لم يرتق يوما إلى مستوى تمكين موسكو من فتح قواعد دائمة لها على الأراضي السورية، كما هو الحال بالنسبة لتعاون روسيا منذ العهد السوفياتي مع أكثر من دولة عربية بينها مصر واليمن. إذ لم يسبق أن أنشأت روسيا قواعد دائمة لها على أراضي الدول العربية باستثناء استخدام السفن السوفياتية حتى العام 1972 قاعدة سيدي براني في شمال غربي مصر، لمراقبة حركة السفن الأميركية في المتوسط، وقاعدة طرطوس بشمال غربي سوريا، للدعم التقني التي كانت بمثابة محطة صيانة لتزويد السفن السوفياتية بالمؤن وإجراء تصليحات محدودة. إلا أنه ورغم عدم وجود قواعد سوفياتية في الدول العربية فإن الاتحاد السوفياتي كان حاضرا عسكريا بقوة في دول مثل مصر وسوريا.

البداية السورية
ويذكر أن سوريا كانت قد وقعت أول اتفاقية تعاون عسكري مع السوفيات إبان حكم الرئيس شكري القوتلي الذي زار موسكو في أكتوبر (تشرين الأول) 1956. وأجرى محادثات مباشرة مع القيادات السوفياتية لشراء السلاح. وتقول بعض المصادر إن المارشال الروسي الشهير جورجي جوكوف هو الذي عقد تلك المحادثات مع القوتلي. ويومذاك، اضطرت موسكو لإرسال 160 خبيرًا عسكريًا مع أول دفعة أسلحة إلى سوريا نظرًا لأن التعامل مع تلك الأسلحة وتجهيزها كانا يتطلبان خبراء عسكريين ما كانوا متوافرين في صفوف القوات السورية.
إلا أنه منذ ذلك الحين أصبح وجود الخبراء السوفيات ظاهرة طبيعية وضرورة ملحّة في القوات المسلحة السورية. ولقد عمل أولئك الخبراء على تطوير هذه القوات وشكّلوا لأول مرة وحدات إنزال جوي خاصة. ومن ثم، تابعوا مهامهم في إعداد القوات السورية إلى حين انهيار الاتحاد السوفياتي وسحب موسكو في عهدها الجديد خبراءها من هناك.
ويذكر أنه خلال فترة عمل الخبراء السوفيات على مدار أربعة عقود ونيف من الزمن ساهم هؤلاء بشكل رئيسي في تهيئة القوات الجوية في سوريا، وكذلك مصر، وتحسين قدراتهما القتالية، عبر عمليات تنظيم للقوات وتدريبات على الأسلحة التي كانت تصل تباعًا من الاتحاد السوفياتي السابق إلى البلدين. وتشير معظم المصادر التاريخية التي تتحدث عن دور أولئك الخبراء في الدول العربية إلى أنهم كانوا موجودين دومًا في غالبية الدوائر الرئيسية في المؤسسات العسكرية، يمارسون التخطيط والتدريب والتحضير للعمل على الأسلحة الحديثة.
كل هذا كان يجري حينها في إطار التعاون التقني العسكري مع ما يسمى بمعسكر «الدول الصديقة» إبان الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. ولقد ساهم الخبراء السوفيات بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحروب التي شهدتها المنطقة بين العرب وإسرائيل منذ «حرب يونيو» 1967 وصولا إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وكان هؤلاء يعملون إلى جانب القيادات العسكرية في تلك المعارك بصفة مستشارين وخبراء عسكريين، بينما تشير بعض المصادر إلى أن طيارين سوفيات شاركوا فعليًا في العمليات القتالية خلال معظم تلك الحروب، وأنهم لعبوا دورًا رئيسيًا في إعادة تفعيل منظومة الدفاعات الجوية السورية في لبنان.
ومن ثم يمكن القول إن الوضع لا يبدو مختلفًا الآن بالنسبة لنشر الخبراء الروس في مختلف القطع العسكرية لقوات النظام السوري والدوائر الرئيسية في وزارة دفاعه. إلا أن الطرف السوري الراهن ساعد الروس على الاستحواذ على قواعد جوية وبحرية وصاروخية «إلى أجل غير مسمى ودون مقابل». وهذه سابقة تاريخية لم تحدث حتى في أفضل مراحل العلاقات بين دمشق وموسكو السوفياتية.

التعاون المصري الروسي
في هذه الأثناء، على الجانب المصري تشهد العلاقات المصرية – الروسية منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم في مصر عام 2014، زخمًا كبيرًا مستمرًا، لا سيما على الصعيد العسكري. إذ عقد الجانبان المصري والروسي الكثير من اتفاقيات التسليح، ووصل الأمر إلى صدور تقارير إعلامية روسية عن طلب موسكو من القاهرة بناء قاعدة عسكرية روسية على الأراضي المصرية أو استئجار قاعدة سيدي براني على شاطئ المتوسط بشمال غربي مصر لاستخدامها كقاعدة أخرى للقوات الجوية الروسية.
مصر نفت صحة هذه التقارير، وقال السفير علاء يوسف، المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، إن ما ذكر حول طلب الخارجية الروسية من نظيرتها المصرية استئجار منشآت عسكرية، من ضمنها قاعدة جوية في مدينة سيدي براني غرب الإسكندرية، على شاطئ المتوسط «غير صحيح على الإطلاق.. وإن سياسة مصر الدائمة رفض وجود قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها».
والواقع أن العلاقات المصرية - الروسية بدأت عام 1943. وامتد التعاون بين القاهرة وموسكو في جميع المجالات، وعلى رأسها التسليح، الذي بدأ منذ أواخر عام 1955، في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حين حصلت مصر على صفقة متنوعة من السلاح السوفياتي عبر جمهورية تشيكوسلوفاكيا، آنذاك، بلغت قيمتها نحو (250 مليون دولار أميركي).
يومذاك شملت تلك الصفقة 150 طائرة و300 دبابة ونحو 100 مدفع ذاتي الحركة و200 عربة مصفحة حاملة جنود ومدرعتين و4 كاسحات ألغام و20 زورق طوربيد و500 قطعة مدفعية ومدافع بازوكا وألغاما وأسلحة صغيرة ورادارا ومعدات لا سلكية. ومن ثم، استمر التعاون العسكري بشكل بارز، وكان له دور كبير في حرب أكتوبر عام 1973، وفي هذه الحرب اعتمد الجيش المصري بشكل كبير على السلاح الروسي، بعدما أصبحت مصر من أهم مستوردي السلاح والعتاد الروسي ومستخدميهما، وللعلم، زوّدت موسكو القوات المسلحة المصرية بمعدات عسكرية، منها 300 طائرة مقاتلة حلت محل 365 فقدت في الحرب، و50 طائرة قاذفة.

طرد الخبراء السوفيات
إلا التعاون المصري - السوفياتي شهد فترة تراجع وتأرجح في السبعينات من القرن الماضي عقب واقعة طرد الرئيس الأسبق أنور السادات الخبراء الروس من مصر في ظل «التمويه الاستراتيجي» الذي سبق حرب أكتوبر. إلا أنه توقف تمامًا بسبب اختلاف الرؤى السياسية بين القاهرة وموسكو حول «اتفاقية كامب ديفيد» مع إسرائيل.
بعد ذلك استعادت العلاقات الثنائية قوتها مجددًا في أعقاب تولي الرئيس الأسبق حسني مبارك الحكم عام 1981. عندما بدأت القاهرة تتجه نحو تطبيع العلاقات مع موسكو بشكل تدريجي بعد القطيعة. وفي الفترة من 1995 حتى 1997 عادت الصفقات المصرية الروسية مع إبرام عقود لتزويد الجيش المصري بـ34 دبابة من طراز «ت - 80 أو»، و20 هليكوبتر عسكرية من طراز «مي - 17» ومعدات أخرى.
ثم في عام 1998 وقعت مصر عقودًا لاستيراد منظومة صواريخ مضادة للطائرات من طراز «فولغا 3»، ومحطات رادار للإنذار المبكر. وفي 2000 وقعت عقود صيانة لأنظمة الدفاع الجوي الصاروخي «إس - 125»، ومجموعة من المعدات الأخرى بلغت قيمتها نحو 150 مليون دولار أميركي. كذلك، حصلت مصر من روسيا عام 2005 على منظومات صاروخية للدفاع الجوي من طراز «توبول - إم 1» و«بوك - إم 1 - 2».
وخلال في الفترة بين 2006 و2011 بلغت قيمة الصفقات العسكرية التي نفذت خلالها 1.8 مليار دولار لتحتل روسيا المرتبة الثانية بين شركاء مصر في مجال التعاون العسكري.
ثم بعد 30 يونيو 2013. تحدثت تقارير عن عقود تزيد قيمتها عن ملياري دولار تتضمن تزويد الجيش المصري بـ24 مقاتلة من نوع «ميغ 29» قيمتها 1.7 مليار دولار - وهي منافسة مباشرة للمقاتلة «إف - 15» الأميركية - ومنظومة الصواريخ الدفاعية «بانتسير» والهليكوبترات «مي - 28» و«مي – 35» التي تحمل 30 فردًا بأسلحتهم، والهليكوبتر الهجومية «كا - 52» المزوّدة بصواريخ جو - أرض.
قبل فترة قصيرة، أعلن موقع «غازيتا» الإخباري الروسي، عن إجراء روسيا ومصر أول مناورة عسكرية مشتركة على الإطلاق في منتصف أكتوبر الجاري، بقوات محمولة جوًا من البلدين تنفذ عمليات تدمير مسلحين في مواقع صحراوية. وفي حينه نقل التقرير عن وزارة الدفاع الروسية قولها إن المناورة المشتركة لقوات المظلات في مصر تشمل ستة مطارات و15 طائرة حربية وهليكوبتر عسكرية لأغراض متعددة، وكذلك عشر مركبات قتالية.

الروس في ليبيا
أما فيما يخص ليبيا، فيميل الروس حاليًا إلى الجنرال خليفة حفتر كقائد يمكنه أن يعيد الاستقرار إلى ليبيا ويقضي على الفوضى التي تضربها منذ مقتل معمّر القذافي عام 2011. وعلى صعيد التسليح، ينتظر الروس استئناف عقود بمليارات الدولارات سبق توقيعها مع القذافي، ومن أهم الاتفاقات المعطلة تصدير الأسلحة ومد السكك الحديدية وبناء برنامج للطاقة الذرية.
الجدير بالذكر أن العلاقات بين ليبيا (المملكة حينئذٍ) وروسيا (الاتحاد السوفياتي حينئذٍ) تعود إلى عام 1955، ولقد قام القذافي بثلاث زيارات إلى العاصمة الروسية إبان حكم الحزب الشيوعي، وكان حريصًا على توطيد التواصل مع الخصم اللدود للغرب، خاصة في سنوات الحرب الباردة، حتى سقوط الاتحاد السوفياتي. وبعد ذلك استمرت العلاقات مع روسيا، وقام القذافي بزيارة أخرى لها في عام 2008، وكذلك استقبل فلاديمير بوتين في طرابلس. وازدادت عقود التعاون المشترك بين البلدين وأيضًا التعاون العسكري والتقني وإقامة السكك الحديدية، إلا أنه بحلول عام 2011، ومع الانتفاضة المسلحة التي دعمها حلف شمال الأطلسي «ناتو» لم يقف «الأصدقاء» الروس مع القذافي إلا بضعة أيام. ومن ثم، دخلت ليبيا في فوضى.
ولقد حاول الروس التواصل مع الحكام الجدد لكن الفوضى لم تمكنهم أبدا من العثور على مَن يحيي العقود القديمة التي كان قد جرى توقيعها مع القذافي، والتي يقترب إجمالي الاستثمارات فيها من نحو عشرة مليارات دولار في الكثير من المجالات، من بينها النفط والغاز والطاقة الذرية وتصدير الأسلحة وصيانة المعدات العسكرية القديمة وغيرها.

لا اتفاقية دفاعية
ويقول أحد المقربين من القذافي لـ«الشرق الأوسط» إن العقيد الراحل الذي قتل في مسقط رأسه مدينة سرت في أكتوبر قبل خمس سنوات، أدرك أن بلاده لم يكن بينها وبين موسكو اتفاقية للدفاع تحميها من ضربات الـ«ناتو». ووقفت روسيا في البداية محاولة حماية صديقها القديم، الذي كانت له لقاءات لا تنسى مع الزعماء الشيوعيين في الكرملين، لكن يبدو أن التيار الدولي كان وقتها أعلى من إمكانات الروس.
ومعلوم أن موسكو دعت في بداية الانتفاضة على القذافي الأطراف الليبية إلى الحوار بدلا من استخدام السلاح، إلا أن القذافي فوجئ بأن الروس لم يستخدموا «الفيتو» لمنع قرار الأمم المتحدة الذي نجم عنه تحرّك الـ«ناتو» لضرب قواته وتدمير جيشه. ثم قبل نحو خمسين يومًا من مقتله، اعترفت موسكو بما يعرف بالمجلس الانتقالي الذي قاد الانتفاضة ضد القذافي.
مع هذا، لم تنتظر موسكو طويلاً حتى تجف الدماء الليبية. بل وبدأت في 2012 الحديث عن إنعاش المشاريع التي سبق الاتفاق عليها مع النظام القديم، وعلى رأسها مشروع السكك الحديدية الذي يبلغ حجم الاستثمارات فيه عدة مليارات من الدولارات، بالإضافة إلى تفعيل اتفاقات لتصدير أسلحة روسية حديثة إلى ليبيا، لكن الفوضى التي ضربت البلاد حالت لتاريخه دون وصل ما انقطع مع الليبيين.
وراهنًا، لا يبدو أن روسيا تريد أن تظهر كمن يدعم طرفًا ضد الآخر، مع أنها تبدو في كثير من الأحيان ميالة إلى حفتر الذي يشن حربا على الجماعات المتطرفة وأنصارها في طرابلس ومصراتة. وكثير من هذه الجماعات تساند المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق المقترحة من الأمم المتحدة، وتتلقى دعمًا من بعض الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.
وفي أي حال، تنتظر موسكو الآن عودة الاستقرار إلى ليبيا للاستفادة من الإمكانات الهائلة للاستثمار في هذا البلد، ليس فقط عن طريق استئناف العقود التي سبق توقيعها في المجالات العسكرية والاقتصادية، ولكن في مجال إعادة إعمار المدن التي خربتها الحروب الأهلية المستمرة في هذا البلد الغني بالنفط منذ عام 2011 حتى يومنا هذا.