تفاصيل انقلاب الغويل على المجلس الرئاسي الليبي

قادة في الشرق ودعوا «اتفاق الصخيرات».. والسراج يتحدى ويتجول في طرابلس

مقاتلون من مصراتة انتقلوا إلى سرت لمقاتلة داعش وتركوا مواقعهم في طرابلس ما أدى إلى استغلالها من خصوم السراج
مقاتلون من مصراتة انتقلوا إلى سرت لمقاتلة داعش وتركوا مواقعهم في طرابلس ما أدى إلى استغلالها من خصوم السراج
TT

تفاصيل انقلاب الغويل على المجلس الرئاسي الليبي

مقاتلون من مصراتة انتقلوا إلى سرت لمقاتلة داعش وتركوا مواقعهم في طرابلس ما أدى إلى استغلالها من خصوم السراج
مقاتلون من مصراتة انتقلوا إلى سرت لمقاتلة داعش وتركوا مواقعهم في طرابلس ما أدى إلى استغلالها من خصوم السراج

حدث كل شيء بشكل مفاجئ. جلس الدكتور عبد الرحمن السويحلي، رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبية، عدة ساعات ينتظر اتصالا للاطمئنان على رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، فايز السراج، لكنه لم يتصل. يوجد انقلاب في طرابلس. كان ذلك مساء يوم الجمعة الماضي. مرت أوقات عصيبة. ثم بدأت رياح الانقلاب تهدأ رويدا رويدا. وبعدها ظهر السراج وهو يتجول في شوارع العاصمة، رغما عن قوات الانقلابيين التي كانت تقف على الجانب الآخر.
في اليومين التاليين ظل الحديث عن «الانقلاب» مستمرا وسط شائعات عن اختفاء السراج من طرابلس، بينما كان الرجل، ذو القامة الطويلة، يتجول في العاصمة متحديا. زار مقر وزارة الداخلية قرب طريق المطار، وشارك في تخريج دفعة جديدة لضمها إلى جهاز الشرطة. وفي رده على أسئلة «الشرق الأوسط» يقول الدكتور العارف الخوجة، وزير الداخلية، إن حكومة الوفاق تزاول أعمالها، ووزراؤها في مواقعهم. ويعد الخوجة ضمن مجموعة الوزراء في حكومة السراج. ويضيف أن الأمور في طرابلس «بوضعها المعتاد». والحكومة «تعمل من مقراتها وبشكل هادئ ولا يوجد قلق».
كان الهدف من «انقلاب الجمعة الماضي» إعادة حكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل، المدعومة من بقايا أعضاء المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق). ووقف الغويل وعدد من أعضاء المؤتمر على المنصة وقال وسط شعور بنشوة العودة إلى ساحة التجاذب السياسي، إنه يمد يده إلى الحكومة المؤقتة المنبثقة عن البرلمان الحالي (مقره في شرق البلاد)، وهي برئاسة عبد الثني، من أجل تشكيل حكومة من الطرفين. وهنا اتضح أن ما حدث في طرابلس كان هدفه إقصاء السراج وحكومته المقترحة من حوار الصخيرات الذي رعته الأمم المتحدة لمدة نحو عامين.
من أهم الشخصيات التي ظهرت من مخرجات هذا الحوار، السراج والسويحلي. وبدأ التحرك ضدهما من فريق متشدد يدعم المؤتمر الوطني وحكومة الغويل. فريق على خصام مع البرلمان الحالي الذي يعقد جلساته في طبرق وعلى خصام مع قائد الجيش الوطني خليفة حفتر. ومع ذلك يقول إبراهيم عميش، رئيس لجنة العدل والمصالحة في البرلمان، لـ«الشرق الأوسط» إنه يجري في الوقت الحالي فتح مجالات للحوار الجاد مع المؤتمر الوطني وحكومة الغويل. وقد يكون هناك حوار ليبي - ليبي صرف بينهما، سواء يعقد في طرابلس أو أي عاصمة من عواصم الدول المجاورة.
على كل حال يبدو أن عودة الغويل استفزت ميليشيات طرابلسية ومصراتية تناصر مجلس السراج الرئاسي. توجد حالة من التحفز والتربص. لوحظ زيادة في عدد المسلحين وظهور أسلحة ثقيلة في زوايا الطرق وشاحنات تقل مقاتلين في الشوارع، إضافة إلى تحركات في اتجاه طرابلس من جانب ميليشيات يقودها زعماء من مصراتة.
يكشف مصدر أمني ليبي لـ«الشرق الأوسط» عن أن التخطيط لعملية «الانقلاب» بدأت قبل إعلانها يوم الجمعة الماضي بنحو أسبوعين. تحرك تحت جنح الليل ما لا يقل عن 300 مقاتل بمعداتهم من أطراف طرابلس وجرى توجيههم للتمركز قرب وسط العاصمة ومنطقة قصور الضيافة والفندق الذي يتخذه بعض قادة المجلس الرئاسي مقرا للعمل اليومي. هناك يوجد مكتب السويحلي. أما مكتب السراج وعدد من نوابه فموجود في قاعدة بوستة البحرية على شاطئ طرابلس. وفي اليوم التالي تحركت مجاميع مسلحة أخرى في طريق الهضبة.
وبينما كانت مكاتب «رجال الصخيرات» مشغولة بتطورات الحرب ضد تنظيم داعش في سرت، كانت خطة الانقلاب عليهم تمضي في صمت. ساعد على ذلك انشغال ميليشيات موالية للسراج في الجبهة. في تلك الأثناء بدأ التواصل من جماعة الغويل مع قادة لمجاميع متخصصة في حراسة مقار السراج لضمها إلى العملية في ساعة الصفر. ظهر أن الفرصة ستكون مواتية.
بدأ النشاط عبر شوارع رئيسية وضواحٍ وكأن الأمر لا يزيد عن عملية إعادة انتشار لبعض عناصر الميليشيات. في بعض المناطق كان يجري نقل أسلحة ومقاتلين بسيارات مدنية خاصة (صالون) حتى لا تثير الانتباه. عبر الخرائط والرصد جرى التأكد من سلاسة انتقال مركبات المشاركين في «الانقلاب»، وتحديد مواقع الخصوم والمقاومين المحتملين.
حين أعلن الغويل عن عودته على شاشات التلفزيون، بدأ رجال السراج في البحث عن رئيسهم. أين هو الآن؟ هل غادر البلاد؟ هل ما زال في القاعدة البحرية في أبو ستة؟ لقد انقلب الغويل، ابن مدينة مصراتة، وعاد بحكومته للواجهة بعد أن كانت قد اختفت في الظل منذ قدوم السراج إلى طرابلس في مارس (آذار) الماضي. وقال السويحلي، وهو ابن مدينة مصراتة أيضا: «لقد تلقينا طعنة من الظهر»، وفقا لمصدر مقرب منه. وهو يعتقد أن ما قام به الغويل لا يمكن أن يحدث إلا بضوء أخضر من قوى غربية. وساد اعتقاد مماثل بين قادة ميليشيات مصراتية منخرطة في حرب «داعش» في سرت.
أميركا ودول غربية أخرى، إضافة إلى المبعوث الخاص من الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا مارتن كوبلر، نددوا بما قام به الغويل، لكن الواقع الآن هو أن رئيس «حكومة الإنقاذ أثار زوبعة كبيرة»، كما يقول أحد قيادات مجلس السراج. ومع أن الحركة الانقلابية لا يبدو أنها أصابت المجلس الرئاسي ورجاله في مقتل، إلا أن الغويل وعددا من أعضاء المؤتمر الوطني يقومون في الوقت الحالي بغزل خيوط اللعبة السياسية، بعد نقضها. وفتحوا شهية القيادات الموجودة في شرق البلاد، ومعظمها قيادات مناوئة للسراج، لبدء الحوار من الصفر. ويقول عميش: «اتفاق الصخيرات انتهى».
جاء كل شيء بشكل لم يتوقعه كثير من أنصار السراج، مع أن أحد هؤلاء القادة يقول لـ«الشرق الأوسط»: كنا نعلم أنه يوجد تحرك ما.. كنا نتوقع حدوث شيء.. لكن، كما ترى، شوارع طرابلس الآن هادئة والسيد السراج وحكومته يواصلون العمل. ما جرى في الحقيقة «فرقعة إعلامية» وليس انقلابا بالمعنى الحرفي للكلمة. الناس في خارج البلاد يعتقدون أن «الحرس الرئاسي» قوات ضخمة، بينما أغلبهم مجرد مجموعات لشبان تحت التدريب.
لقد بدأ تحرك الموالين للغويل مع مساء الجمعة. كانت دورياته تجوب شوارع المدينة التي يعيش فيها نحو مليوني ليبي في ظروف عصيبة بسبب التدهور الاقتصادي والأمني. تقف مع الغويل، الذي تولى مسؤولية حكومة الإنقاذ منذ 2014 شخصيات تكره البرلمان، وتكره المشير حفتر. لهذا يبدو مستقبل إجراء أي مصالحة جديدة في البلاد أمرا بعيد المنال. إلا أن عميش يقول إنه توجد مشتركات للتوافق، مع إبعاد مسألة الخوض في الأسماء الجدلية عن المفاوضات المتوقعة.. «نحن لا نتحدث مع المؤتمر الوطني عن شخص ولكن عن مؤسسة عسكرية.. والبلاد في أمس الحاجة لهذه المؤسسة».
ومن جانبه يسعى رجال في المجلس الرئاسي لمعرفة ملابسات ما جرى. بدأ التحقيق في الأمر في الوقت الراهن. قبل «الانقلاب» بأيام أغلق رئيس المخابرات في العاصمة، هاتفه، واختفى عن الأنظار. لم يظهر في طرابلس. ربما كان في إجازة. لكن حين أعلنت حكومة الإنقاذ عن نفسها، بدأ كل طرف من أطراف المجلس الرئاسي يبحث في الموضوع. عموما يدرك من تعرضوا للخدعة أن تصرفات من بعض القادة لم تكن طبيعية.
هناك تساؤل آخر يطرح نفسه لدى شخصيات معتبرة في المجلس الرئاسي عما إذا كان أحد كبار المسؤولين المهمين في الحرس الرئاسي الموالي للسراج، قد التقى بمبعوث غربي في دولة مجاورة لليبيا قبل يوم واحد من «الانقلاب». لقد انضم الحرس الرئاسي لحركة الغويل. بيد أنه توجد إجابة مغايرة تقول إن هذا المسؤول غادر يوم الخميس الماضي البلاد بالفعل لكن لعلاج زوجته وإنه لا يوجد ما يؤكد أنه التقى بأي مبعوث غربي. على كل حال يبدو أن جميع التساؤلات مطروحة على طاولة بوستة هنا.
في لحظة معينة يمكن العودة إلى تفاصيل لم يكن في وسعك مراقبتها في خضم الأحداث اليومية الكثيرة. الآن يوجد معنى لرسالة بعث بها من خارج البلاد، قيادي ليبي في التنظيم الدولي لجماعة الإخوان. أخبر فيها مكتب السويحلي، ظهر يوم الجمعة، أن هناك أمورا غير طبيعية تجري تحت الأرض في طرابلس. كانت إجراءات «الانقلاب» على المجلس الرئاسي تجري في الخفاء على قدم وساق. قاربت على الاكتمال. وقتها كان رد القائمين بشؤون مجلس الدولة أنه ليس هناك شيء وأنه لا أحد يمكنه أن يقوم بهكذا تحرك. حتى لو كان مكتب السويحلي قد أخذ هذا التحذير على محمل الجد، فإن الوقت كان قد فات.
قيادات المجلس الرئاسي وباقي القيادات المعاونة كانوا حتى يوم الجمعة ما زالوا يخوضون في مناقشات جدلية عن الحرب التي يشنونها ضد «داعش»، وما فيها من مشاكل. اتهامات تتطاير في وجوه عدد من الزعماء. كل الطاقات موجهة إلى سرت لا إلى طرابلس. غرفة عمليات «البنيان المرصوص»، وهي تجمّع من كتائب وميليشيات معظمها من مصراتة، تقاتل «داعش» في سرت منذ مايو (أيار) الماضي مشغولة بتقارير تأتي من الجبهة عن تزايد قوة التنظيم المتطرف رغم الضربات الأميركية ورغم كثرة قتلى محاربي مصراتة.
أكثر ما كان يشغل قادة «البنيان المرصوص» تقارير وردت فجر يوم الجمعة.. يوم الانقلاب نفسه. هذه مجرد حلقة في سلسلة تثير غضب المحاربين على الجبهة، لأن التقارير تشير إلى تعرض قواتهم لضربات من القوات الأميركية نفسها، وقول الأميركيين في كل مرة إنها كانت على سبيل الخطأ. في فجر ذلك اليوم أيضا تعرضت مجموعة من مقاتلي «البنيان المرصوص» لهجوم على جبهة «داعش» أسفر عن مقتل 40 وإصابة ما يزيد عن 100 بجروح.
أصبحت خلافات قادة مصراتة تتزايد. تفكير ومناقشات تدور كلها حول تدهور وضع الحرب. الغضب كبير. أخذ بعض القادة يزعق طالبا من السراج الاتصال بالولايات المتحدة لكي يتم وقف تدخلها في الحرب ووقف مساعدتها لـ«البنيان المرصوص»، لأن وجود الطائرات الأميركية في سماء سرت يأتي بنتائج عكسية.
على أرضية المجلس الرئاسي المشوشة، نسّق «الانقلابيون» مع كوادر من «القوة المتحركة» إحدى القوات الرئيسية التي يعتمد عليها مجلس السراج في العاصمة. جاء المساء والكل ينتظر ساعة الصفر. الكل يخشى انكشاف العملية. يقول مصدر مقرب من الغويل: «كنا حريصين على أن كل شيء يسير بسلاسة. كان هناك يأس من جدوى السراج ومجلسه.. لا توجد مرتبات ولا أمان ونزيف الخسائر في سرت لا يتوقف».
في المقابل يشير مصدر في ميليشيات طرابلس إلى خلافات أكثر عمقا تتعلق بمن يملكون السلاح على الأرض في المنطقة الغربية من ليبيا. على سبيل المثال هناك من بين الموالين للغويل، رجل يشغل عضوية المؤتمر الوطني. كان الرجل زميلا لعبد الحكيم بلحاج، الرئيس السابق للمجلس العسكري لطرابلس، وكان زميلا له أيضا في الجماعة الليبية المقاتلة التي تأسست في ثمانينات القرن الماضي في أفغانستان. لهما سنوات من العمل القتالي المشترك في الجبال. الآن يبدو أنهما على خلاف وفقا للمصدر نفسه.
ويقول: منذ دخول السراج إلى طرابلس كرئيس للمجلس الرئاسي، ومعه نواب بعضهم من الإخوان ووزراء بعضهم من الجماعة المقاتلة، بدأت الخلافات تدب بين الرجلين. انحاز بلحاج إلى السراج، وأصبح يميل أكثر إلى التعاون مع جماعة الإخوان المسلمين وتنظيمها الدولي، ويقيم معظم الوقت خارج البلاد.
أما زميله القديم، الذي أشرف على معظم خطة «الانقلاب» الأخير، فكان معارضا لمجلس السراج منذ البداية، وكان يتحين الفرص للخلاص منه. وتمكن في الأسابيع الأخيرة من جمع شتات الجماعة الليبية المقاتلة، واستقطاب قيادات دخلت في خلافات مع بلحاج، وهي قيادات تمتلك قوات تتمركز في طرابلس وخارجها. جرى جمع هذه القوات وتحريكها في مناطق معيتيقة وغوط الشعال والقبة السماوية وميدان الشهداء.
بعد صلاة ظهر الجمعة رجع أهالي العاصمة إلى بيوتهم سريعا كما اعتادوا أن يفعلوا منذ تأزم الموقف في العاصمة في الشهرين الأخيرين. الشوارع هادئة. استمر انتشار قوات «الانقلابيين». جنود قوات الحرس ينتظرون الأوامر للسيطرة على مقار المجلس الرئاسي ومجلس الدولة، سواء التي تحت إمرتهم بالفعل أو تلك الموجودة تحت حراسة قوات أخرى. جرى التنسيق مع غالبية الأطراف.
مسؤول في مجموعة «الانقلابيين» يقول لـ«الشرق الأوسط» إنه، وقبل أن يتم الإعلان عن عودة الشرعية (أي الانقلاب) تأكدت الأطراف أنه لن تكون هناك أي مقاومة، مشيرا إلى أن الغويل جلس في ثقة وهز ساعته في معصم يده وطلب شرب كوب من العصير. وقال المصدر نفسه: سأل أحد الضباط الغويل: سيدي.. هل تشعر بالتوتر؟ فقال مستنكرا: التوتر.. لا يوجد توتر.. كل شيء يسير وفقا للخطة بالضبط.. مثل هذه الساعة. حتى من كنا نخشى من ترددهم رحبوا بالفكرة. ويريدوننا.
ثم سأله مرة أخرى عن الموقف المتوقع من الدول الغربية، فطلب منه الغويل أن يطمئن، في إشارة إلى أن كل شيء محسوب حسابه. ثم أفرغ الكوب ووضعه على المنضدة كأنه يضع بيدق الحسم في لعبة شطرنج.
وفي الجانب الآخر يبدو أن الرسالة «الإخوانية» العاجلة التي وصلت من خارج البلاد لمكتب السويحلي، لكي يأخذ حذره من تحرك للغويل والمؤتمر الوطني، جرى التعامل معها كالتالي، وفقا لرواية مصدر يعمل مع الرجل الذي يعد حفيدا لأحد زعماء مصراتة التاريخيين: «أي غويل، وأي مؤتمر وطني.. الأمور محسومة. المجتمع الدولي يقف مع المجلس الرئاسي ولا يمكن لأي مغامر أن يخرج ليدمر اتفاقيات رعتها الأمم المتحدة. حربنا في سرت محط اهتمام العالم».
قبل ساعات من إعلان «الانقلاب» كان العضو الليبي في التنظيم الدولي لجماعة الإخوان، ما زال يبحث عن الدكتور محمد صوان، رئيس حزب العدالة والبناء الإخواني. وأبلغ عددا من رجاله في مكتب الحزب بضرورة التواصل معه لـ«أمر هام». لكن جرى إخطاره بأن هاتف صوان مقفل. يقول المصدر: كانت هناك محاولات حثيثة على ما يبدو من بعض الداعمين الإقليميين لجماعة الإخوان في ليبيا ولمجلس السراج الرئاسي، بأن يأخذوا حذرهم من انقلاب قادم.. «حتى مساعد صوان في الحزب، واسمه منعم، كان هاتفه مغلقا في هذا الوقت الحرج».
برقيات الإخواني الدولي لم تكن تشير إلى علمه بساعة الصفر. مجرد حالة هلع في لحظات أخيرة تدل على أن الوقت أزف ولا بد من التصدي لـ«الانقلاب»، لكن لم يكن هناك من يتلقى هذه التحذيرات. كما يقول المصدر، مضيفا: «باختصار.. في توقيت معين بدا المجلس الرئاسي وحيدا لا يدخل إليه خبر ولا يخرج منه خبر».
وقرب طريق الشط وأثناء مروره بأحد المقرات التابعة للمجلس الرئاسي في حدود الساعة الرابعة عصرا لاحظ مساعد لنائب رئيس المجلس الرئاسي، أحمد معيتيق، عدم وجود قوات الحراسة في مكانها المعتاد. يقول مصدر مطلع على ما جرى إنه تم إبلاغ معيتيق بالأمر فطلب من مساعده الاتصال برئيس قوة الحراسة، لمعرفة سبب اختفاء الحراس، فأخبره أن هاتفه لا يرد، وأنه لا توجد مؤشرات على وجود أي قلق. ويضيف: لكن معيتيق بدأ يشعر بقلق حقيقي حين بدأ يجري، بنفسه، اتصالات برجاله ولا يرد عليه أحد من المخابرات ومن الحرس الرئاسي.
وبحلول الساعة الخامسة والنصف تقريبا كان يبدو أن مكتب السراج قد تلقى أخيرا معلومات بوجود تحرك ضده في طرابلس لا ينبغي التعامل معه إلا بكل جدية. لكن كل ما كان يمكن عمله في تلك اللحظات الأخيرة هي أن يطلب من مساعده، ويدعى مروان، أن يجمع له أوراقه المهمة من مكتبه في قاعدة أبو ستة، ويضعها في مكان آمن. هذا ما حدث بحسب مصدر مقرب من المجلس الرئاسي، مشيرا إلى أنه في هذه الدقائق الصعبة كان السويحلي، هو الآخر، قد أحيط علما بأن «الواقعة قد وقعت»، وأن الإعلان عنها سيكون بعد دقائق و«لا شيء يمكن عمله لوقفها».
أما معيتيق، فيوضح المصدر أنه في تلك الدقائق كان ما زال يحاول التواصل مع المخابرات والحرس الرئاسي أو مع قيادات القوة المتحركة لكن لم يرد عليه أحد إلا بعد أن بدأت قوات المؤتمر الوطني والغويل تفرض سيطرتها على شوارع طرابلس. وجاءته الأخبار تترى وكل منها أسوأ من الآخر. يقول المصدر إن معيتيق، وهو من مصراتة وقريب للسويحلي، بدأ يرد في لهجة غاضبة على رجاله الذين خانوه: «هل هذا هو الطريق الذي اخترتموه.. حسنا. سنرى العاقبة».
بشكل عام كان هناك شعور بالمرارة وشعور بالمؤامرة. كان المجلس الرئاسي يضع يده على الطعنة التي أصابته من الخلف. كما أن الحدث كان شديد الوطأة على قيادات ذات أصول مصراتية، لأن الغويل نفسه يعد من أبناء المدينة. كما أن القوات التي يعتمد عليها السويحلي إما أنها انضمت إلى «الانقلابيين» أو أنها تحارب «داعش» في سرت أو أنها تستعد لشن حرب على الجيش في بنغازي انطلاقا من تمركزاتها في منطقة الجفرة جنوبا.
أما في طرابلس فكانت القوات الموالية للغويل تواصل الهيمنة على مقار للمجلس الرئاسي دون مقاومة تذكر. واقتحمت مكتب السويحلي. بعد الساعة السابعة مساء بتوقيت طرابلس كان كل شيء قد انتهى. وفقا لمصدر عسكري أدى انقلاب الغويل إلى شق صفوف مصراتة ذات القوة العسكرية الكبيرة، وهي في معمعة الحرب على «داعش».
يعتقد بعض القادة العسكريين أن أكثر القوى التي يمكن أن تسهم في وضع نهاية للانقسام في طرابلس بين مجلس السراج وحكومة الغويل هي القوات المعروفة بـ«لواء الصمود» التي بدأت في حشد عناصرها في اتجاه العاصمة، بالإضافة إلى الميليشيات الطرابلسية، مثل «قوات كاره» و«قوات التاجوري». ولا يوجد اتفاق أصلا بين مثل هذه المجاميع المسلحة. وهناك خصوم آخرون لكل هؤلاء، من بينهم خلايا «داعش» النائمة في العاصمة، وقوات من يطلق عليهم «المداخلة» الذين يعملون كجهاز شرطي مستقل، وغيرهم من ميليشيات يمكن أن تنحاز لهذه الكفة أو تلك.
ومع ذلك تجاوز السراج سريعا ما حدث الجمعة. ظهر يوم الاثنين عبر شوارع العاصمة وهو في طريقه إلى مقر وزارة الداخلية، حيث استقبله عدد من قادة الوزارة. وقال في كلمته التي ألقاها على خريجين جدد إن هناك إجراءات قضائية لضبط وإحضار «المارقين» الذين قاموا باقتحام مقرات للدولة. يسعى السراج على ما يبدو، حاليا، لإعادة هيكلة الوزارات سريعا لتلافي تكرار ما حدث.
من جانبه يوضح وزير الداخلية، الدكتور الخوجة، قائلا في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إن «حكومة التوافق الوطني المقترحة تعمل، والأمور طبيعية.. تعمل من مقراتها وبشكل هادئ ولا يوجد قلق». ويضيف: «نحن نضع أمام أعيننا بسط الأمن في طرابلس وتوفير الأمن للمواطنين وهذه من الأولويات.. وكل يوم نتقدم وننجح».



السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.