جماعة «جند الأقصى» حالة لافتة على الساحة الراديكالية في سوريا

أسسها عبد العزيز القطري كفصيل «مستقل» عام 2013

عناصر من جند الأقصى («الشرق الأوسط»)
عناصر من جند الأقصى («الشرق الأوسط»)
TT

جماعة «جند الأقصى» حالة لافتة على الساحة الراديكالية في سوريا

عناصر من جند الأقصى («الشرق الأوسط»)
عناصر من جند الأقصى («الشرق الأوسط»)

أدَّت الاشتباكات بين حركة «أحرار الشام» وجماعة «جند الأقصى» في شمال سوريا إلى مبايعة هذه الأخيرة لجبهة «فتح الشام» التي انفصلت أخيرًا عن «القاعدة». وهذه مبايعة قد يُقرأ بين سطورها جملة من الأمور من بينها السعي إلى إعادة تمركز الساحة المسماة بـ«الجهادية» في سوريا وتوحّد المجموعات المتشددة الصغيرة على المدى البعيد.
يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري أعلنت «جبهة فتح الشام» وحركة «أحرار الشام» عن نص الاتفاق النهائي فيما يتعلق بالقتال الذي دار مؤخرًا بين «الأحرار» ومن معها من الفصائل من جهة، وتنظيم «جند الأقصى» من جهة أخرى. ودفعت هذه المعارك «جبهة فتح الشام» إلى التدخل عبر مفاوضات، سعيًا لإنهاء القتال وضم جماعة «جند الأقصى» إلى صفوفها.
ولقد تضمن الاتفاق أن يلتزم الجميع بالوقف الفوري والمباشر لإطلاق النار وفتح جميع الطرق المغلقة، إضافة إلى الإفراج الفوري عن جميع المحتجزين خلال 24 ساعة، باستثناء من عليه دعاوى ارتباط بتنظيم داعش الإرهابي المتطرف. كذلك نص الاتفاق على تشكيل لجنة قضائية مؤلفة من قاضيين من «جبهة فتح الشام» وآخرين من «أحرار الشام» والفصائل التي معها، وخامس مستقل، وذلك للنظر في الدعاوى المقدمة من أي طرف، وتجتمع اللجنة خلال مدة أقصاها 48 ساعة.
وأشار الاتفاق، إلى اعتبار بيعة «جند الأقصى» لجبهة «فتح الشام»، حلاً لـ«جند الأقصى»، واندماجًا كاملاً في «فتح الشام»، منوهًا إلى أن هذا الأمر «يعني منع إعادة تشكيل هذا الكيان مستقبلاً بأي شكل أو مسمى جديد». وأخيرًا أكد الاتفاق على أن يعود الوضع في بلدة سرمين بريف محافظة إدلب، في شمال غربي سوريا، إلى ما كان عليه قبل الحوادث الأخيرة، وتتولى «فتح الشام» إدارة الحواجز التي كانت لجماعة «جند الأقصى»، وتخضع المناطق الأخرى للاتفاق المبرم بين الطرفين.
* الصفقة بعد القتال
أتت هذه الصفقة – كما سبقت الإشارة – في أعقاب اشتباكات دامية بين «جند الأقصى» و«أحرار الشام» دارت لعدة أيام متتالية في المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة في الشمال السوري. وكانت سلسلة المعارك هذه قد اندلعت عندما حاول «جند الأقصى» اختطاف ضابط أمن من «أحرار الشام» في بلدة سراقب بمحافظة إدلب. وأسفرت هذه العملية بالذات عن مقتل شقيقه وزوجته، كما أصيب شخص آخر وهو في حالة حرجة. ومباشرة بعد ذلك، تفجّرت المعارك في محافظة إدلب بين «أحرار الشام» و«جند الأقصى» وكذلك في محافظة حماه، وخلّفت، وفقا لمصادر محلية، مئات الجرحى وعشرات القتلى من الجانبين، بما في ذلك قادة تجمع «أحرار الشام».
* ما هي «جند الأقصى»؟
تعتبر «جند الأقصى» جماعة راديكالية تضم مقاتلين أجانب وسوريين، وهي تنشط ميدانيًا في المقام الأول على جبهات محافظتي إدلب وحماه بشمال غربي سوريا. وحسب المعلومات المتوافرة، أنشئت هذه الجماعة أصلا كمجموعة مستقلة ظاهريًا في أوائل عام 2013، واختارت في بداياتها أن تلتزم الحياد في النزاع الذي دار بين «جبهة النصرة» و«داعش». ووفق الشيخ حسن دغيم، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» فإن جماعة «جند الأقصى» - التي أسست عام 2013 - اختارت ألا تلتحق لا بـ«جبهة النصرة» ولا بـ«داعش». أما الشخصية التي كانت وراء تأسيس هذه الجماعة فهي الشيخ عبد العزيز القطري، الذي قاتل مع تنظيم القاعدة في أفغانستان وكان مقرّبًا من زعيمي «القاعدة» أسامة بن لادن وأيمن الظواهري.
ووفق المعلومات تندرج آيديولوجية «جند الأقصى» ضمن معسكر التشدد الراديكالي وتعكس رؤية القطري. وراهنًا «الأمير» الحالي لهذه الجماعة هو أبو ذر النجدي الحارثي، السعودي الجنسية الذي سبق أن اعتقل في المملكة العربية السعودية لفترة، قبل أن يسافر إلى سوريا. كما تستعين جماعة «جند الأقصى» أيضا بشخص يطلق على نفسه اسم «ابن تيمية» لاتخاذ القرارات الحاسمة. وهنا، يشير خبير إسلامي - تحدث لـ«الشرق الأوسط» شريطة التكتم على هويته – إلى أن «جند الأقصى» عبارة عن جماعة «تكفيرية قريبة آيديولوجيًا إلى داعش».
* هوية الجماعة دينيًا
تركِّز الدعاية التي تنشرها جماعة «جند الأقصى» على ضرورة التديّن سنيًّا لمقاومة ما تسميه «دولة بشار» وحماية ما تصفه بـ«الأمة السنّية» في سوريا والعراق واليمن. وهذا الخطاب ينسجم مع المطالبات التاريخية الراديكالية المتشددة للتوحّد في مواجهة الاضطهاد الديني والقمع الذي تمارسه بعض الحكومات في العالم الإسلامي. والظاهر أن جماعة «جند الأقصى» لا توجِّه أجندتها القتالية ضد الغرب، بل هي تركّز من ذلك على ضرورة القتال في سوريا قبل كل شيء.
من جهة أخرى، تشير لبنى مرية في مقال نشر من مركز الأبحاث الأميركي المجلس الأطلسي، أنه «خلافًا لأحرار الشام، لا تعتبر جماعة (جند الأقصى) نفسها جزءًا من الانتفاضة السورية ضد استبداد نظام الأسد. فهي مثل جبهة النصرة وداعش، لا تعترف بسوريا ككيان وطني، ولكن كجزء من خلافة أكبر وقد استفادت من الحرب لتحقيق حلمها هذا».
وفي عام 2015، التحقت جماعة «جند الأقصى» بـ«جيش الفتح»، وهو التحالف المسلّح الواسع الذي ضم «جبهة النصرة»، وساعد على كسب معارك رئيسية في شمال غربي سوريا. فخلال معركة مدينة إدلب مثلاً، فجّر عدد من الانتحاريين من تنظيم «جند الأقصى» أنفسهم في نقاط تفتيش تابعة لنظام الأسد، ما فسح المجال لمقاتلين آخرين بتوجيه ضربات قاضية أدت إلى تحرير إدلب على أيدي «جيش الفتح» في غضون أيام فقط.
ولكن مع هذا، في وقت لاحق من ذلك العام، انشقت «جند الأقصى» عن «جيش الفتح» بعد رفضها التوقيع على اتفاق لمكافحة «داعش»، ما أدى إلى اعتبار الجماعة و«داعش» بمثابة «إخوة وحلفاء». ومنذ ذلك الحين أيضا و«أحرار الشام» على خلاف مع «جند الأقصى».
* اختراق «داعشي»
وفي السياق نفسه، اتهمت مصادر في المعارضة الوطنية والإسلامية في سوريا جماعة «جند الأقصى» بإقامة علاقات مع «داعش»، وشنت هجومًا في المناطق التي تسيطر عليها الجماعة. وعلى الرغم من أن معارضي «جند الأقصى» يتهمونها وما زالوا بخدمة أهداف «داعش» وزعيمها أبو بكر البغدادي، فإن قادتها لطالما عبروا عن ولائهم لتنظيم القاعدة، ففي 31 يونيو (حزيران)، أصدر «جند الأقصى» بيانا امتدح تحوّل «جبهة النصرة» إلى جبهة «فتح الشام» معتبرًا أن قادة «القاعدة» لا بد أن رأوا أن هذه الخطوة ستصب في «مصلحة» الناس والنضال في سوريا. ومع ذلك، يُعتقد أن العناصر العادية داخل «جند الأقصى» قد تدين بولائها لـ«داعش»، ولا سيما أنه انتشرت بعض الشائعات التي تحدثت عن تعرّض «جند الأقصى» لاختراق من «داعش» وذلك من أجل مهاجمة شخصيات «أحرار الشام» وغيرها داخل فصائل المعارضة. وفي هذا السياق، أظهر شريط فيديو بث أخيرًا مقاتلاً من «جند الأقصى» وهو يعترف باستهداف المعارضة بهجمات لحساب «داعش». ولقد زُعم أن عناصر من «جند الأقصى» شنوا بالفعل هجومًا بالتزامن مع مسلحي «داعش» لقطع الطريق السريع لفترة وجيزة بين مدينتي حلب وحماه عند بلدة خناصر في فبراير (شباط) الماضي، وأتت عمليات الإعدام التي نفذها «جيش الفتح» بحق بعض مقاتلي «جند الأقصى» في مدينة إدلب خلال يناير (كانون الثاني) بتهمة تنفيذ اغتيالات سياسية، لتظهر مدى تشكيك المعارضة السورية بعناصر هذه الجماعة المتطرفة.
في أي حال، من خلال الانضمام رسميًا إلى «فتح الشام»، تأمل جماعة «جند الأقصى» ومن يحالفونها الآن بوضع حد للاقتتال الدائر بين الفصائل المعارضة. وفي هذا السياق كان الدكتور عبد الله محمد محيسني، وهو رجل دين له تأثير كبير وعلى صلة بتنظيم القاعدة في سوريا، قد ادعى أنه ساعد في التوسط للتوصل إلى اتفاق.
ومن جهة ثانية، فإن وضع حد للأعمال العدائية بين «أحرار الشام» و«جند الأقصى»، ومن ثم انضمام هذه الأخيرة إلى «فتح الشام» («جبهة النصرة» سابقًا) يسلط الضوء على تطورات الساحة القتالية الراديكالية في أراضي سوريا، وأيضًا على مدى واقعية «فتح الشام» التي تسعى إلى توحيد، بقدر المستطاع وبأي ثمن، مختلف قوى المقاتلين المعارضين الراديكاليين.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.